أفريقياثقافة

صالون العلوم الاجتماعية بوهران في طبعته الأولى (2)

الألسنة والخطابات في الجزائر

تتمة..

في الجلسة الثانية التي جاءت تحت عنوان (علوم اللغة، ألسنة ومجتمع)، تمحورت المداخلات حول قضايا اللسان وما يصاحبه من جدل هوياتي. ولأن مفهوم “الأمة” ومشتقاته يعتبر مدخلا أساسيا ومفهوما مفتاحيا في فهم معضلات الدولة الحديثة فقد لاحظت أن المداخلات رغم زخمها العلمي وثرائها المعرفي لم تذهب إلى المنابع المؤسسة للحقل المفاهيمي والنظري الذي أنتج دولنا المغاربية وأنتج عصرنا الحديث، ولاسيما مفهوم الأمة (NATION) والقومية (NATIONalisme) وما يرتبط بهما من قضايا الهوية والذاكرة والثقافة واللسان.

وبالرغم من أن أغلب المداخلات كانت باللسان الفرنسي إلا أنها أهملت السياق التاريخي الذي أنتج “النزعة القومية”، وبالتالي أهملت الخلفيات الأيديولوجية والسياسية والعلمية التي كانت وراء بروز تيارين قوميين  على الصعيد العالمي: القومية المدنية (Nationalisme Civique) والقومية الإثنية (Nationalisme Ethnique)، وهما تياران لا يمكن فهم التحديات إلا في ضوئهما، سواء التحديات على المستوى الأممي أو على المستوى المغاربي بشكل خاص.

كانت مداخلة الأستاذ كريم أوراس في موضوع (البراديغما النقدية لدراسة حقائق اللسان في الجزائر). وانطلاقا من زاوية نقدية، تمحورت مضامين المداخلة حول جملة من المفاهيم والإشكاليات ذات الصلة بالملف اللساني والممارسات اللغوية في الجزائر؛ ليخلص إلى ضعف التجربة في علوم اللغة وضرورة الذهاب إلى سياسة لسانية اجتماعية وعقلانية، وفي ذات الإطار جاءت المداخلة الثانية من تأطير الدكتور زكريا علي بن شريف في موضوع: (حالة البحث السوسيولساني في الجزائر: الالتزام، التدخل والتطور المحلي)، قارب فيها جملة من الإشكاليات ذات الصلة بالمهارات والجانب البراغماتي والتثمين والاعتراف.

المداخلة الرابعة أطرتها الدكتورة ابتسام شاشو تحت عنوان: (التداخل اللساني بوصفه عنصر  تفكيك علوم اللغة: نزعة المراجعة نموذجا).

أثارت جملة من الإشكالات والمفاهيم ذات الصلة بعلوم اللغة والوضع اللساني في الجزائر انطلاقا من تعقد الحقائق وتضارب الخطابات  وذاكرات الجماعات متسائلة عن الجدوى الاجتماعية من المقاربة السوسيو-لسانية.

الباحثة التي سبق أن عالجت، في كتابها “الوضعيّة السوسيولسانية في الجزائر”، المفارقات التي تعيشها الجزائر في مواجهتها لتعدّدها اللساني، ترى أن المسألة اللسانيّة بالغة التعقيد بسبب تعدّد مستويات استعمالاتها وتنوّع مجالات تداولها. وقد سعت إلى لفت الانتباه إلى السجال والجدل حول الهوية الجزائرية التي يؤطرها مثقفون من مواقع متضاربة تسعى إلى استعادة الماضي وإعادة النظر في كل شيء بهدف تفكيك الإشكالات اللسانية والهوياتية الراهنة سواء من فاعلين يعملون على رسملة ما هو أمازيغي أو من فاعلين يعملون على إعادة الاعتبار للتاريخ الفينيقي والبونيقي وتجليات هذا التاريخ لسانيا في ما هو أمازيغي وما هو عربي على حد سواء.

هذه النزعة التمحيصية (Révisionnisme) التي تعمل على مراجعة كل شيء، اتخذت منها الباحثة نموذجا، انطلاقا من أن التداخل اللساني أصبح مدخلا أو عنصر تفكيك وتحرير علوم اللغة من العوائق ( élément de décloisonnement des Sciences du langage ) ولاسيما في مجال التواصل.

الجلسة الثالثة التي جاءت تحت عنوان “الألسنة في الجزائر”، عالجت نفس إشكاليات الجلسة الثانية من زوايا متنوعة، حيث أطرت الأستاذة خولة طالب مداخلة في موضوع “الإشكالية العامة للألسنة في الجزائر”، وأطر المداخلة الثانية الباحثان جمال بلعربي والأزهري الريحاني في موضوع “اللسان العربي في تغيراته السوسيولسانية والعمق التاريخي”؛ بينما أطرت المداخلة الثالثة الأستاذة فاطمة الزهراء بن عيشة في موضوع “اللسان الفرنسي والألسنة الأجنبية: كشف الشروط السياسة الحقيقية للألسنة”. وقد تمحورت المداخلات حول جملة المفاهيم التي تؤطر الملف اللساني في الجزائر من تمثلات وممارسات تفتقد إلى شروطها العلمية وسياقاتها التاريخية والسياسية.

جاءت الجلسة الأولى من اليوم الثاني تحت عنوان: “العلوم الاجتماعية والمجتمعات”، أطّر مداخلتها الأولى الباحث في العلوم السياسية رشيد تلمساني في موضوع “النيوليبيراليزم وأزمة العلوم الاجتماعية”.سعى الباحث إلى تشريح أزمة العلوم الاجتماعية في تجلياتها المتعددة وعدم نجاعة الحلول التي صاحبتها، مؤكدا أن الأزمة بنيوية ودائمة ومتعددة الأوجه من حيث أن هذه الأزمة تزداد تعاظما كلما توغل الباحث في رصد عناصرها. وقد أرجع أسباب الأزمة إلى غياب المهارة والمعرفة والقطائع بين الأجيال متسائلا عن حصيلة التعريب وعلاقته بقطاع العلوم الاجتماعية؟ وهل كان قيمة مضافة أم عائقا ساهم في تعميق من الأزمة؟ داعيا إلى انتهاج سياسة النقد الذاتي وتجاوز الطابوهات والمقاربات السطحية.

وخلاصة القول في مداخلته هي أنه منذ الثمانينيات، لم تتوقع العلوم الاجتماعية والإنسانية الأحداث الكبرى التي ميزت العالم. لم تتوقع أي براديغما، على سبيل المثال، سقوط جدار برلين، والإسلاموية، والربيع العربي، والحرب الحالية بين أوكراينا وروسيا. واتهم النسق الدوغمائي الجديد الذي أنتجته النيوليبيراليزم بعدم الاهتمام بالمخاطر والقضايا الاجتماعية والجيوسياسية الجديدة.

وحول غياب الجامعة عن النقاشات الديمقراطية، اعتبر التحليل النقدي لهذه الظاهرة في الجزائر هو شرط منهجي وفلسفي مسبق لفهم الأزمة العميقة التي تمر بها الجامعة، وخاصة أزمة العلوم الاجتماعية والإنسانية.

أما في المداخلة الثانية، التي أطرها الباحث الطيب كنوش في موضوع “السوسيولوجيا في الجزائر: علم أبكم في مجتمع ثرثار” خلص أن هناك عجزا سوسيولوجيا في مجتمع يعاني من تشوش ابيستيمي لا يستجيب إلى السوسيولوجيا. وفي سياق استئناسه برؤى بعض المثقفين على غرار كاتب ياسين، جمال غريد وعبد القادر لقجع وعبد القادر صلصال وعبد القادر علولة… وصف بشكل تهكمي السوسيولوجيا في الجزائر بالمهادنة وعديمة المشاعر.

المداخلة الثالثة التي أطرها الأستاذ رابح السبع في موضوع “اللسان والمجتمع: العلوم الاجتماعية بين الإكراه  التعبيري والتطلب المعرفي”.

وانطلاقا من سؤال الجدوى من العلوم الاجتماعية ألقى بالضوء على نفس الهواجس التي عبرت عنها باقي المداخلات، واصفا العلوم الاجتماعية في الجزائر بالإفلاس. ورأى أن هذا الحقل العلمي، عرف، منذ أربعة عقود، بداية تحوّل، عملت على تأسيس سيرورة استبدال لساني (substituabilité linguistique) لم تكشف بعد عن كل حقائقها. ووفق وجهة نظره، فإن سيرورة الاستبدال اللساني، بوصفها إكراها للاستخدام اللغوي، كسرت فرضية علاقة التناظر بين التعبير اللساني لواقع اجتماعي معين وأنماط قول هذا الواقع نفسه. يبدو الأمر، تعبيره، كما لو أن هناك خطابين، أحدهما ضمني والآخر صريح، وبالتالي لغتان، تسيران جنبا إلى جنب دون تقاطع. الخطاب الذي أنشأه الواقع الاجتماعي والذي يحيل إلى هذا الواقع نفسه، والذي يجب فك شفرته وقراءته وتفسيره قبل “قوله”، والخطاب الذي طورته العلوم الاجتماعية لهذا الواقع نفسه.

في ظل هذه الشروط، يضيف الباحث، عملت سيرورة الاستبدال اللساني على توسيع المسافة المزدوجة الموجودة بين لغة العلوم الاجتماعية ولغة المجتمع، حيث لا وجود لعلاقة تفاعلية بين الحقلين: السيمانطيقي السوسيولوجي والسيمانطيقي المجتمعي، كفضاء للدلالات في الصياغة وإعادة الصياغة.

وحول قراءة ما هو واقعي في المجتمع، في إطار التعلم المزدوج للسان والمعرفة المتزامنة من قبل العلوم الاجتماعية، هذه القراءة تتحدد بإعطاء الأولوية لهاجس التعبير على متطلبات الإدراك، حيث هاجس التسمية كان يسبق دائما هاجس الفهم.

ليخلص إلى أن هذا المنطق المتمثل في البحث عن نمط للتعبير، وفي سياقه، تتخلى العلوم الاجتماعية عن التعقيدات المتعلقة بالاستفهامات، من حيث أن العلوم الاجتماعية، في بلد ما، تكون استفهاماتها الأساسية في إعادة صياغة كاملة ليقينياتها، على غرار: كيف نواجه الأزمة المعممة للسلطة؟ كيف نفسر اضمحلال الجسد الاجتماعي؟ كيف نحيط فهما بأزمة الرابط الاجتماعي؟ كيف وبأية وسيلة نقرأ جماعة اجتماعية وثقافية في حالة من الاضطراب، وفي ضيق هوياتي ووجودي؟ … وهي استفهامات تبقى مرتبطة بكيف؟ وبأية لغة يكون التعبير عنها؟

المداخلة الرابعة، أطرتها الأستاذة نادية كاشا تحت عنوان: “السيكولوجيا الكلينيكية في الجزائر”، واستهلت حديثها عن صعوبة الطريق التي دشنت البدايات في علم النفس الصناعي خلال فترة التصنيع ومشاكل التوظيف، في مجتمع لم يكن مستعدا وكان الأكل بالنسبة له أولى من السيكولوجيا.

وإذا كان المجتمع التقليدي حساسا لكل ما من شأنه أن يتدخل في حميميته ، فإن الإدارة الصحية، تقول الباحثة، كانت مترددة في منح مكان لتخصص جديد دون تقاليد طبية. وهو الأمر الذي كبح هذه المهنة ضد الولوج إلى قطاع الشغل.

وأكدت أنه لولا التصميم والروح القتالية لمجموعة من علماء النفس، معظمهم من النساء، ولولا هذا النضال الذي منحه الوجود والمكان والمشروعية لما كان تطور هذا التخصص ممكنًا، داعية الأجيال الشابة أن يكونوا دائمًا متحدين وعلى أهبة الاستعداد للدفاع عن هذا الميراث.

https://anbaaexpress.ma/9slfw

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى