آراءثقافة

العنصرية المعرفية الأوروبية والفلسفة الإفريقية

هزمناهم ليس حين غزوناهم، بل حين أنسيناهم تاريخهم وحضارتهم "الشاعر اليوناني سيمونيدس"

هل كانت هناك حضارات إنسانية في إفريقيا؟ وهل أنتجت هذه الحضارات فكرا فلسفيا كان له أثر في تاريخ الفلسفة العالمية؟ قد يميل البعض من المنتمين إلى النزعة الأوروبية المركزية، إلى نفي هذا التاريخ، وإلى القول بأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ هذا النمط من التفكير في الثقافة الغربية فقط.

ولكننا نرى بالاستناد إلى وقائع التاريخ الفعلي أن القارة الإفريقية، لم تخل من تاريخ حضاري كان من بين أهم لحظاته الحضارة الفرعونية القديمة التي امتدت إلى أكثر من 3000 عام.

لقد كانت رحلة الإثبات المعرفي للإنسان الافريقي، أنه صاحب هذه الحضارة العظيمة، شاقة احتاجت إلى عقلية فلسفية ونضال فكرى عميق، لإثبات التطور الحضاري في افريقيا، وأنها عرفت الحكمة إنسانية أو اقترب من الفلسفة أو مهدت لها.

الفلسفة الغربية والإنسان الإفريقي الأسود

في كتابه «ما هي الفلسفة» يعتقد الفيلسوف مارتن هايدجر، أن الفلسفة هي في الأساس غربية وأنها تتحدث اليونانية فقط، وهذا يعني أن الغرب فقط هو في الأصل مصدر كل الفلسفات الكونية، في السياق نفسه يرى الفيلسوف وعالم الاجتماع وانتيولوجي الفرنسي لوسيان ليفي بروهل 1857 ـ 1939، في كتابه «العقلية البدائية» سنة 1920 أن: « العقل الزنجي غير عقلاني وهذا بمعني أنه غير قادر على التصور والتجريد».

ثم يأتي الفيلسوف هيغل، المعروف بتطرفه الإمبريالي، في كتابه «مبادئ.. فلسفة القانون» ليقول: «الزنجي يمثل الإنسان الطبيعي في كل الوحشية والمكابرة، ويجب أن يتجاهل كل الاحترام والأخلاق، وما نسميه بالشعور، إذا أردنا أن نفهمه. لا شيء يمكن إيجاده في هذه الشخصية يذكرنا بالإنسان».

وكذلك وفقا لهيغل العقل العلمي غير متاح للزنجي، لذلك في هذه الحالة يقترح أن يتم انتزاعه من هذه البدائية، بفرض فضائل الثقافة الأوروبية عليها من خلال الاستعمار، قائلا: «لقد منح الاستعمار الصفة البشرية أكثر بين الزنوج».

لقد كانت الطروحات الفكرية الأوروبية، لأكثر من قرنين، تؤكد على أنه لا دور حضاري أو فكري للإنسان الأسود الزنجي، وأن الحضارة المصرية بحد ذاتها حضارة شرق أوسطية لا علاقة لها بإفريقيا السوداء، وأن إفريقيا السوداء لا تعرف الكتابة، وكل تراثها شفاهي وموشومة بثقافة الأدغال والسحر الوثني.

الحضارة الفرعونية رحم كل الفلسفات

توفرت في الحضارة المصرية التي امتدت أكثر من 3000 عام، كحضارية نهرية (النيل الإفريقي)، كل خصائص ومقومات الحضارة الإنسانية.

وكان العقل الثقافي الفرعوني المصري سباقا إلى بلوة الكتابة الهيروغليفية، وإلى الفنون البصرية من رسم ونحت وإلى فلسفة فكرة الخلود. ومن ثم بدأت إرهاصات مغامرة العقل الفرعوني الأولى في سؤاله، عن ماهية الوجود وغايته وأصل الأشياء، وعن خلق الكون؟ ومن الذي قام بخلقه؟ هذا السبق المعرفي التاريخي، خلق منطقا فلسفيا مصريا لفك رموز إشكاليات المحسوسات والمدركات البصرية بغير البصرية.

في زمن لم تكن اليونان متواجدة فيه كعرق، أو حضارة، أو مدن متناحرة ومتفرقة في الجزر. (فعلى سبيل المثال حوالي 2550 أتقن المصريون الأساسيات لبناء الأهرامات (الهندسة، علم المثلثات وعلم الفلك) ونسمع لأول مرة عن الهندسة في اليونان فقط ما بين أعوام 640/650 ق.م.).

لقد تميزت الفترة ما بين القرنين السادس قبل الميلاد والثاني بعد الميلاد، بزيارة عدد كبير من الإغريق لمصر، من مؤرخين وفلاسفة ومشرعين ورحالة. وشجعهم على ذلك أن مصر بدأت منذ الأسرة 26 في استخدام الأيونيين والكارين والإغريق في جيشها كمرتزقة.

فكما ذكر ديودور الصقلي أن علماء الإغريق وفلاسفتهم، كانوا يعتبرون رحلتهم عبر المتوسط من الرحلات التقليدية، لكشف أسرار الحكمة والمعرفة المقدسة التي يحتفظ بها الكهنة في المكتبات والمعابد الفرعونية. فكان الفلاسفة والمؤرخين يفدون إليها جماعات لتلقي أنواع العلوم المختلفة في جامعات مصر القديمة مثل، هرموبوليس جامعة أبيدوس (العرابة المدفونة) ممفيس (منف) طيبة (الأقصر).

وجامعة الإسكندرية التي أنشئت في عهد بطليموس (الاحتلال اليوناني لمصر)، تضم حوالي مليون لفافة وبردية وموسوعة في مختلف العلوم والفنون والعقائد.

وإن أول أساتذة مكتبة الإسكندرية هم الكهنة المصريون، وإن الباحثون وتلامذة أرسطو تلقوا تثقفيهم العلمي على أيدي الكهنة المصريين ودراستهم لمجلدات مانيتون، حيث نجد أن هيرودوت الرحالة اليوناني، الذي زار مصر في القرن الخامس، إبان الاحتلال الفارسي. هو أول من أعلن أن أسماء جميع الآلهة الإغريقية أصلها مصري بقوله: “في الواقع نجد أن معظم أسماء آلهة الإغريق جاءت بلاد الإغريق من مصر”.

وهذا القول عرّض هيرودوت، للهجوم الشديد من اليونانيين، ووصفوه بأنه محب للأجانب. ويقول الشيخ أنتا ديوب السنغالي في كتابه “الأصل الافريقي للحضارة: وهم أم حقيقة؟”، “أن سولون، طاليس، أفلاطون، وليكوجروث وفيثاغورث واجهوا صعوبات قَبل قبولهم كطلاب من طرف المصريين”، ومن ثم أدركت وأدركت بوضوح أن أفكار معظم العلماء الإغريق المشهورين، خاصة أفكار أفلاطون وأرسطو، منشؤها في مصر.

وأدركت كذلك بأن العبقرية الخارقة للإغريق هي تقديمهم أفكار المصريين القدامى بشكل مهضوم، خاصة من أفلاطون، وقد عجزت أن أفهم كيفية قيام الإغريق القدامى بحصاد ثمار أفكار اقتبسوها من المصريين القدامى.

كما ناقش جورج. جي. أم. جيمس في كتابه «التراث المسروق.. الفلسفة اليونانية فلسفة مصرية مسروقة»، موقف حكومة أثينا من الفلسفة اليونانية، قائلا إن الحكومة كانت تنظر إليها باعتبارها فلسفة أجنبية المنشأ. كما كان فلاسفة اليونان «مواطنين غير مرغوب فيهم» حيث كانت السلطة تضطهدهم ومنهم، أناكسا جوراس الذي سُجن ثم نُفي، كما أُعدم سقراط وبيع أفلاطون في سوق النخاسة وقدم أرسطو للمحاكمة ثم نُفي. أما أسبقهم جميعا وهو فيثاغورس (نحو 572-500 قبل الميلاد) فقد طردته السلطات وأبعدته عن البلاد إلى إيطاليا.

كانت فكرة استيعاب أن يأتي أناس «سود»، بمثل هذه الحضارة العظيمة والاعتراف بها دربًا من دروب المستحيل، التي خاضها بشجاعة وضراوة كتّاب أفارقة من أمريكا الشمالية، وبعض الجزر السوداء كهايتي والانتيل، وغرب افريقيا متمثلة بالسنغال.

المرجعية التاريخية والثقافية للحضارة الافريقية

وفي مواجهة هذه التصريحات المثيرة للجدل والاستفزازية التي تنطوي على عبارات عنصرية وإمبريالية، سيشعر الأفارقة بأنهم ثائرون على هذا التمييز الفكري. وعلى هذا المستوى، كانت هناك حاجة إلى البحث عن جذور الفلسفة الافريقية، كرد فعل على الأقل.

وفي هذا السياق ولدت المناقشة حول الفلسفة الافريقية، فلسفة دفاعية حشدت من أجل مقاومة هجمات المستعمر، لقد رفض كل المفكرين والمثقفين الأفارقة السود خصوصا، في أمريكا الشمالية، وغرب أفريقيا، هذه النظريات العنصرية والعرقية، واتجهوا نحو حضارة افريقيا الأولى، الحضارة الفرعونية، وأصبحت وسيلتهم للدفاع عن عبقرية الإنسان الأسود الافريقي، الذي علّم اليونان الفلسفة والموسيقى والرياضيات والعلوم.

فحسب المفكر السنغالي الشيخ أنتا ديوب، فإن الحضارة المصرية هي مهد كل الحضارات الإنسانية، وكانت مهدا للعلم والثقافة، من خلال العديد من العلوم التي قدمتها، فكانت قبلة العلماء والمفكرين في الزمن القديم، فلا يمكن إجراء مصالحة الحضارية إلا بالعود الأولى للتاريخ الفرعوني الافريقي القديم.

مثلت النظرة الدونية للحضارة الافريقية المحرك والحافز الذي دفع الشيخ أنتا ديوب للبحث في التاريخ الافريقي، لإثبات أن الحضارة الافريقية لا تقل عظمة عن الحضارة الأوروبية.

وقد انعكس ذلك في مشروعه الفكري، الذي يدور حول نظريتين أساسيتين، أولهما نظرية «المهدين»، التي حاول من خلالها إثبات أن المهد الأول للبشرية كان في افريقيا في منطقة كينيا، وحول المنطقة التي تضم إثيوبيا وتنزانيا وتنتشر على طول الطريق إلى جنوب افريقيا، وثانيهما نظرية الفرعونية أو نظرية «الأصل الواحد للبشرية»، التي تعني مرجعية للقارة أو شكلاً للهوية الافريقية، وحاول من خلالها إثبات أن الحضارة المصرية القديمة هي حضارة زنجية سوداء.

ويستشهد الباحث السنغالي الشيخ أنتا ديوب بشهادة تاريخية للمؤرخ الإغريقي هيرودوت، الذي سجل في ملاحظاته، و مشاهداته عند زيارته لمصر أن المصري كان صاحب بشرة سوداء داكنة (بمعنى أنه ليس أبيض كاليونانيين).

كما أكد الشيخ أنتا ديوب، أن كل ذخائر المتحف المصري من الحضارة الفرعونية، تؤكد للزائر الأصل الزنجي للحضارة الفرعونية، كلون المومياوات السود، والرسوم على الجداريات سواء في المعابد، أو بالمقابر، وكذلك لون تماثيل الملوك والملكات الفراعنة.

إلى جانب العبقرية الهندسية والفن والإبداع ومنتجات علوم الكيمياء والفيزياء والفلك في مصر الفرعونية.

يقول كذلك الكاتب الأمريكي الافريقي جورج. جي. أم. جيمس، في كتابه السابق، إن مصطلح الفلسفة اليونانية أو الإغريقية بل يراها تسمية خاطئة، ويشدد على أن من يعرفون بأنهم فلاسفة اليونان، لم يكونوا أصحاب هذه الفلسفة «وإنما أصحابها هم الكهنة المصريون وشراح النصوص المقدسة والرموز السرية» للكتابة والتعليم.

ويضيف أن الفلسفة المصرية غير المكتوبة، التي تمت ترجمتها إلى اليونانية القديمة هي وحدها فقط التي وجدت هذا المصير البائس.

التحرر من عبودية النقص الحضاري

لقد كانت فكرة إستيعاب أن يأتي أناس «سود»، بمثل هذه الحضارة العظيمة والاعتراف بها دربًا من دروب المستحيل، التي خاضها بشجاعة وضراوة كتّاب أفارقة من أمريكا الشمالية، وبعض الجزر السوداء كهايتي والانتيل، وغرب افريقيا متمثلة بالسنغال.

واستطاعوا التغلب على السردية اليونانية في شقها الأوروبي العنصري الإقصائي، التي ألهت رموز الميثولوجيا والفلسفة اليونانية، ونالت لوحدها شرف نقل الفكر الفلسفي للعالم.

ونعتت القارة السمراء بالقارة المظلمة، إن الحضارة الافريقية، وفق الشيخ أنتا ديوب هي الأقدم، وهي التي أثّرت بشكل إيجابي في مختلف الحضارات، بدون أن تأخذ نصيبها من الإعتراف، وكان لمصر الفرعونية إسهام عظيم في منطقة وادي النيل بأكملها، فلا يمكن إجراء المصالحة بين افريقيا والتاريخ، إلا بالعودة لتاريخ مصر القديم، الذي أسسه الأجداد، حيث أصل الحضارة والثقافة والعلوم، وحيث العالم كله يدين في ازدهاره لحضارة مصر الافريقية.

ويعرب كذلك الكاتب الافريقي الأمريكي جيمس، عن سعادته لأنه استطاع أن يلفت «أنظار العالم» إلى هذه القضية، التي يأمل في أن تساعد كل من لهم أصول افريقية إلى التحرر من «عبودية عقدة النقص»، وأن يشعروا بالحرية ويتمتعوا بكل الحقوق والامتيازات الإنسانية.

ويضيف في ما يشبه التلخيص أن “أصحاب الفلسفة اليونانية الحقيقيين، ليسوا هم اليونانيين القدماء بل شعب شمال إفريقيا، الذي اصطلحنا على أن نسميهم المصريين، وهم أحق بالتكريم الذي حظي به اليونانيون زيفا على مدى قرون”.

هذه السرقة للتراث الإفريقي على أيدي اليونانيين القدماء، قادت إلى رأي عالمي خاطئ يقضي بأن القارة (الافريقية) لم تسهم بشيء في تاريخ الحضارة. هذا هو التضليل الذي أضحى أساسا للانحياز العرقي والذي أضر بجميع الشعوب الملونة.

وبهذا الإنجاز الاعتباري خاطب المفكر الشيخ أنتا ديوب، الإنسان الافريقي قائلًا: «سوف تكتشف أن معظم الأفكار المستخدمة اليوم لتدجين، إضمار، تذويب، أو سرقة (روحك) قد جرى تصويرها بواسطة أسلافك، أن تكون مدركًا لهذه الحقيقة ربما تكون الخطوة الأولى لاسترداد حقيقي لنفسك، وبدون هذه الحقيقة فإن العقم الفكري سوف يكون هو القاعدة العامة».

https://anbaaexpress.ma/4rd6p

عبدالله الحيمر

كاتب وناقد ومفكر مغربي .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى