لم تستطع إيران إخفاء مصالحها الحقيقية من الحرب التي شنّتها روسيا ضد أوكرانيا. حاول الخطاب الرسمي أن ينأى بنفسه في بداية العمليات العسكرية عن موقف حاد وحاسم في دعم موسكو برفض مبدأ الحرب والدعوة البليدة الى الحوار والتسوية.
ذهبت طهران إلى حدّ طرح نفسها وسيطاً لرأب الصدع بين المتقاتلين، تماما كما اقترحت لوقف الحرب في اليمن. لكن عوامل وحيثيات أملت على القيادة الإيرانية التورط في الهجمات العسكرية ضد أوكرانيا إلى جانب روسيا.
ينخرط الحلف الغربي علناً في دعم أوكرانيا بصفتها دولة تتعرض للهجوم والاحتلال من قبل روسيا. تعتبر أوروبا أن الحرب الروسية هي ضدها وإن كان ميدانها أوكرانيا.
وتعتبر المنظومة الغربية أن الحرب هي ضد منظومة القيم الحديثة التي تحترم سيادة الدول والقانون الدولي، أي أنها حرب ضد نصوص الغرب ومعنى وجوده. وفق ذلك يقوم الدعم الغربي لأوكرانيا، وعلى أساسه يتم الجدل في واشنطن وبرلين أو باريس ولندن.
لاشيء مباشراً يهدد إيران عسكرياً من حرب قررها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ضد أوكرانيا. للحرب أسبابها العقائدية الروسية غير المتقاطعة مع العقائد التي تحكم طهران وتتحكم بأجنداتها.
وللحرب حجَجُها الجيوستراتيجية في قلب أوروبا وهي تختلف في الجغرافيا والسياسة عن مشاريع إيران في الداخل والإقليم والعلاقة مع العالم. ولئن خرجت منابر في إيران تطالب بإدانة الحرب الروسية وعدم دعم موسكو، إلا أن صاحب القرار في طهران ارتأى اتجاهاً آخر ينقل البلد من نزاع مع العالم بشأن البرنامج النووي إلى نزاع ضد الغرب من داخل المسرح الأوكراني.
لا تملك إيران ترف ما تملكه الصين في التمسك بموقف محايد رافض للحرب غير معترف بما تضمه روسيا من أراض أوكرانية منذ القرم حتى الأقاليم الأربعة.
فإيران، التي برعت في اللعب على حبال تحالفاتها “الاستراتيجية” مع روسيا والصين، تبدو مضطرة إلى عدم التلاعب مع حليف روسي لم يبخل عن طهران بالدعم في المحافل الدولية والخرائط الاقتصادية والميادين العسكرية. والواضح أن تحالف الدم والنار في سوريا بين الجهدين العسكريين الروسي والإيراني لم يكن تفصيلاً تكتيكياً محصوراً بأجندات موسكو وطهران في دعم دمشق، بل بات، في التفصيل الأوكراني، امتحان وحدة حال ومصير.
يعبّر موقف طهران المعادي بالنار لأوكرانيا، وبالتالي لكل العالم الغربي، عن ربط إيران مصيرها ومستقبلها بمآلات ما ستنتهي إليه الحرب في هذا البلد. الأمر يستفزّ أسئلة بشأن أسباب اندفاع إيران إلى ذلك الانحياز الميداني لدعم جيش روسي يغزو بلداً يفترض أن إيران لا تعاديه تاريخياً وتنسج علاقات دبلوماسية معه.
لا تزال طهران تنفي رسمياً ضلوعها المباشر بالحرب، وتكتفي بالإقرار باحتمال استخدام روسيا مسيّرات وصواريخ إيرانية عائدة الى عقود سابقة على هذه الحرب. غير أن التورط أصبح بالنسبة الى كييف وداعميها من ثوابت المشهد العسكري ويتجاوز، للمفارقة، بمستويات التورط المحتمل لدولة حليفة لروسيا مثل بيلاروسيا.
لم تقبل دول الاتحاد السوفياتي سابقاً مثل كازاخستان وطاجكستان وأوزبكستان وأذربيجان وغيرها اتخاذ أي موقف مؤيد لروسيا في حربها ضد أوكرانيا. لا بل أن دولة مثل كازاخستان جاهرت برفض تلك الحرب خشية أن تكون نموذجاً يحتذى في معاملة روسيا في المستقبل للبلدان التي استقلت عن الاتحاد السوفياتي بعد اندثاره. وإذا ما أضفنا موقف بيلاروسيا إلى موقفي كوريا الشمالية وسوريا، فإن روسيا بقيت وحيدة في حربها تحظى بـ”التفهم” من دول صديقة. في المقابل فإن إيران تخوض الحرب مع روسيا في أوكرانيا.
تحتاج إيران التي تعاني من أزمة داخلية وجودية إلى التعلق بأي حبال قوة حتى لو كانت ركيكة غير مضمونة. يجتمع الحراك الشعبي المندلع منذ مقتل الشابة مهسا أميني في أيلول (سبتمبر) الماضي مع صراع خفي على السلطة في سياق الوراثة في موقع المرشد في البلاد. وتواجه طهران انسداداً لم تتوقعه في ملف المفاوضات في فيينا بشأن برنامجها النووي، ما يعقّد امكانات أن توفّر أي صفقة منافذ مال ووصل مع عواصم الاستثمار الكبرى في العالم. وتراقب طهران تصدّع كل ميادين النفوذ لديها في المنطقة ما يرفع من مستوى القلق بشأن ما قد تحمله أي تحولات دولية محتملة.
يفضح الغضب الذي لم تستطع طهران كبته إثر زيارة الزعيم الصيني شي جينبينغ السعودية في 7-9 كانون الأول (ديسمبر) الماضي، عن اكتشافها انهيار الورقة الصينية في استشرافها للقوة في مواجهة خصومها. تكتشف على الأقل أن الاتفاق الاستراتيجي الذي أبرمته طهران مع بكين في 27 آذار (مارس) 2021 لمدة 25 عاماً بقيمة 400 مليار دولار هو تفصيل في حسابات المصالح في الصين، وأنه سيسهل على بكين استنتاج مصالح أكثر أهمية مع السعودية والخليج والدائرة العربية.
وفيما تقوم أعمدة الحكم في طهران على القوة والأمن والعسكر والعقيدة لا على خرائط المنافع والاقتصاد وفق المدارس الصينية، فإن إيران تجد في عقائد موسكو وقواعد الحكم فيها في الأمن والعسكر ما بإمكانه أن يوفّر بيئة حاضنة لمدارس الحكم في إيران.
بدت الصين وروسيا، من داخل دول مجموعة الـ 5+1، داعمتين لاتفاق بين طهران وواشنطن ينتج اتفاقاً جديداً في فيينا، ومؤيدتين لموقف إيران الرافض لتوسيع التفاوض ليشمل برنامجها الصاروخي، غير أن صواريخ إيران ومسيّراتها باتت من عدّة الحرب في يد روسيا في أوكرانيا، أي حاجة لموسكو وليس لإيران فقط على نحو يسقط الملف عن طاولة أي مفاوضات.
وفيما تستطيع طهران التعويل النهائي على جعل برامج التسلّح لديها جزءاً من الترسانة المحتملة لروسيا، فإنها في الوقت عينه تعوّل على تطور علاقات روسيا والصين وتطور تفاهمات الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مع نظيره الصيني لجعل إيران مستفيدة من مظلة أمن دولية سترتفع فوق البلدين.