النقد: أداة ضد الاستبداد المؤدي إلى التوحش
ثمة ما يشبه المستحيل في معرفة تاريخ التوحش الذي مارسه البشر بين بعضهم البعض، إذ أنني كنت أحاول في الجزء الأول من هذه السلسلة والتي تحمل ذات العنوان أن أكون موضوعي بقدر الإمكان “بعض الباحثين يرى أن بدايتها مُنذ حياة الإنسان القديم أي قبل حادثة تناول آدم وحواء للثمر من شجرة المعرفة والذي من خلالها خرج كل من هما من النعيم وما تلاها من أحداث نقلتها العديد من المصادر التاريخية.”
ومن الجهل والغرور إدعاء أن هذا تاريخ التوحش هو حقيقة بداياته، هنا محاول أن أعطي مساحة للتفكير والبحث التاريخي.
أُدرك جيداً أن المشي في حقل معرفي ممتلئ في الألغام يُشكل خطورة بالغة لا سيما حينما تكون القراءة انطلاقاً من الاعتقادات الذاتية أو رُبما من خلال جدلية النص بُوصفه قراءة معرفية تراكمية وبين الأفهام المُتشكلة منه.
ويُصبح الأمر في غاية الخطورة حينما نأتي بالنص الديني من الكتب التي يؤمن بها الاتباع، لا سيما حينما يخضع إلى عملية الاستنطاق والذي من خلاله تتشكل العديد من الأفكار، والتشريعات، والأحكام، والمواقف التي ينطلق منها الاتباع.
التوحش الديني: النص، لغة الخطاب، الفتوى والتاريخ
من الممكن أن يتحول النص الديني إلى صورة مشابه من المفاعل النووي حينما يتم توظيفه في إتجاهات مُتعددة تخدم بالضرورة المؤيدين والداعمين له وجعله أمراً مقبولاً تحت مُبررات من السهل تمريرها على هيئة نص وظيفته الوحيدة أن يقوم بحراسة المنجزات والأهداف المُراد تحقيقها.
يبدو النص هنا كائن حي له القدرة على التلون وإخفاء معناه أو ربما يكون أقرب إلى اللامركزية يُشير الكاتب نذير الماجد في كتابه ضلال برو كرست في جزء سرير النص ” لا يوجد شيء نهائي، المعنى احتمال ينبذ التأكيدات واليقين الدوغمائي، بما أن القراءة فعل يكتنفه الصراع أو الحوار بين آفاق ثلاثة: المؤلف، النص، المتلقي.” هذا ما إذا أضفنا إلى تاريخية، وبيئة ولغة النص التي من خلالها تم ولادته.
وهذا ما أوقعني في شباك التوصيف والذي من خلالها يعتقد البعض أنني أتبنى بالضرورة قراءة أو موقف مُحدد من النص الديني فقد وصلني رسالة إستفاهم في محله يقول السائل “هناك فرق بين التوحش الديني وبين الفهم المتوحش للدين بمعنى تفسير النصوص الدينية تفسيراً متوحشاً، أما التوحش الديني فهو إيمان منكم أن الدين متوحش… فهل هذا هو قصدكم؟ ” إنتهى السؤال.
لن أتحدث هنا بمنطق الدفاع وكأن الكاتب والنص والمتلقي في قاعة محاكمة من العصور السابقة حيث يُحاكم الفلاسفة والمفكرون وأنا لست أحدهم، ولكن أدعي أن هناك أزمة حقيقة قديمة ذات طابع جدلي لم تُحسم.
لنذهب إلى الوراء قليلاً ونستحضر حادثة الاعتداء على الكاتب سلمان رشدي في شهر أغسطس 2022، التحقيقات الأمنية وما ورد في الصحافة أن ذلك الشاب لم يُقدم على هذا الاعتداء بسلاح أبيض لو لا وجود نص ديني ” فتوى ” من قائد الثورة الإيرانية الخميني كما نشرتها ال بي بي سي العربية ” أدعو كل المسلمين أينما كانوا في العالم إلى قتلهم دون تأخير حتى لا يجرؤ أحد على إهانة المعتقدات المقدسة للمسلمين من الآن فصاعدا”.
هذه الفتوى التي تشكلت في البيئة الدينية الاجتماعية في إيران وسيقات المرحلة التاريخية للثورة والمعرفة التراكمية التي يمتلكها الخميني أنتجت هذه الفعل الذي أدى إلى تغيير مسار حياة الكاتب سلمان رشدي.
وماذا عن إصدار حكم القتل بمن يغير دينيه مهما كان السبب؟ ينقل رجل الدين محمد صالح المنجد في موقعه الإسلام سؤال وجواب عن البخاري (2794) من بدل دينه فاقتلوه” وحديث آخر للبخاري ” لا يحل دم مرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن رسول الله إلا بإحدى ثلاث: النفس، بالنفس، والثيب الزاني والتارك لدينه المفارق للجماعة.” 6878 ورواه مسلم 1676، الشيخ المفيد في أحد مؤلفاته ” أوائل المقالات ص 44 ” اتفقت الإمامية: على أن من أنكر إمامة أحد الأئمة وجحد ما أوجبه الله تعال له من فرض الطاعة فهو كافر وضال مستحق للخلود في النار”.
وفي كتاب وسائل الشيعة لتحصيل مسائل الشريعة للمؤلف محمد الحر العاملي جزء 28 ص 312 ” محمد بن علي بن الحسين بإسناده عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب، عن محمد بن سلم، عن أبي جعفر في حديث قال: ” ومن جحد نبياً مرسلاً نبوءته وكذبه فدمه مُباح، قال، فقلت: أرأيت من جحد الإمام منكم ما حاله؟ فقال: من جحد إماماً من الله وبرئ منه ومن دينه فهو كافر مرتد عن الإسلام، لأن الإمام من الله ودينه من دين الله، ومن برئ من دين الله فهو كافر ودمه مباح في تلك الحال”.
أمام هذه النصوص التي تختلف هيئتها وكيفية تشكلها ومدارسها الإسلامية هل ذلك يعني أن الدين ذو طبيعة متوحشة؟ بكل تأكيد هذا أمر بحاجة إلى بحث موسع وموضوعي لأن في مقابل هذه النصوص هناك نقد وأراء تتحدث عن رفض قاطع لكل ما جاء وهم من أتباع هذه الدين ويعتقدون أن حكم المرتد هو حكم سياسي في أصل تشريعه التاريخي وليس ديني.
ومن المفكرين الذين يذهبون إلى أن حد الردة عقوبة سياسية وليست دينية الكاتب سامح عسكر من مصر يقول: في حوار مطول على موقع الحوار المتمدن في شهر أبريل 2017 سؤال “هل تتصور أن الله يدافع عن دينه بالقتل؟ ” ليؤكد حسب رأيه أن هذا الطرح إساءة إلى الخالق ” هذا إنتقاص بشري من الرب وإحياء للجاهلية عن عمد، فالجاهليون أرادوا قتل النبي ليس فقط لأنه جاء بدين مخالف، ولكن لأنه أراد الخروج منهم والتحريض- المعنوي عليهم، فتكاملت الصورة أن النبي تهديد لنفوذهم في الأخير”.
ومما ينبغي التأكيد عليه أن المفكر سامح عسكر ومن يتبنى قراءته التاريخية وموقفه هم في أغلب الأحيان حدود تأثيرهم وسلطتهم ليست واسعة الانتشار كما عند رجال الدين، وأن الرأي الديني السائد هو الأول، ومن باب الإنصاف والدقة أن من يتبنى النص الديني لا يذهب في حوار إلى أصل النص، بل يأخذك إلى تفاصيل التفاصيل التي من خلالها قد يصدر في حق من غير دينه أو ما شابه لا ينطبق عليه الحكم أو ربما يتراجع عن أفكاره الجديدة، ولسان الحال نحن ننظر في الأمر ونرى إذا كان المرتد أو الذي شتم الدين أو انتقده أو كذبه يستحق الحياة أم لا.
فهل الخالق أعطى للمخلوق حق إنهاء حياة إنسان لم يرتكب جريمة جنائية في حق أحد سوى أنه عبر عن إنسانيته بالتفكير وبالنقد وأحيان حينما يغضب لسبب ما يشتم هذا الدين أو ذلك؟
تاريخياً حصلت صراعات دموية بين مختلف الأديان والطوائف ولعلى ما حصل في أواخر عصر الإمبراطورية الرومانية حينما إنتشرت المسيحية وجد المسيحيون أنفسهم بين موقفين الأول: هو اتباع تعاليم المسيح التي تنص على عدم اللجوء إلى العنف كما جاء في إنجيل متا 52:26 “فقال له يسوع: “رد سيفك إلى مكانه. لأن كل الدين يأخذون السيف بالسيف يهلكون”.
والثاني: هو مواكبة الظرف السياسي وأستغلال حاجة الامبراطور الروماني رومولوس أوغستولس للتعاون مع الكنيسة من أجل توسيع نفوذها وتطوير اقتصادها” وفق بحث المؤلف علي الريس في كتابه الحرب المقدسة، يان هوس هو فيلسوف كتابي يُعتبر الأب الروحي للقس مارتن لوثر، إتهم بالثورة على الكنيسة الكاثوليكية في بوهيميا قتل بالحرق على الوتد بتهمة الهرطقة ضد الكنيسة.
لعل هذا التاريخ بكل تفاصيله وتناقضاته قد يعطي تفسيراً عن الصورة الحالية للغرب ودور الكنيسة المحدود، بل أصبح هناك تدخلات من قبل مؤسسات الدولة من أجل أن يُخضعوا الكنيسة لتنفيذ أجندتهم السياسية الرأسمالية، إضافة إلى وجود من يستفيد من هذه الحالة وينشأ بها إستثمار مالي ضخم كما هو في الحاصل مع “السيانتولوجيا” التي تصف نفسها أنها كنيسة وما هي إلا شركة تستثمر في المسيحية.
التوحش يا سادة تم إستخدامه حتى من أجل مُمارسة القمع الديني على الآخر، بل أحيان تجد التوحش داخل الانتماء الواحد لمجرد أم يتم طرح رأي مخالف للسائد يتم مُباشرة الهجوم عليه بصورة قاسية للغاية ابتداء من التكفير والتحقير الاجتماعي وبعض التيارات الفكرية تُنهي تكفيرها لكل من يخالفها بسفك دمه، وهذا ما يُحدثنا في التاريخ المعاصر القريب والموغل في القدم.
في السلسلة الثالثة القادمة سوف نكون على موعد مع محطات ومواقف مُتعددة قد تدفع المهتم في هكذا قضية إلى البدء في التفكير الجاد في حقيقة ما يجري في عالم اليوم وما جرى من صراعات تاريخية موغلة في التوحش بعضها طُبق في عصرنا الحالي فما بين قتل مواطن برصاص قناص لمجرد الاشتباه الأمني في منطقة ساخنة سياسياً وإستهداف وقود مركبته ليحترق بها دون أي جرم سوى أنه ولد في دين وطائفة لم يختارها ولم يبحث في حقيقتها، وأين له كل ذلك وهو مشغول في لقمة عيشه؟