لم أكن أعلم أنني عندما سأطرح مجموعة من الأفكار التي أعجبتني وإقتنعت بها، ستجلب لي هجومًا شرسًا على مواقع التواصل الاجتماعي، خاصة بعد أن نسبت مجموعة الأفكار لصاحبها من باب الأمانة العلمية، التي تربيت ونشأت عليها، فأسوأ السرقات على الإطلاق هي السرقات العلمية.
كان الهجوم والتطاول والاستهزاء قد طال كلٍ من: صاحب الأفكار المطروحة أولًا (وهو شخصية مصرية معروفة، عُرف بنقده للتراث الإسلامي، ودعوته إلى تنقيح التراث الإسلامي من الأساطير التي يحتويها، وإعمال العقل في النصوص، فما وافق القرآن الكريم نأخذ به، وما خالفها نضرب به عرض الحائط)، وثانيًا: طال شخصي بما أنني ناقلة لتلك الأفكار وأعتقد بصحتها، وكان السب والشتم والاستهزاء فوق الوصف وفوق الاحتمال، لكن لم ينتهِ الأمر عند ذلك، حيث وقبل مرور أقل من 8 ساعات وأنا أتصفح مواقع التواصل وجدت شخصية سياسية مرموقة قامت بنشر نفس المنشور لنفس الشخص (الشخصية المصرية المعروفة) بعد حذف اسم صاحب الأفكار، وقيامه بنسبة الأفكار إليه، مع تغيير بسيط ولا يُذكر لعنوان المنشور، لتنهال التعليقات بمدحه والثناء عليه، وأنه صاحب القلب الرحيم، والأفكار النيرة، والإدراك الواسع، والفكر الراقي، والخُلق الحسن.
وهنا كانت صدمتني، فأنا لم أكن أعلم بأنه وصل بنا الحال إلى هذا المستوى من التدني العلمي والديني والأخلاقي، ولأول مرة أدرك الهوة الواسعة التي إنزلق بها التفكير في مجتمعي الذي أعتبره من المجتمعات المثقفة، والتي يحمل فيها شعبي أعلى شهادات علمية على مستوى الوطن العربي، وفق احصائيات ليست بالقديمة.
أن نحارب الأفكار ونرفضها ليس لذاتها بل لأن فلان هو قائلها أمر سيء، ولا أعتقد أن هذه المعضلة قد نجت منها الشعوب العربية قاطبة، فالتشدد والتطرف الذي تعيشه المجتمعات العربية شيء خطير جدًا، فقد ظهر في السنوات الأخيرة أفكار ترفض الآخر ولا تقبله أو تحاوره.
كلٌ يدَّعي أنه يملك الحقيقة المطلقة، وأصبح كل التركيز على المسائل الخلافية والدقيقة والفرعية، أما الأصول من قيم العدل والتسامح والمساواة، وإستخدام الحوار كوسيلة لتضييق الهوة بين المتخالفين أصبح أمر ٌصعب المنال، إذا لم يكن بالمستحيل، فالخطاب خطاب عدائي كريه، رائحة العنصرية تُزكم الأنوف، وأما تقديس الأشخاص فهي ظاهرة منتشرة بشكل مُلفت للنظر، مهما كانت مرجعية هذا الشخص الفكرية، سواء كان علماني أو يساري أو يميني ويزداد الأمر سوءً إذا كانت المرجعية إسلامية.
فمسألة الشيخ والمريد مسألة لا تنجو منها أي فرقة أو طائفة أو جماعة إسلامية، مهما إدعت هذه الجماعة أو تلك وسطيتها وإعتدالها، فممارساتها تأتي دومًا بعكس ما تزعم، ليظهر لنا في الآونة الأخيرة ما يُعرف بالإسلام السياسي، الذي أتى مع ثورات الربيع العربي، الذي إتخذ من شعار “الإسلام هو الحل” شعارًا له يستقطب فيه الناس ويُحرك مشاعرهم الدينية، يعزف فيه على وتر المقدس عند الشعوب العربية، التي هي في الأصل شعوب عاطفية مندفعة، فكان من السهل توجيهها وتحريكها، خاصة بعد تراجع الفكر اليساري بكل أشكاله، فسقوط الماركسية والشيوعية، وفشل الديمقراطية التي ندعي بممارستها، ولكننا لم نعرف لها طريقًا، وتهاوي القومية العربية، سمح للجماعات الإسلامية بكل توجهاتها وأيدولوجياتها المعتدلة والمتطرفة بالظهور، فكان لهذه الجماعات أهدافها وغاياتها المحدودة، والتي تعمل لصالح فئات معينة ومحدودة جدًا، وليس لصالح جميع فئات المجتمع.
بل وأصبح من يعيش تحت ظل هذه الجماعات دون أن ينتمي إليها يشعر بظلم يطاله على كافة المستويات، وأول ما يمكن ملاحظته عند إستلام هذه الجماعات لمقاليد الحكم والسلطة هو تولية عناصرها مناصب وأماكن لا يستحقونها، بل أثبتوا فشلهم الذريع في إدارتها، حيث وُضع الشخص غير المناسب في المكان غير المناسب، فجلب ذلك ويلات ومشاكل من إنهيار مؤسسات الدولة بشكل مخيف وفي وقت قياسي، مما جعل الشعوب تغرق في محيط من الجهل والتخلف والانحطاط في كل مناحي الحياة بشكل لم تعرف البشرية مثيلًا له قط.
إن البحث وراء أسباب ظهور هذه الجماعات كان نتيجة غياب الفكر الإنساني المتوازن القائم على الإخوة الإنسانية التي خلقنا الله لأجلها فقد قال تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا} الحجرات:13، فالخطاب الأيديولوجي الديني الذي يقوم على تمجيد الماضي، وإعطائه هالة من القدسية تمنع من التعرض له أو نقده، مع غياب كامل وتهميش للعقائد والطوائف الأخرى، مع إطلاق أحكام الضلال والكفر على المُخالف.
وهذا ما تعج به المناهج والكتب في المدارس والجامعات العربية، وغياب شبه كامل للقيم التي تدعم حرية الرأي والاختلاف والتنوع الثقافي والديني والحضاري، وظهور لغة عدائية لا تؤمن بالغير، أو تأبه له، وإقتصار التدين على المظهر الشكلي، والتمسك بالقشور، وغياب قيم العدل والتسامح والمساواة والحرية والمحاسبة والرقابة الذاتية والقانونية، والاعتراف بحق الآخرين في الوجود، مع تأجيج النعرات الطائفية والمذهبية، وغياب العقل النقدي الذي يجعل كل الظواهر الاجتماعية والثقافية والإنسانية والطبيعية عُرضة للفحص والتجريب والمساءلة، وفق قواعد التفكير النقدي والدراسات العلمية المختلفة، مما جعل المجتمعات العربية تعاني ازدواجية في كل شيء، وعلى كافة المستويات.
ولا يمكن أن ننكر أن سياسات الدول الكبرى وأطماعها في المنطقة العربية جعلها تدعم مثل هذه الحركات، وتُمدها بالمال اللازم لذلك من أجل تفكيك وحدة البلاد العربية وفق أسس مذهبية وطائفية وأثنية، وتحويلها إلى دويلات متنازعة فيما بينها لتبقى دومًا تحت سيطرتها، كما أن انتشار الفقر والبطالة والظلم والاستبداد ساعد على ذلك بشكل ملحوظ، ولكن تُعد هذه الأسباب ثانوية إذا قورنت بغيرها، فالفيروس لا يمكن أن يستفحل بالجسد، ما لم يكن هذا الجسد ضعيف ومتهالك، وأمتنا العربية أمة ضعيفة هزيلة منقسمة مشتتة، مع أنها تملك تاريخًا وأرضًا ولغة مشتركة.
ومن أجل إعادة لهذه الأمة روحها ومكانتها وحضارتها يجب الاعتناء والاهتمام أولًا وأخيرًا ببناء الإنسان السوي المتوازن فكريًا، المنفتح على حضارات غيره من الأمم، الذي يعترف بفضل الآخر ولا يبخسه حقه، وأن يؤمن أن الهدف من خلقه هو عمارة الأرض، والعيش فيها بأمن وأمان مع غيره من شعوب العالم، دون سفك للدماء وفق مبادئ التعاون والسلام والمساواة والمحبة، فإن فعلنا ذلك كنا خلفاء الله في الأرض.
زادك الله من علمه منورة الدنيا خالتي الدكتورة رهف حنيدق