الجلسة الثالثة (وضعية العلوم الاجتماعية، ميادينها ومواقفها)، من اليوم الثاني، كانت مداخلتها الأولى من تأطير الباحثة فاطمة أوصديق تحت عنوان “إعادة انبثاق الواقعي”. الباحثة في السوسيولوجيا ومؤلفة عدد من الكتب، فاطمة أوصديق أثارت في مداخلتها جملة من الأسئلة حول المثقفين ودورهم المنوط بهم وحول الجامعة وعلاقتها بالمجتمع.
لماذا لم تظهر نخبة في الدولة ما بعد الكولونيالية؟ وما الذي يمنعنا من تفكير الواقعي؟ ولماذا نفكر من داخل معجم تسيطر عليه مفردات الإقصاء؟ هذه التساؤلات أثارتها القاعة أيضا في سياق التفاعل مع المداخلات.
من وجهة نظر الباحثة، يبدو الوضع الجامعي وكأنه يعاني من فقدان الذاكرة، أو وضْعٌ فرضته على المثقفين ظروف بلدانهم الواقعة تحت التحكم الكولونيالي. وتبدو الجامعة في صيغة تفكيرها، أحيانا، تعمل على حجب المعرفة بالواقع الاجتماعي.
وذلك لأن نزوح الكفاءات، بما في ذلك النزوح الداخلي، أدى إلى تجانس المعرفة، وهو ثمرة ثقافة أحادية للمعرفة العلمية الغربية.
الوسط الأكاديمي يبدو امتدادا للزمن الكولونيالي الذي مارس العنف ضد مجتمعاتنا، وبالتالي نحن نعيد إنتاج تلك المعرفة في بعدها الكولونيالي وهذا ما جعل مجتمعا مثل المجتمع الجزائري غير مفكّر فيه (impensée)، ودعت إلى العمل على توفير الشروط التي تسمح للواقع بالانبعاث، وإلى إعطاء أهمية أكبر لما يعرفه المجتمع عن نفسه، ويكشفه عن نفسه بنفسه.
المداخلة الثانية أطرها الأستاذ عبد الكريم العايدي تحت عنوان “لِنُنْصِتْ إلى المجتمع”، اتخذ من عبارة المفكر جاك بيرك “الصعود إلى القاعدة” مدخلا ومصدر استلهام لمداخلته، من حيث أن هذه المقولة تحمل على مستوى الهاجس السوسيولوجي معنى الصعود والارتقاء ولكن إلى ما هو سفلي وقاعدي. وذلك، وفق الباحث، عبر “انبثاق الدواخل” كما عبر عنها بيرك وحددها في (البلد، المجتمع، الشخص، اللغة).
وفق الباحث، فإن مثل هذا التغيير في المقاربة، كما هو حال بعض الدراسات والبحوث الجزائرية والمغاربية، لا يمكن إلا أن يكون مهمًا ومساعدا على تجاوز حالات التحيز وفقدان الذاكرة.
أطّر المداخلة الثالثة الفنان التشكيلي مراد كرينح تحت عنوان “الحفر عن معارف مجتمعنا”. دارت مداخلته حول الفن المعاصر، من حيث أن هذا الفن كشف كيف وصل الشباب إلى التحرر من الماضي بعد تفكيكه بوصفهم شهود هذا المجتمع وترجمانه في الزمن الراهن. وبين الماضي والحاضر، يقول الفنان، أن الفن المعاصر، بعيدًا عن الفن التراثي، يفرض علينا في الوقت الذي يتظاهر/يحتج، ويدعونا أن نواجه الواقع، هنا والآن.
أما المداخلة الرابعة فقد أطرتها الباحثة والمحللة النفسية فايقة مجاهد تحت عنوان “التحليل النفسي: المنسي في الجامعة”. ترى الباحثة أن التحليل النفسي تخصص غير مُرحّب به في بلادنا، حيث يتم تدريسه وممارسته بشكل غير نظامي (informelle). وقالت أنه تخصص لا يتمتع بمكانة داخل الجامعة، مع أنني، تضيف: أستقبل كل يوم، في عيادتي، أشخاصًا يبوحون بمعاناتهم، وهي حالات حرجة تبحث عن الخلاص في العلاج التحليلي.
المداخلة الخامسة أطرها الأستاذ حميد بوحبيب تحت عنوان: “أمثال وأقوال شعبية: مرآة المجتمع”. وقد ركز الباحث على الأمثال والأقوال الشعبية باعتبارها مرآة للمجتمع، أو بالأحرى مرآة تعكس الأيديولوجيا المهيمنة والعقليات السائدة. وهو بحث ميداني كانت ولاية بجاية مسرحا له، حيث أنجز من خلال تدويناته الميدانية متنا من حوالي خمسمئة مثل شعبي.
ميادين العلوم الاجتماعية: أنماط إنتاج الخلاصات
أطر مداخلات الجلسة الرابعة (ميادين العلوم الاجتماعية: أنماط إنتاج الخلاصات) كلٌّ من الباحثات والباحثين: عائشة بن عابد “الباحث وميدان دراسته” أهمية السياق الاجتماعي في إنتاج المعطيات”؛ محمد بن بوزيان “حدود الدراسات الإحصائية في مجال العلوم الاجتماعية”؛ تاسعديت ياسين ويوحنا بن عطار “اشفيني إن كنت تحبني: من أنثروبولوجيا الحميمية إلى أنثروبولوجيا العنف والهيمنة”؛ فاطمة الزهراء شراك “الميادين “الحساسة” في ممارسة الرقية في الجزائر ومصر وفرنسا”؛ فاضل صبيان “تعقد التحقيق الميداني في العلوم الاجتماعية للأديان في فضاء متعدد: الكاميرون نموذجا”؛ طويل شهرزاد “أهمية البيانات الإحصائية”.
البحث الميداني في مجال العلوم الاجتماعية كما تناولته المداخلات بالغ الحساسية والتعقيد. البحث الميداني من منظور عائشة بن عابد من حيث التحقيق النوعي، والجمع بين الملاحظات والمقابلات المتعمقة، فإن علاقته بالميدان تثير تساؤلات حول البعد الإرشادي وحول شروط الولوج إلى المعلومة الملائمة وإنتاج المعرفة. وتنطوي صيغة إنتاج المعطيات بشكل أساسي على التفاعلات بين الباحث وميدان دراسته.
بعض الميادين تكون صعبة الولوج وتتطلب بروتوكولًا معينًا، يتكيف مع الإكراهات التي كشف عنها أول اتصال، على سبيل المثال. هذه الميدان يؤثر فينا بنفس قدر مخاطرتنا للتأثير فيه بوجودنا. والميدان، تقول الباحثة، يطرح علينا كباحثين/باحثات، سؤال الهوية ويكشف عن استراتيجيات التكيف.
لأنه بالإضافة إلى فهم العلاقة بين الباحث والميدان كسيرورة بناء وتملك، فهي أيضًا علاقة اجتماعية تتميز بالثقة والحذر وأحيانًا بمشاعر الخيبة ازاء الباحث. وهو الأمر الذي يحمل الباحث على الجهد في لتحويل التفاعلات الملائمة إلى معطيات، أي ترتيبها في دفتر يومياته أثناء تحقيقه الميداني: تسجيل الأثر، الوصف والذكريات، ذلك أن أمرا كهذا في صلب إنتاج المعرفة، قادر على إعادة إنتاج فهم أفضل للمشكلة قيد الدراسة وتغذية سبل البحث.
وكان الحديث عن العمل الميداني، من الباحثات/الباحثين انطلاقا من تجاربهم، ومن إيمانهم بدعم أهمية العلوم الاجتماعية وفق تعبير الباحثة تسعديت، حتى تكون تجارب الباحثين بما فيها من مخاطر، مرئية ومفهومة.
تعليق واحد