“من سوء حظ زماننا أن يرى رجال فكر، أو رجالا يقولون إنهم رجال فكر، يقسمون على عدم إخضاع نزعتهم القومية لأي رقابة تضعها تحت سلطة أي حكم صائب يمارسه الحسّ السليم معلنين”.. المفكر جوليان بندا
لقد كان المفكر الفلسطيني أدوارد سعيد سباقا، في طرح فكرة الولاء وخيانة المثقف، في إطار إشكالية سلطة المعرفة وسلطة السياسة، على اعتبار أن المثقف يحمل خطابا عقليا /نقديا يواجه به الوهم العقائدي والأيديولوجي للعصبيات، ويؤسس لفكر كوني قوامه الدفاع عن الحرية والكرامة الإنسانية والمساواة الأخلاقية. ومن هنا تأتي شرعية إشكالية مفهوم الثقافة والمثقفين في علاقتهم بالسلطة في زمننا العربي الحالي؟ وهل الوصف بالخيانة نوع من التوبيخ التأكيدي على الانزياح الفكري والأخلاقي الحقيقي للمثقف؟
في نظر أدوارد سعيد أن المثقف يحاكم من خلال مواقفه في قضايا معينة من مصيرية أمته. هكذا كان نهجه في وضع أو تحديد معايير المثقف، وهكذا فعل جوليان بندا حين تحدث عن «خيانة المثقفين» في فرنسا.
ففي كتابه «صور المثقف» وهو يضم ست محاضرات ألقاها أدوارد سعيد في هيئة الإذاعة البريطانية في ما يسمى «محاضرات ريث».
بعدما عرض تمثلات المثقفين كغرامشي، وبندا، وفوكو.. واستطاع أن يخرج بمفهوم حديث للمثقف ودوره وإشكالية كينونته بين قوة المعرفة وسلطة التشوية السياسي.
فحينما يقدم أدوارد سعيد، تمثلات المفكر الفرنسي جوليان بندا (1867 – 1956) للمثقف في الطرف المقابل، فإنه يقدم شخصية فكرية غيرت المشهد الثقافي الفرنسي، حيث أصبح يعرف بمرحلتين، المرحلة الأولى، ظهور كتاب «خيانة المثقفين» سنة 1927، والأثر الذي تركه في الرأي العام الثقافي.
والمرحلة الثانية، سنة 1946، بعد الطبعة المنقحة بمقدمة جديدة له بعد الحرب العالمية الثانية، بعد المراجعة التاريخية للمثقفين الفرنسيين الذين تعاونوا مع النازيين، والمثقفين الذين تحمسوا بلا هوادة وانساقوا مع الشيوعيين. يصف بندا المثقفين أولا؛ على أنهم جماعة صغيرة جدا من الملوك -الفلاسفة الموهوبين المتفوقين، الذين يتمتعون بالأخلاق العالية ويمثلون بالتالي ضمير البشرية.
ويقول بندا: «المثقفون الحقيقيون، هم أولئك الأشخاص الذين لا تنضب قتاليتهم بالضرورة على السعي وراء الغايات العملية، أولئك الذين يبحثون عن سعادتهم في ممارسة فن أو علم أو التأمل الميتافيزيقي.
إنهم باختصار أولئك الذين يسعون إلى تحقيق المنافع غير المادية، وبالتالي فإن الواحد منهم يقول لنفسه: مملكتي ليست من هذا العالم».
وعلى كل حال فإن الأمثلة التي يضربها للمفكرين تبرز بوضوح وجلاء، أنه لا يصادق على نموذج المفكرين المتحررين من التبعات، المتطرفين تماما من هذا العالم المقيمين في أبراج عالية، المنعزلين بصورة تامة، مكرسين أنفسهم للموضوعات العويصة، ولربما الخفية الملغزة. إن المثقفين الحقيقيين في نظره، يقومون بوظائفهم الطبيعية، عندما تحثهم العاطفة الميتافيزيقية، ومبادئ العدالة الحقيقية النزيهة لكي يشجبوا الفساد، ويدافعوا عن الضعفاء وينقذوا السلطات الجائرة، أو غير الشرعية، مؤكدا على أنه «لا حاجة لأذكر كيف أن فينليون وماسيون، شجبا بعض الحروب التي شنها لويس الرابع عشر.
وكيف أن فولتير أدان تدمير البلاثينات، وأن رينان شجب بوكل، والتعصب الذي مارسته إنكلترا ضد الثورة الفرنسية. أما في زمننا فقد استنكر نيتشه الوحشية الألمانية تجاه فرنسا». وحسب المفكر جوليان بندا فإن مشكلة أبناء هذا الزمن هي أنهم حولوا سلطاتهم الأخلاقية إلى ما يسميه بتعبير يدل على نفاذ البصيرة، منظمة العواطف الجماعية، قبل الطائفية، ووجدان الجماهير والولع بالقتال ومصالح الطبقة. لقد كتب المفكر جوليان بندا هذا الكلام عام 1927، أي قبل حلول عصر وسائل الإعلام الجماهيري، ولكنه أحس كم هو ضروري بالنسبة للحكومات أن توظف في خدمتها مثقفين لا تطلب منهم أن يتبوؤا مراكز قيادية، بل أن يعززوا سياسات الحكومة، ويطلقوا الدعاية ضد الخصوم الرسميين، وأن يقوموا بإطلاق عبارات لطيفة لأشياء بغيضة، وعلى نحو أوسع وأن يقوموا بإنشاء أنظمة قاتلة من الصفة الأورولية، التي تعمل على حجب حقيقة، ما يحدث باسم الحفاظ على مصلحة المؤسسة أو الكرامة القومية.
يقول إدوارد سعيد، لا تكمن قوة تشكي المفكر «بندا» من خيانة المثقفين من براعة حججه، لا في تبنيه نظرية مطلقة مستحيلة، بل التحقق في ما يتعلق بوجهة نظره التي لا تقبل أنصاف الحلول، بخصوص المهمة التي ينتدب المثقفون أنفسهم لها.
على المثقفين الحقيقيين، حسب تعريف بندا، أن يتحملوا إمكانية حرقهم على خازوق، أو ينفوا أو ينبذوا من قبل المجتمع، أو أن يصلبوا.
إن المثقفين، شخصيات رمزية بارزة يتميزون ببعدهم العنيد من الاهتمامات الدنيوية العملية، وبالتالي فإنهم لا يمكن أن يكونوا أكثر عددا، أو أن يتطور الواحد منهم بصورة روتينية، عليهم أن يكونوا أفرادا كاملين يتمتعون بشخصيات قوية. لهذه الأسباب فإن مجموعة المثقفين بالمعنى الذي يقصدهم بندا، هم بالضرورة مجموعة من الرجال قليلة العدد، معروفة تماما للملأ، تخاطب أصواتهم الجهورية البشرية ويصبون لعناتهم الفظة عليها من عل. ولا يقترح بندا على الإطلاق كيف يتوصل هؤلاء الرجال إلى الحقيقة، أو في ما إذا كانت تبصراتهم العمياء، في المبادئ الأبدية والسرمدية، كما كانت تبصرات دون كيشوت، مجرد خيالات شخصية صغيرة.
يرى أدوارد سعيد أن رسالة المفكر بندا «خيانة المثقفين»، قد عوملت من قبل الأجيال التالية له، بوصفها هجوما لاذعا على المثقفين، الذين يهملون نداءهم الداخلي، ويساومون على مبادئهم، أكثر من كونها تحليلا نظاميا لحياة المثقف. إنه في الحقيقة يستشهد بعدد قليل من الأشخاص، الذي يعدهم مثقفين حقيقيين، يذكر بندا، اسم سقراط والمسيح مرات عديدة، كما أنه يذكر أمثلة حديثة مثل سبينوزا وفولتير وأرنست رينان.
إن ماحاول تقديمه أدوار سعيد في فكر جوليان بندا، بصفته مثقفا عضويا، صرخة بندا في وجهة خيانة مثقفي عصره، الذين اعتبرهم بمثابة الضمير الحي للبشرية، الذين خانوا الفكر الأصيل، أي محاربة الواقعية السياسية والنزاعات القومية.
يمثل المثقفون الحقيقيون نخبة، مخلوقات نادرة في الحقيقة، لأن ما يسندونه هو معايير الحقيقة والعدالة الأبدية، التي لا تنتمي أبدا إلى هذا العالم، ومن هنا يجيء التعبير الديني الذي أطلقه بندا عليهم – الإكليروس. لكي يميزهم في المكانة والوظيفة عن سواد البشر، البشر العاديين المنشغلين بمصالحهم المادية وأسباب التقدم والرقي الشخصي، وإذا وسعهم الأمر فهم أولئك البشر الذين يرتبطون ارتباطا وثيقا بالسلطات الدنيا.
ومع ذلك فإن أدوارد سعيد لا يشك في أن صورة المثقف لدى المفكر جوليان بندا، تظل بصورة عامة جذابة وتفرض نفسها بقوة.
إن الأمثلة الإيجابية والسلبية، التي يضربها مقنعة جدا ومن ضمن تلك الأمثلة دفاع فولتير عن عائلة كالاس. ولكننا نستطيع أن نعثر عميقا تحت سطح البلاغة المقاتلة، لعمل بندا الشديد المحافظة على المثقف الرافض، المثقف القادر على قول الحقيقة للسلطة، والفرد القاسي الفظ الفصيح اللسان والشجاع بصورة مدهشة، الفرد الغاضب، الذي يرى أن أي سلطة دنيوية، كبيرة ومهابة الى الحد الذي يجعلها غير قابلة للنقد واللوم والتوبيخ. إن تحليل غرامشي الاجتماعي للمثقف، بوصفه شخصا يؤدي مجموعة من الوظائف المحددة في المجتمع، أقرب الى الواقع بكثير من أي شيء يقوله لنا جوليان بندا، حيث تثبت العديد من الوظائف الجديدة ـ المذيعين والمختصين الأكاديميين والمحاسبين الخ.
وفي الحقيقة جميع الوظائف الخاصة بالإعلام الجماهيري بأسره – صحة نظر غرامشي.
إن ما حاول تقديمه أدوار سعيد في فكر جوليان بندا، بصفته مثقفا عضويا، صرخة بندا في وجهة خيانة مثقفي عصره، الذين اعتبرهم بمثابة الضمير الحي للبشرية، الذين خانوا الفكر الأصيل، أي محاربة الواقعية السياسية والنزاعات القومية. وانقادوا لإغراءات السلطة السياسية وأهواء الجماهير.
على حساب دورهم الثقافي ومسؤولياتهم الأخلاقية بالانتصار لقيم الحرية العدالة والكرامة الاجتماعية. وسقوط اطروحاتهم المبنية على قضايا أيديولوجية، وجماعات منغلقة، تدعو إلى زرع بذور الكراهية والحقد والكراهية. وعلى أنها بمثابة إعلان مبادئ المثقفين الأحرار، لكي لا يسايروا أهواءهم وأهواء السلطة، ويخونوا الحقيقة، بل يكونوا في مستوى المعرفة المطلوبة، وتنمية الوعي الاجتماعي والجمالي.
لقد وضع أدوارد سعيد يده على الجرح الثقافي، الذي أراده جوليان بندا من خلاله الدفاع عن القيم الإنسانية، بدون السقوط في مخالب السلطة، حيث يقول أدوارد سعيد: «إن مشكلة الولاء محدقة دائما بالمثقف وتتحداه بدون رحمة.
وكلنا بلا استثناء منتمون إلى جماعة قومية، أو دينية، أو عرقية ما، فما من أحد، مهما كان مقدار الإصرار على عكس ذلك، يعلو فوق الروابط العضوية، التي تشد المرء إلى العائلة والجماعة، وبالتأكيد إلى الجنسية. إن الشعور بأن شعبك مهدد بالانقراض السياسي، بل بالانقراض الفعلي أحياناً، يلزمك بالدفاع عنه، وببذل أقصى طاقتك لحمايته، أو لمقاتلة أعداء الأم (كالحالة الفلسطينية مثلاً)..
السلام عليكم، تحية من استاذة جامعية بكلية الحقوق جامعة القاضي عياض مراكش سابقا ثم بجامعة الحسن الاول.
مقال جيد، السؤال الحارق: ماهو التكييف السياسي والعلمي للمثقفين المغاربة حاليا؟
اهلا اخت الفاضلة امينة جبران، شكرا على مرورك على مقالتي . الموضوع الذي طرحته يحتاج الى بحث فريق اكاديمي لتبيان هذا الخلل العضوي في جسد المثقف المغربي ، الذي اصبح دوره افتراضيا في صناعة الراي العام . كل ما نحتاجه الان هو المثقف المشتبك مع قضايا وطنه حاليا . تحياتي