لعل قصة الكاهن جان مسلييه تلقي الضوء على نقلة الفكر في أوروبا من جو محاكم التفتيش إلى عصر التنوير فقد كان جوّ الرعب، وكتم الأنفاس، الذي فرضته الكنيسة في العصور الوسطى، مخيفاً، قبل أن يتمّ تحطيم صنم الثالوث، والإقطاع، والملكية، مع بزوغ عصور التنوير.
ويروي المؤرخ ويل ديورانت، في كتابه (قصة الحضارة حكاية مثيرة عن أجواء الخوف في أوربة عن القس جان مسلييه (1678 – 1733م)، راعي أبرشية أتربيني في شمبانيا، الذي كان، في كل عام، يمنح الفقراء كلّ ما يتبقى من راتبه، بعد تسديد نفقات حياته المعتدلة البعيدة عن الإسراف والتبذير، ولكن الرجل، في أعماقه، عاش أزمة فكرية حادة بقيت فيها أفكاره محبوسة في زنزانة الجمجمة. طوال حياته في حالة ترقب وخوف من أن يُفتضح أمره، ويقرأ الناس ما كتب، وتلاحقه الكنيسة، وآلتها الجهنمية من محاكم التفتيش، أو هجوم العوام عليه بالسلاح في عقر داره، وتقطيع لحمه بتهييج الكنيسة، وجواسيسها؟
وعندما مات بعد ثلاثين عاماً من الحياة الهادئة المثالية في وظيفة الراعي، قضى نحبه، وهو في الخامسة والخمسين، موصياً بكلّ ما يملك لأهالي الأبرشية؛ دفنه أهل القرية بكلّ إجلال وتعظيم، ولم يعرفوا أيّ شيطان لئيم كان في ثياب هذا القسّ الورع، ولكنه ترك خلفه مذكراته في ثلاث نسخ من مخطوطةٍ بعنوان (عهدي الجديد)، وعندما بدأ الناس يطلعون على ما جاء في أوراقه، أصيبوا بزلزال! وبدؤوا في صبّ اللعنات على رأسه. كيف استطاع هذا الأثيم أن يتكتم على آرائه طيلة ثلاثة عقود؟
وكلّ التساؤلات الخطيرة، في عصره، عن خرافات الكنيسة، قام مسلييه باستعراضها بأسلوب شيق، وعرضها في صفحات مطولة؛ فلم يترك مسألة مزلزلة، أو وضعاً غير منطقي للكنيسة والعرف السائد، إلا وتعرّض له بنقد لا يعرف الرحمة، ولكنّها أسطر كتبها بينه وبين نفسه في هدوء الليل، في غيبة الفضوليين، والجواسيس، والمخابرات، وبقيت أوراقه سرّه حتى الموت، وفي نهايتها، تقدم باعتذار شديد لأهل القرية؛ بأنه لم يكن ليخون ضميره، وأنّه كتم آراءه عنهم، كلّ تلك الفترة، بسبب الخوف من النكال؛ فلم يكن، يوماً، معتقداً بما كان يمارسه من طقوس.
وتوسل إليهم، في المخطوطة، أن يغفروا له أنه خدم الخطيئة والأهواء طوال مقامه بينهم، فقد تقلد عمله ليس طمعاً في المال، بل امتثالاً لما أمره به أبواه؟ ومن الطرافة ذكر بعض نفثات أفكاره المثيرة للجدل حتى اليوم، فهذا الرجل أطلق العنان لــــ (حرية التفكير)، في الوقت الذي حبس كلّ (مجاري التعبير) عنده طوال حياته، لنعرف مصير الأفكار المحبوسة عن (التعبير).
ومما كتب هذا القسّ المتمرد:
– «لن أضحي بعقلي؛ لأنّه وحده الذي يمنحني التمييز بين الخير والشر، وبين الحقّ والضلال».
– «لن أتخلى عن الخبرة؛ لأنها خير مرشد وهادٍ، وهي أفضل بكثير من الخيال، أو من سلطان المرشدين».
– «لن أرتاب في حواسي، ولست أتجاهل أنّها يمكن، أحياناً، أن تؤدّي بي إلى الخطأ، ولكنّني، من جهة أخرى، أدرك أنها لن تضللني دائماً».
– «إن حواسي تكفي لتصحيح الأحكام والقرارات المتسرعة، التي ملت إلى اتخاذها».
ومن الغريب أننا نقرأ هذه الفقرات، الآن، ببراءة، في الوقت الذي كانت في أيامه ضلالاً وعذاباً.
لقد كانت كتابات مسلييه، في مقاييس عصره، أكثر الكتابات إيغالاً في مخالفة السائد والمسيطر من الأفكار؛ لذا لم يتجرّأ فولتير نفسه، إلا على نشر أجزاء منها، ورأى فيها شيئاً من التطرّف حاول تعديله؟!
ومن الواضح أن مسلييه كان قد وصل إلى اللاعودة مع الكنيسة والمسيحية. وعندما يتحدث عن الحروب الدينية المسيحية في أوروبا، يقول:
«زعزعت الخلافات الدينية أركان الإمبراطوريات، وأدّت إلى الثورات، وخربت أوروبا بأسرها، ولم يكن من الميسور إخماد هذه النزاعات الحقيرة، حتى في أنهار من الدماء.
إن الأنصار المتحمسين لدين يدعو إلى البر، والإحسان، والتآلف، أثبتوا أنهم أشدّ ضراوةً وقسوة من أكلة لحوم البشر، أو المتوحشين»؛ ليصل، في نهاية أطروحته، إلى أن «الناس أشقياء لمجرّد أنهم جهلة، وهم جهلة لأن كلّ شيء يتآمر على الحيلولة بينهم وبين الاستنارة، وهم أشرار لمجرد أنّ عقلهم لم يتطور بدرجة كافية».
وبعد أن ذكر جان مسلييه ما سلف، يختم عهده الجديد بعبارة يتحدى فيها كلّ الذين يمقتونه، ويصبون عليه اللعنات:
«دعهم يفكروا، أو يحكموا، ويقولوا، ويفعلوا ما يريدون. لن أعبأ بهم كثيراً؛ بل إني، اليوم، لم أعد أعبأ كثيراً بما يحدث في العالم». ويعلّق ديورانت على صدق وصراحة هذا الرجل غير المعهودة، على هذا النسق من العبارات الصاعقة:
«هل وُجِد ثمّة عهد، أو ميثاق مثل هذا في تاريخ البشرية جمعاء؟ يعيش صاحبه منسياً لا ذكر له، في قرية نائية، قد ترتعد فيها كلّ النفوس رعباً وهلعاً، إلا نفسه هو، لمجرّد الاطلاع على أفكاره الخفية، ولهذا لم يتحدث بمثل هذه الحرية إلا لمخطوطته».
وقام فولتير بنشر أجزاء من كتاب الكاهن مسلييه، كما أن ديدرو، ودي هولباخ، قدّما خلاصة له عام (1772م)، تحت عنوان: «رجاحة عقل الكاهن مسلييه»، ولكن النص الكامل للكتاب لم يُطبع إلا بعد (130) سنة من موت صاحبه، في عام (1864 م)، والمخطوط، اليوم، محفوظ في المكتبة الوطنية في باريس.
وهذه القصة الحزينة المثيرة تروي المأساة المخفية من صراع العقل مع الكنيسة، وكيف أن أوروبا ناضلت، بقوّة غير عادية، للتخلص من الفكر الكنسي، ولكنه، بكل أسف، كان فراقاً ليس بين العقل والكنيسة فحسب، بل بين العقل والدين، أيّ دين على الإطلاق.
تعليق واحد