آراءرياضة

كرويات.. الرحلة إلى الحلم

يفصلنا يوم فقط عن المبارة النصف نهائية في المونديال، ستكون لحظة حاسمة في مواجهة المنتخب الفرنسي، ومع أنّ الكرة في هذه المرحلة تصبح قسمة ونصيبا، إلاّ أنّها مواجهة مع فريق تربطنا به أكثر من علاقة، فهو منتخب ينطوي على علامة سياسية، كون معظم لاعبيه من أصول أفريقية، إنّنا نواجه ولا نواجه في الوقت نفسه فرنسا، إنها مبارة تحيل على ذاكرة الآنديجين، المحلّي الذي دائما كان محل ازدراء في المستعمرات الفرنسية القديمة.

هذه المواجهة لا تستبعد هذه المشاعر، وإن كان هناك من يريد أن ندخل المواجهة مجردين من الذاكرة والأحاسيس والخيال.

 يكفي أسود الأطلس أنّهم صنفوا في الأربعة الكبار، لكن الأسود لا زالوا جوعى كما قال المدرب الركراكي، الذي استطاع أن يخلق المفارقة من خلال ثقافة النّية، وهي تحيل على المثل المغربي: (دير النية وبات مع الحية)، كما تحيل على الفيشاوية: (أنا ماني فياش، أش علي مني…)، ثقافة لا تعرفها كل الفرق الأخرى، ضرب من التصويف الكروي جعل الفريق يبلغ مقام الجذب. هم انتصروا حين آمنوا بالمهارات المحلية.

الركراكي من ركراكة، وهي حسب الحكاية المغربية، قبيلة وفدت على النبيّ (ص) قبل الفتح، أول قبيلة بايعت النبي قبل الفتح الأموي. الركراكيين مجاذيب.

 أظهر العرب مخزون محبتهم للمغاربة، طبعا ذلك لأنّ الإعلام السياسوي الموجه يستقطب عادة الآحاد ممن لا يمثلون الشارع العربي، بخلاف الكرة في بعدها الجماهيري. المونديال كان محطة أساسية لإظهار حقيقة المشاعر العربية، وبأنّ السياسوية باتت مكشوفة، باعتبارها نقيضة للواقع العربي، وبأنّها أيديولوجيا زائفة، تستغفل الرأي العام العربي.

القيم التي رافقت إنجازات المنتخب واضحة كعلامات تبدو بسيطة لكنها تنطوي على دلالات قوية: السجود ، تقبيل رؤوس الوالدات، محبة الجماهير، لعل واحدة من ميزات هذا المونديال، هو صدمة القيم والاقتدار في مجال لم يكن معروفا للجماهير العالمية.

نحن كذلك سواء في الكرة أو غيرها، لا نكثر من البروباغاندا، نتواضع عند الفوز، نفاجئ العالم، نحتاج فقط إلى فرصة وبعض الاعتراف لنصنع الحدث. نحتاج إلى حدث كبير لنمحق كلّ الأحقاد التي تهدد التسامح والسلم المجتمعي.

 هناك مشروع التنمية المندمجة، وهو مشروع أسفر عن مشاريع عدة قبل سنوات، منها النهوض بقطاع الرياضة، فالفوز ليس ضربة حظّ ، بل هو نتاج دور الأكاديمية وسياسة ملاعب القرب التي شملت هوامش المدن. كان من المتوقع أن تظهر بعض نتائج المخطط. والأهم هنا هو منح فرصة للمنتوج المحلّي.

 لم تعد الفرق الأوربية تخيف أسود الأطلس، فعناصر الفريق اغتربت وحصلت على كل خبرات الأندية الأوربية، وهم يتقنون كل اللغات الأوربية، وهو ما يؤكد على أهمية اللّسان في كلّ شئ، فاللغة أيضا مأوى الكرة، وهم يدركون نقاط القوة والضعف في الفرق المتنافسة. لقد انتصر أسود الأطلس وتركوا لوحات فنية بأدائهم الماهر، وأيا كانت النتائج المتبقية، فلقد أنجزوا ما لم يكن في الحسبان.

 مهارات المغاربة ظهرت في المونديال، وهي مؤشر على أن مهارات أخرى موجودة، ولكنها غير ظاهرة للعموم، في الصناعة، والاكتشافات العلمية، وألعاب القوى، وأمور أخرى لا تحظى بما تحظى به الكرة من حالة مهرجانية. يفترض تعميم هذه المكتسبات على سائر القطاعات الأخرى. لقد أعادنا الفوز الكبير إلى واحدة من النفائس الكلاسيكية لعبد الله كنون، وهي “النبوغ المغربي”، كان عملا مبكرا في تتبع هذا النبوغ في الأدب العربي، وها هي الكرة تدعونا لوضع مستدرك على كتاب النبوغ، النبوغ الفنّي.

أكدت المشاعر الكروية على الرغم من بعدها العاطفي والانفعالي، على أنّ المغرب ليس جزيرة، بل هو في قلب أمّة ممتدة، تستطيع أن ترفده بالمشاعر المحفزة. فعزل المغرب عن محيطه العربي دعوى فاشلة، لأنّ العرب لم يقفوا معنا فقط في المونديال، بل وقفوا معنا أيّام الحركة الوطنية، الدور التضامني لشكيب أرسلان، ودور لسان المغرب المروج لأول مشروع دستور  عام 1908، بطنجة، العاصمة الدولية أنذاك، للشقيقين اللبنانيين: فرج الله نمّور وأرتور نمّور، وهو دستور أشبه ما يكون بمشروع إخوان الصفا وخلان الوفا، لأنّنا حتى اليوم لا نعرف من هم الكَتَبَة الحقيقيون.

 كلمة “سير” بحمولتها الانفعالية، تعني إلى الأمام. والمطلوب أن نسير. وعلى جميع الأحرار أن يدعموا أسود الأطلس، لأنّهم اليوم لا يمثلون أنفسهم فحسب، بل يمثلون كل المستضعفين في الأرض.

https://anbaaexpress.ma/g3djx

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى