آراءثقافةمجتمع

قدر الشيخوخة..

أنا من يكتب هذه المقالة الطبيب خالص جلبي الجراح العام وجراح الأوعية الدموية (surgeon & vascular surgeon) قد بلغت من العمر 77 عاما، وأكتب لكم هذه المقالة فليستبشر كبار السن أن العمر ليس السنين بل الحضور الواعي وأن هناك بعد مايجب إنجازه؟ وفي يوم قال الفيلسوف إقبال، أن الزمن ليس دورة الفلك بل حالة النفس وأنا أشعر كأنني ابن 17 عاما وليس 77 عاما؟.

وأذكر من رحلتي الطبية زميلي الطبيب الجراح (قدري) وقد رسى قدره في العناية المركزة، الدكتور (قدري) أعرفه ولم أصدق خبره فهو اختص معي في ألمانيا وهو جراح مثلي، ولكن مشكلته هي التدخين، حين رأيته قلت له زميلي الفاضل: فقط من أجل عائلتك اترك التدخين (كيكمي جارو كما يقول المغاربة).

جراح الصدر الأمريكي المدخن اكتشف إصابته بسرطان رئة متقدم منتشر لاتنفع معه جراحةـ وهو من يقوم باستئصال أورام الصدر عند المرضى، نطق جملة وحيدة قبل الموت : إن كان ثمة شيء أتحسر عليه فهو عدم تركي السيجارة مبكرا؟

صديقي (حسني) في تركيا اتصل بي وقال دخلت الإسعاف على عجل بسبب اضطراب الحس في نصف جسمي! قلت له هل تتذكر نصيحتي لك منذ زمن طويل بترك الدخان؟. أجاب نعم نعم.. وحسب الإحصائيات فإن متوسط العمر يخسف بمقدار 11 سنة عند المدخنين.

الناس لاتفهم هذا ونحن الأطباء نعرف معنى هذا في متوسط الأعمار.

صديقي المدخن الدكتور الجراح الذي أصبح في العناية المركزة (قدري) حين رأيته لم يكن ابن الخمسين بل الثمانين! لقد زارته الشيخوخة مبكرا.

ولكن ماهي تحديدا؟ هل هي العمر الفيزيولوجي أم النفسي؟ فأما العضوية فتسم الشيخوخة بثلاث مظاهر سريعة: المفاصل والعيون والذاكرة، فأما المفاصل فتبدأ بالطقطقة والتنكس، وأما العيون فتجف المدامع ويظهر الماء الأبيض والأزرق وتتكثف العدسة وتبدأ مشاكل الرؤية من الذباب الطائر والعتمات، وأما الذاكرة فتشتد الذاكرة البعيدة فهي حديد، وتخف القريبة فيبدأ الوسواس الخناس، وهناك من إذا خرج من البيت عاد إليه ليتفقد موقد النار وصنابير المياه وهل الباب مغلق؟.

إن حديث البيولوجيا مع تقدم العمر واضح لا يحتاج إلى ترجمان؛ فالقلب يضخ بـ 75 % من طاقته مع الشيخوخة، وتنكمش الرئتان إلى 40 % من بث النفس، وتتراجع قوة قبضة اليد إلى 55% من بطشها، وينكس وزن الدماغ إلى 56 % من كتلته.

وتتراجع حليمات الذوق إلى 36% من طعمها؛ فلا يتلذذ المسن بطعام أو يهنأ بشراب كما حدثني والدي قبل موته، هذا إن لم تكن الأسنان تساقطت (هرت) فتحول إلى طفل يثغو! والدي إستقال من الحياة بكل بساطة بدون علة بعد أن رأى اختفاء جيله كاملاً.

وتتراجع الطاقة الجنسية بشكل حاد مع سن الـ 48 مع الرجال، وهو سن اليأس عند الرجال، كما كان انقطاع الطمث عند المرأة إيذانا بدخول مرحلة جديدة، من هبات عاصفة الضهي، وتغير السن من الشباب إلى الكهولة فالشيخوخة.

ومن كان مصابا بالسكري أصيب بالعنة وفقد الانتصاب بشكل أبكر، وهي كلها مؤشرات واضحة أن زمن الصبا ولى، فيصبح الزوجان صديقين بدون إغراءات جنسية، بعد أن ضوى الشباب، وذبل الجمال، وتجعد الجلد، وأطلت الصلعة، وفترت الهمة، وهو نداء أن وقت الإنجاب ولى، ووقت الحكمة أقبل.

مع هذا فالشيخوخة لا تقاس ولا يراهن عليها بمؤشرات البيولوجيا، وإنما بالشعور الداخلي، هل بقي شيء للإنجاز أم لا؟

الشيخوخة إذن ليست تظاهرة فيزيائية ولكنها تجلي نفسي فإذا شعر المرء أنه ليس من شيء للإنجاز، كان معناه توقف الصيرورة، وكان معناه الموت قبل الموت والموت هو الختم على كل صيرورة، ووقف لكل تحقق للإنسان.

والإنجاز هو الارتباط بالحياة عبر صيرورة متدفقة. هكذا عاش بيكاسو يبدع في الرسم حتى سن 91، وتزوج في عمر الثمانين سيدة شابة وهي الرابعة من الزوجات، وبقي بافلوف يشرف على أبحاثه حتى سن 86.

وبقي كوفي عنان في معمعة السياسة حتى سن الثمانين، وعمر سنان التركي نصف مساجد وقناطر الدولة العثمانية وتزوج بعمر الثمانين وأنجب، وبقي جراح الأوعية الأمريكي ميشيل دبغي اللبناني الأصل يمارس جراحات الأوعية والقلب حتى وافته المنية بعمر 99، وسمعت له في مقابلة أنه عمل لزوجته عملية فماتت تحت يده على طاولة العمليات رواها ولم يرف له جفن ولم تدمع له عين، وفي أخر عمره نصحوه من حوله من الأطباء أن يجروا له العملية التي كان يجريها للآخرين فرفض ثم دخل في الغيبوبة فاجتمعت لجنة طبية حكمت بإجراء التداخل الجراحي الذي رفضه فنجى وعمر بعدها عدة سنوات.

وإستمر برتراند راسل الفيلسوف البريطاني يكتب في الفلسفة، ويقود المظاهرات، ويسجن من أجل السلام وهو في سن الثمانين.

وأما يوسف بن تاشفين شيخ المرابطين فقد قاد معركة الزلاقة عام 1086م لإنقاذ الأندلس وهو شيخ في الثمانين وأخّر سقوط الأندلس أربعة قرون حتى عام 1492م.

وبقي عمر المختار يقاوم الاحتلال الإيطالي لمدة خمس وعشرين سنة حتى شنق وهو شيخ مهتريء المفاصل.

وتم اغتيال غاندي العجوز داعية السلام وهو شيخ محدودب الظهر.

وقاد الخميني ثورة ناجحة في إيران وعمره فوق الثمانين، وتابع جان بياجييه أبحاثه في علم النفس الارتقائي حتى سن الشيخوخة المتأخرة.

كما تابع الفيلسوف البريطاني برناردشو نكته الساخرة وهو يدلف إلى خريف العمر، وحقق اديناور معجزة ألمانيا الاقتصادية وهو الشيخ المسن.

وعمَّر نيلز بور الفيزيائي الدانماركي إلى قريب من سن الخرف وهو الذي وضع الموديل الأول للذرة، استناداً إلى مفاهيم ميكانيكا الكم، وبقت باربارا مك كلنتوك تعمل في فك الكود الوراثي فاكتشفت الطفرة، وعرفت أن الجينات ليست مثل حبات اللؤلؤ على جيد حسناء بل تغير مواقعها باستمرار (تذكروا طفرة فيروس الكورونا) .

وبقت تشتغل سبعة أيام في الأسبوع لمدة 12 ساعة يوميا بعشق حتى وافتها المنية عجوزاً في التسعين.

وبقي لفينهوك يعمل على المجهر إلى ما قبل موته بساعة. وتسلم كوبرنيكوس أول طبعة من كتابه حول حركة الأرض حول الشمس وهو في سكرات الموت. ونشرت مجلة الشبيجل الألمانية في صفحة النعوات (Nachruf) عن (هانس بيته) الذي كان أول من كشف أن النجوم تستهلك وقودا نوويا وشارك في صناعة اول سلاح ذري ومات بعد نشاط علمي هائل بعمر 98 عاماً، وأنا أطالع دوماَ صفحة الوفيات في المجلة حيث تأتي بأعلام الناس مما يذكرني بكتاب الأعلام للزركلي، وقرأت مؤخرا عن موت ثلاث مشاهير الأول أوري افنيري السلامي الإسرائيلي الذي ترك خلفه كتاب (متفاءل) واقترح دولتين في فلسطين ومات بعمر 94، وهو من أصل ألماني باسم هلموت اوسترمان (Helmut Ostermann) ولد في مدينة بيكوم (Beckum) والثاني ألماني جونتر فيللي (wille Gunther) ابتكر الحلقات البوليسية في التلفزيون الألماني بعنون مكان الجريمة (Tatort) فأنجز منها 1000 ألف حلقة ويزيد، وكانت عرض اسبوعيا، وشاهدت أنا شخصيا بعض حلقاتها.

وهو مايذكر بأجاتا كريستي أيضا هي وجرجي زيدان ممن تركوا خلفهم أرثا هائلا، والثالث هي سيدة من الارجنتين اسمها ماريا ايزابيل كوروبيك دي مارياني (Maria Isabel Chorobik de Mariani) أنشات حركة النساء في وجه حكم العسكر وكنّ يتظاهرن أمام البرلمان، وكانت قد فقدت حفيدتها وبقت تتابع أثرها بدون جدوى حتى عميت بعمر 88 عاما ولما ماتت بعمر 92 كانت آخر كلماتها عسى أن يأتي من بعدي من يعرف أثر حفيدتي أين اختفت؟. أنا لم يكن أمامي إلا دمعة حزينة أشاركها قصتها الحزينة وأظن أنها اجتمعت بها في دار البقاء والقرار.

الشيخوخة ليس أن يبلغ الإنسان الثمانين والتسعين ولكنها شعوره الداخلي هل هناك مبرر للاستمرار في الحياة أم يجب أن يقدم استقالته منها؟

الحياة يا أعزائي تأسن بدون تجديد وحركة،وهناك من هو في عمر الأربعين قد إحدودب ظهره فتظنه ابن ثمانين سنة، والعكس بالعكس فقد تجد إبن الثمانين وهو ينجب ويقفز مثل النابض.

كما عرضت القناة الألمانية أحد المناضلين ضد الجستابو وكان ممن سجن 14 مرة وعذب ورأيناه في القناة وهو يمشي بدون عكازة وعمره 98 سنة؟

أما الموت فهو يطوي صفحة جيل عجز عن التجديد، وجمد عند حدود بعينها، وتحنط على شكل ميت، فتأتي صدمة الموت فتأخذ ذلك الجيل لتنجب من هو خير رشدا وأقرب رحما.

يقول الفيزيائي ماكس بلانك (MAX PLANCK)  الذي دشن أحد ثوابت الفيزياء الحديثة، وشق الطريق إلى ميكانيكا الكم، عن طريق كشف ظاهرة إشعاع الجسم الأسود، أنه لم ينل جائزة نوبل تقديراً لجهوده إلا بعد موت الجيل المعاصر له ممن أنكر إبداعه.

الموت كما نرى ضرورة وجودية لتحسين زخم الحياة. واعتبرت الآية، أن الله خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا، وبهذا فإن الموت يشبه كسوف الشمس فلا نغيب وخلق كآلية (تحسين) في إنجاز الجنس البشري، أن يتقدم دوما نحو الأفضل، فلفظة أحسن تعني أن هناك دوماً ما هو أحسن، ورحلة التحسين هي بالحذف والإضافة وهي لا تعرف التوقف واللغوب.

كان الرسول صلى الله عليه وسلم يراهن ليس على مشركي قريش، بل أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً. وكان المسيح يقول لاتقولوا نحن أولاد إبراهيم فالله قادر أن يخرج من الحجر أولادا له، وكان يسوع يكرر كونوا كاملين كأبيكم الذي في السموات، وكان يقول من يؤمن بي لايموت، وكان يقول لن تدخلوا الجنة حتى ترجعوا أطفالا؟

https://anbaaexpress.ma/2k2j3

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى