الجلسة الثانية، في اليوم الثاني جاءت تحت عنوان: “العلوم الاجتماعية والمجتمع: الماضي والحاضر”، وأطرت المداخلة الأولى المؤرخة الفرنسية إيزابيل غرنغود (Isabelle Grangaud) في موضوع “العودة إلى التاريخ المفقود: تاريخ تجليات السياسة خلال الفترة العثمانية”، وتمحورت المداخلة حول ما هو منسي أو مفقود، يتعلق الأمر باستعادة السياقات التي تعرضت إلى الطمس أو الإهمال.
تشتغل الباحثة على التاريخ الاجتماعي للمدن (قسنطينة والجزائر العاصمة) في القرن الثامن عشر من خلال ملاحظة الممارسات الاجتماعية، واستكشاف تاريخ نشأة المصادر التاريخية (على غرار سجلات كاديس قسنطينة)، من حيث أن تاريخ المواد المدونة يسمح بوضع السياقات المطموسة في منظورها الصحيح، من خلال التمسك بالبعد الإعلامي الوحيد لموضوعها.
ترى الباحثة أن أعمالها تغذي الأنثروبولوجيا التاريخية للسياسة في العصر العثماني، وهذا ما حملها على الاهتمام بأشكال السياسة في اتجاه لا يختزل السياسة في مجال الدولة، باعتبار أن السياسي يتسع إلى مجموعة من المؤسسات الاجتماعية وإلى أدوار عدد من الأدوات والأشياء والطقوس التي من خلالها تصاغ رسمياً وتُمارَس الحقوق والسّلَط والتراتبيات حول الولوج إلى الموارد البشرية وتوزيعها. وتعمل الباحثة على رصد التجليات المدنية في العصر العثماني من خلال الممارسات والاستخدامات، بما في ذلك القصص والنوادر.
إن العودة إلى التاريخ المفقود لهذه المظاهر السياسية، تقول الباحثة، هي بالتأكيد أن نتعرف بشكل أفضل على التاريخ العثماني، وديناميات أنماط “صناعة المجتمع” في ذلك الوقت. ولكن، هذه العودة تسمح أيضًا بأن نحيط وعيا بالحاضنة المدنية للممارسات التي يمكننا الاستمرار في ملاحظتها، دون أدنى فكرة عن واقعها وأيضا، قد تفتح حقولا جديدة للاستثمار في صيغنا الخاصة في صناعة المجتمع: للتفكير من جديد في إمكانات السياسة.
أما المداخلة الثانية فكانت من تأطير المؤرخ الأمريكي تود شيبار (Todd Shepard) تحت عنوان “إنها الممارسات من يجعل عملنا لائقا/متلائما: الاستكشاف والتاريخ الراهن”. في حوار (سنة 2013)، يقرّ تود أن مسارات حياته الشخصية أفضت به إلى البحث في تاريخ حرب التحرير الجزائرية، وذلك إثر اهتمامه باللسان الفرنسي ثم إقامته بفرنسا. وتعزز اهتمامه تحت تأثير كتابات فرانز فانون وفيلم “معركة الجزائر”.
في إطار اهتمامه، وبسبب فهمه السطحي للتاريخ الجزائري، كان يخلط بين فرنسيي الجزائر والجزائريين الأصليين، وكان أول سؤال تبادر إلى ذهنه هو إن كانت الثورة الجزائرية ثورة فرنسية، واصفا انفجار العلاقة بين الجزائر وفرنسا بقطيعة ابيستيمولوجية تحتاج إلى تفسير، من هنا بدأ اشتغاله على تحليل المصادر الرسمية كالمناقشات البرلمانية أو قرارات مجلس الدولة. ليفهم في الأخير أن الجزائر وفرنسا كانتا أمتين متمايزتين.
الدكتور تود الذي ينتمي إلى بلد يختلف عن فرنسا في كثير من الأشياء ذات الصلة بالسياسة ولاسيما أن فرنسا نشأت كدولة قومية بينما أمريكا نشأت في نسق فيديرالي كمتحد من الدول (United States)، أولى اهتماما إلى المعجم السياسي المؤسس للدولة الجزائرية وتاريخها القومي.
بدأ الاشتغال على الأرشيف الجزائري، وعلى المناقشات وأهميتها خلال فترة الخمسينيات، حول علاقة الأمة بالدولة. منذ خمسينيات القرن الماضي، ساد الاقتناع أن الدول القومية (États-nations) تعاني بعد أن أصابها العياء ولم تعد قادرة على العطاء، وفي نفس الوقت ظلت الأمة (Nation) هي الإطار الأساسي للفكر.
كان ذلك في سياق النظام العالمي الجديد والتحولات التي أفرزتها الحرب العالمية الثانية، وانعكاس ذلك على بلدان أوروبا الغربية التي شرعت في إعادة الاعتبار للشأن الجهوي والخروج من التدبير المركزي وبالموازاة بناء الاتحاد الأوروبي. كانت فرنسا اقترحت جملة من الرؤى التي تفسر حرصها على بقاء الجزائر في الكنف الفرنسي في ضوء ما أسماه جاك سوستيل “الأمة الفرنكو مسلمة” أو “الفرنكوجزائرية”.
من هذه البراديغما اشتغل على الوضع الجزائري انطلاقا من الحرب التحريرية ومؤسساتها، فالحكومة المؤقتة (GPRA) الذراع السياسي لجبهة التحرير (FLN) يرى الباحث، أنها كانت تحمل فكرة كيان فيدرالي يضم الأمم المغاربية حيث تتمتع الدولة القومية الجزائرية بمكانتها المستقلة في اتحاد يجمع كل الدول المغاربية.
المداخلة الثالثة أطرها الدكتور حُسني قيطوني تحت عنوان “الجامعة الجزائرية والمسألة الكولونيالية”. استهل حديثه عن دوكسا الاحتلال (doxa coloniale) التي لا يمكن بمعزل عنها أن نفهم الاحتلال.
وانطلاقا من أن المسألة الكولونيالية، اليوم، توجد في قلب الجدل التاريخي والذاكراتي بين فرنسا والجزائر، وأنها موضوع جدل حي داخل المجتمع الجزائري، وإذا كانت مكانتها في الاستخدام العام للتاريخ ذات أهمية، فماذا عن المؤسسة الجامعية والبحث والإنتاج الأكاديمي؟
يقدم استعمار الجزائر نفسه في العديد من الجوانب كحالة براديغمية للاستيطان السكاني (colonisation de peuplement)، اعتبر الغزو الفرنسي للجزائر سبب صدمة عسكرية وثقافية ذات أثر عالمي، وأنه من المستحيل عمليًا اليوم الاقتراب من تاريخها دون مواجهة الدراسات الاستعمارية الفرنسية.
وأعطى مثلا بالقيسارية (بمدينة الجزائر)، حيث قام الغزي الفرنسي بتدميرها مع أنها فضاء مدني سلمي، وأن هذه القيسارية لم تكن مجرد مكان تجاري، بل كانت فضاء ثقافيا وتواصليا واجتماعية، وأن تدميرها كان تدميرا لذاكرة المدينة.
وفي صدد حديثه عن الاهتمام بقراءة الماضي، تساءل عن تحليل الموقف الذي احتله تاريخ الاستعمار في المؤسسة الجامعية الجزائرية؟ وإن كان الاستعمار يشكل مادة للتاريخ؟ وما هي حقول الدراسة التي يشملها التعليم والبحث الأكاديمي؟
وفي ضوء تلك التساؤلات، حلل البرامج البيداغوجية الجامعية، الأطروحات التي نوقشت في الجزائر من 1962 إلى 2017، ومنشورات الجامعة، للوقوف على الخطوط الرئيسية التي تربط الجامعة الجزائرية بموضوع الاستيطان، والإكراهات المؤسسية والهيسطوريوغرافية والتوثيقية التي تواجهها الجامعة وتأثيرها على توجه إنتاجها التاريخي.
المداخلة الرابعة أطرتها الباحثة حليمة مولاي تحت عنوان “مواثيق الثورة الجزائرية وبناء الدولة الجزائرية بعد الاستقلال: تحليل النص والخطاب”، قدمت مقاربة تحليلية لنص الوثيقتين: بيان أول نوفمبر وميثاق الصومام واستدعت جملة من المفردات ذات الصلة بالخطاب السياسي الذي أنتجته هذه الوثائق ولاسيما مفهوم الشرعية الثورية. وقد أكدت على ضرورة التمييز بين الذاكرة والتاريخ.
المداخلة الخامسة التي أطرها الباحث عاشور سرقمة تحت عنوان “واقع البحث في التاريخ الثقافي وآفاقه بالبلدان المغاربية: الجزائر نموذجا”، تناول التاريخ الثقافي في الجزائر، باعتباره من أهم الروافد التي تُعبر عن الهوية الثقافية لأي مجتمع من المجتمعات.
وقد أسس مداخلته على جملة من التساؤلات التي تخص تاريخ الثقافة في الجزائر منها:
– ما هو واقع البحث في تاريخنا الثقافي الجزائري؟ خصوصاً إذا علمنا بأن الجزائر تشكل قارة وفيسفساء لمختلف التنوعات الثقافية.
– ما هي أهم الخصوصيات السوسيوثقافية التي تُميّز كل منطقة عن أخرى؟
– هل تم البحث في تلك الخصوصيات وإبرازها بما فيه الكفاية لتطلع عليها الآجال المختلفة؟
– هل تم اقتراح آليات مختلفة لإبراز أهم مقومات تاريخنا الثقافي؟
– هل هناك مؤسسات أو هيئات أو جمعيات وطنية متخصصة في إبراز وتثمين التاريخ الثقافي الجزائري؟
– هل تم إدراج هذا التاريخ الثقافي في البرامج التعليمية في مختلف المستويات، بما يضمن التعريف به ونقله للأجيال؛ وتثمينه والمحافظة عليه.