لماذا كلّما ظننت أنّني ظفرت بفكرة هنا أو هنا، عند عِلج فلسفي أو متكلِّف شُعرور أو مُتخاور سياسي، إلاّ ووجدت لها أصلا نيتشيا؟ حتى الفلسفة الألمانية التي هجاها أيما هجاء فيلسوف العود الأبدي، ما كانت لتحقق ثورتها إلاّ بما رفدها به من تقنيات المقاومة لهذا التكرار والنزيف اللذين لم تكد تخرج منهما الفلسفة الألمانية حتى مع وجود كانط وهيغل. فالعظيمان بمثاليتيهما النقيضتين، باتا وجهين لعملة واحدة من منظور البارديغم الجديد الذي هزّ معمار الميتافيزقا الغربية، أعني إرادة القوة.
إذهب حيث شئت في اللّغو واللّوغوس الفلسفيين، ستجد نفسك في إمبراطورية نيتشه التي لم تغب عنها الشّمس. كن مثاليا، كن واقعيا، ستجد نفسك في حقل ممكنات ولا ممكنات التفكير النيتشي، فمن أين أتت هذه العبقرية إذن؟
سيكون من السهل أن نبحث عن صور هذه العبقرية في تاريخ الفلسفة، وتأويل هذا الاشتباك الكبير بين نصوصها وشخوصها، بين غواياتها وغاياتها، لكن مثل هذا لن ينفع في فهم عبقرية نيتشه التي تكمن في ما هو أبسط من ذلك بكثير.
إنّ عبقرية نيتشه تكمن في التّمرد، في قدرته على رؤية الحياة كما هي خارج تأثير الأطر المسبقة والسابقة عن التّأمّل المتحرر. إنّها فلسفة تمتحي أصولها من الشعر باعتباره تعبيرا صادقا يعيد إنتاج الحياة بمجازات تتجاوز واقعية الإنسان، بحثا عن الذروة والمنعطف في القلق الأقصى، في الرغبة في الانقلاب على إنسان طال زمانه على تفاهته وضحالته، إنسان لا مخرج من انحطاطه سوى بإعلان نهايته.
فمعالم الانقلاب على الميتافيزقا موجودة في الشعر، هي الفنّ، هي مقاومة الواقع بمجازاتنا. تتحوّل المفاهيم التي هي صناعة للفلسفة حسب تقرير دولوز، هي في لحظة انحطاط الكائن، سموم ترهن الدّماغ لممارسة لمرضية لا يمكن الشفاء منها إلأ بإرادة القوة التي ما كان قبل نيتشه أحد يبوح بها سوى الشعراء.
تستطيع أن تستبطن رحلة العود الأبدي، مسيرة ميلاد الإنسان الأعلى، في خبرتك إن كنت تتوق إلى ذلك. فأنت قد تبدأ جملا وتنقلب أسدا لتنتهي طفلا، كما أنّك تبدأ عبدا أسير يقظة غريزة الثّأر، لتتحرر بقوة النسيان.
ماذا يعني أن تكون حرّا في نظر نيتشه؟ ليس ذلك بأن تنتصر انتصار العبيد، بل بأن تدرك أصول ميلاد القيم العليا. فالعالم كله في مقام التواصف يحتفي بالقيم نفسها، لكنهم يختلفون في تقدير ومنشأ أصول تلك القيم، في قيمة القيم، في المحفّز الذي يختفي عادة ولكنه هو الذي يحدد مقاصد تلك القيم، عن إرادة القوة.
الإنسان الأعلى هو إنسان قطع كلّ تلك المسافة بينه وبين الإنسان الأدنى، المدين إلى قيم العبيد، كائن يعيش على وضعية النكوص. هذا الإنسان الذي تبشر به إنسانوية العهد الدولي المنحدرة من سُلالة أخلاق العبيد، مخرجات العبودية الجديدة، هو إنسان الشّفقة، إنسان لا يعدو أن يكون بالفعل قردا متطورا، كائنا تحت رحمة الإنسان،دعوني من كل هذا، سأدافع عن نفسي بما لديّ من أكوام الحجارة، أنا طفل الحجارة، اقضموا عهودكم.
في أطوار العود الأبدي تستدعي ما تريده وتفضله من أطوار الوجود ونقائض الحياة. قال لي صديقي وهو يحاورني: لو رجعت إلى الوراء لما فعلت كيت وكيت، ولكنت فعلت كيت وكيت، يا له من تعبير صادق لوصف وضعية الإنسان الأدنى.
إنّ الشيء الوحيد لو أنني عدت إلى الوراء، هو أن أعي تلك اللحظة أكثر من أي وقت مضى، واستمتعت بآناتها أيما استمتاع. لقد ظننت مثل ما يظنّ الإنسان الأدنى أن المستقبل سيكون أفضل، فحجب عنّا ما كنّا فيه من مباشرة الوجود بدهشة وإعجاب وبراءة الفرسان الصّغار. أذكر أنّني كنت أبحث في القيم عن أصولها. فحدسي الطفولي جعلني أميز بين ظواهر القيم، وأقرأ في ملامح الإنسان الأدنى هذا الخواء، خواء القيم من إرادة القوّة. وحين كنت أقرأ ذلك، خلو القيم من الجوهر، أشعر بخيبة الأمل وألوذ بالازدراء، ثم سرعان ما أمتطي حصانا من قصب وأختفي بين الأشجار.
تستطيع أن تعيش على إيقاع إرادة القوة التي تمنح القيم جوهرها الفاعلي، جوهرها البنّاء، كقيم لإنسان أعلى لا ينتظر مخرجات العهد الدولي، لا يقبل أن يكون موضوعا للشفقة. تستطيع أن تحقق شعورك الأقصى بقيم السادة التي تنطلق من قوة الوجود.
إنّ هذا الوعي بالوجود يحيلك على مخرجات كائن ينسى. إنّ النسيان ملكة ثورية، لأنّها وحدها تخرجك من كآبة إنسان مضطهد، من حالة العبيد وهم في تربّص متخم بمشاعر البغض والثأر، إلى كائن يمشي منتصب القامة على طريق الإنسان المتفوّق، إنسان يرى الوجود كما هو، ويقضم أسس العدمية من خلال ربط الاتصال بإرادة القوة.
يخشى الفلاسفة من نيتشه بقدر ما يحبه الشعراء. وخلال منتصف القرن العشرين الأخير، تمثّل جيل من الفلاسفة الفرنسيين هذه النيتشوية، وحاولوا أن يضفوا عليها لمسة فرنسية، اللمسة التي لفتت انتباه نيتشه نفسه حينما كان يهجوا جمود الفلسفة الألمانية. لقد تشرّبوا نيتشه والنيتشويين الألمان أنفسهم، فخلقوا مفارقة في مسار الفلسفة الحديثة لم يبق نيتشه ألمانيا خالصا، بل أصبح فرنسيا ثم سرعان ما تحوّل إلى شجى في حلق الميتافيزقا الغربية.
لن تستطيع فهم نيتشه، إن كنت غير قادر على الفطام من بديهيات الميتافيزقا الغربية، ومن مفاهيمها التي سجنت الدماغ البشري ردحا من الزمن.
يفجر نيتشه سؤالا له صلة بعلاقة الميتافيزقا بالحرية، إنّ هذا يقتضي سفرا جينيالوجيا في أصول القيم، وأيضا انفتاحا على الشعر للقبض على الوجود الخام. سيتتبع هيدغر أصول هذا المعنى بنَفَس جينيالوجي ليقبض على الوجود بوصفه انكشافا.
في المجال العربي، توجد فسحة لتجسير الفجوة بين الشعر العربي ونيتشه. هو شعر حافل بالقيم، لكنها قيم موصولة بإرادة القوة. الشعر والسيف، الليل والفرس، فانظر إلى المتنبّئ إذ يقول مجلجلا:
وَمُرْهَف سرْتُ بينَ الجَحْفَلَيـنِ بـهِ+++حتَّى ضرَبْتُ وَمَوْجُ المَـوْتِ يَلْتَطِـمُ
الخَيْـلُ وَاللّيْل وَالبَيداءُ تَعرِفُنـي+++وَالسّيفُ وَالرّمحُ والقرْطاسُ وَالقَلَـمُ صَحِبْت فِي الفَلَواتِ الوَحشَ منفَـرِداً+++حتى تَعَجّبَ منـي القُـورُ وَالأكَـمُ
الأخلاق الكانطية أخلاق تبدو في ذروتها هثماء منزوعة من إرادة القوة التي تمنحها معنى حقيقيا. الأخلاق وحدها لا تكفي من دون معرفة هذا الوازع.
لا شيء يصير في كوننا الذي فقدت فيه القيم وازعها الخفيّ. ومن ثنايا خفاء الوازع باتت الأخلاق عاجزة عن تحصين نفسها من السقوط في نقيضها،إنّ الشعر وحده كان حريا بأن يظهر هذا الوازع الخفي. في الشعر فقط ميّز العربي يوم كانت الخيل تعرفه والليل والبيداء، بين أخلاق الفرسان وأخلاق العبيد.
أليس من المفيد لو انشغل مخرجونا السينمائيون بفيلم عن نيتشه في الجزيرة العربية، الرجل الذي اهتم بعبقرية الجسد دون أن يحظى بجسد يناسب ولعه بالرجل المتفوق، يمشي الهوينا ثم فجأة يرفع هامته وعيناه تغالبان شعاع الشمس في صيف قائض، يدنوا شيئا فشيئا، كبصّاص وضعته الأقدار على طريق الصحراء، حيث يقع على فائض من عبارات إرادة القوة في المعلّقات؟ لم يكن بعد قد قرر كتابة جينيالوجيا الأخلاق ولا هكذا تكلم زرادشت، يقرأ لامرئ القيس:
وكل مكارم الأخلاق صارت+++إليه همتى وبه اكتسابى
فبعض اللوم عاذلتى،فإنى +++ستكفينى التجارب وانتسابى
إلى عرق الثرى وشجت عروقى+++وهذا الموت يسلبنى شبابى
ونفسى،سوف يسلبها،وجرمى+++فيلحقنى وشيكاً بالتراب
لا ترقى القيم هنا حدّ أن تكون أخلاقا للاجتماع، فهؤلاء الذين جعلوها سنخا للوجود وللفروسية، هم كانوا يتفردون في البراري يصطادون الأسود.
تراءى عنترة ابن شداد العبسي لنيتشه، مثالا عن قيم تمتطي فرسا وتمتشق سيفا، وهي في نزوعها تكشف في كل لحظة عن إرادة قوة تمنح للقيم المغنّاة معنى يفوق كل من تغنى بها في صالونات أخلاق العبيد، يسمع قصيدة على أنغام أوبرا المركب الشبح لفاغنر قبل أن يشتد بينهما الخلاف، يقول فيها عنترة:
هَلّا سَأَلتِ الخَيلَ يا اِبنَةَ مالِكٍ +++ إِن كُنتِ جاهِلَةً بِما لَم تَعلَمي
إذ لا أزالُ على رحالة ِ سابح +++ نهْدٍ تعاوَرُهُ الكُماة ُ مُكَلَّمِ
يُخبرْك من شَهدَ الوقيعَة َ أنني +++ أغشى الوغى وأعفُّ عند المغنم
ومدَّججٍ كرِهَ الكُماة ُ نِزَالَهُ +++ لا مُمْعنٍ هَرَباً ولا مُسْتَسلم
لما رأيتُ القومَ أقبلَ جمعهُم +++ يتذَامرونَ كَرَرْتُ غَيْرَ مذَمّم
يدعون عنترَ والرِّماحُ كأنها +++ أشطانُ بئرٍ في لبانِ الأدهم
بدا نيتشه فاغرا فاه، متسائلا: من أي الصحاري النائيات وُلد هذا الشّعر، من أي إرادة للقوة تدلّى هذا القصيد؟ ثم يتابع مقاطع أخرى لعنترة:
إن كنت في عدد العبيد فهمتي +++ فوق الثريا والسماك الأعزل
وبذابلي ومهندي نلت العلى +++ لا بالقرابة والعديد الأجزل
لا يكفي الوقوف عند الأخلاق وإيماءاتها، ولا حتى باستقصاء النوايا، بل في سيميائها، في تمظهرها في الفعل نفسه، في حدس ما يختفي وراءها من إرادة القوة. لا يخطئ رؤية ذلك إلاّ من أعمته مورفولوجيا أخلاق العبيد.
هؤلاء العرب الذين نطقوا الضّاد بخلاف ما ننطقها، أدركوا ذلك الوازع، فأدركوا القيم الحقيقية، وباشروا الوجود بأبسط ما تكون المباشرة وبأعقد ما يكون الموقف النقدي لأنطولوجيا العبيد.
تعليق واحد