التوحش
طالما تتكرر في أوساطنا الاجتماعية (حياة الغابة) هذه العِبارة التي تكشف عن عمق الفوضى والتي ينتج عنها كوارث لا حدود لها، ما هي إلا إعادة التذكير في حقيقة غياب الإنسانية وإِحْلاَل التوحش.
صور التوحش لا ينبغي أن تختزل في المعاملة اللاإنسانية بالرغم أنها أعلى درجات التوحش، وليس التوحش يكمن فقط في النصوص الدينية كما كتب الباحث والكاتب د. علي الديري في كتابه “نصوص متوحشة ” و من الخطأ وصف التوحش بأنه حالة اضطرابات نفسية لتلقي تأثيراتها على سلوك الإنسان بإطلاق.
التوحش قد يكون كل ما ورد أو بعض منه ولعلى ما هو أكثر أهمية أن يتم تقديم محاولة إعادة قراءة التوحش وفق تحولات العصر.
ومن الممكن أن نرى التوحش كحالة فراغ ذاتي يشعر به الإنسان، ليواجه وحش الاغتراب النفسي والروحي عبر معول العقل الذي هو الآخر قد يقع تحت تأثير بيئة التوحش مما يفقد دوره الطبيعي.
إن البداية الأكثر واقعية في مواجهة التوحش هي في فهم تشكلاته ومراكز قوته من أجل مُحاصرته و ألا يصبح الصفة السائدة والطبيعية بين البشر.
ومما يؤسف أن بعض قوى الشر هي من تدير التوحش وتغذيه وهذا ما يُفسر استمراره وتطوره مُنذ عقود مما يجعل من الحد منه أو التغلب عمل شاق للغاية. ومن المهم الإشارة إلى بروكرستوس والمعنى في الميثولوجيا اليونانية تناولها كتاب (ظلال بروكرست، النص، المثقف، الطائفة – المؤلف نذير الماجد عن دار الانتشار العربي) والذي يعني حارس الطريق إلى إثينا، كان يضع المسافرين ويمددهم على وفق قامتهم، ساحباً أعضائهم أو مقلصا إياها، وذلك لكي يتوافق تلك القامات مع سريره الحديدي، لكن البطل “تيزيوس” قتله لتطهير ليخلص الأرض من شروره.
الكاتب هنا يُحدث عن وجود صورة متشابه تماما عن بروكرست حيث يجد النص يُمارس ذات الفعل “يحثنا فيلسوف التفكيك دريدا” على فضيلة التواضع والحذر والشك، بإحالته كل النص إلى نص شاغر، نص يستدمج فراغات بين السطور، نص لا متناه، يتضمن دائماً تلك التعاريف الهاربة كما يسميها الناقد التشيكي “كوندير“، هذا تماماً ما قد يفعله النص يُمارس سطوته حينما نضع مقاسات كما تتحدث الميثولوجيا اليونانية نُقيده في قوالب المعنى كنص نهائي مؤطر جاهز إلى أن يُمرر عبر شبكات العين والعقل ليتحول إلى مشروع توحش، وهذا ما نجده في العديد من النصوص التراثية أو المعاصرة المختومة بمهر الحقيقة النهائية كما يراها منتج النص.
نشأة التوحش
لو أردنا أن نؤرخ إلى نشأة التوحش لأخذنا وقت طويل وجهد كبير، وذلك لأن بعض الباحثين يرى أن بدايتها مُنذ حياة الإنسان القديم أي قبل حادثة تناول آدم وحواء للثمر من شجرة المعرفة والذي من خلالها خرج كل من هما من النعيم وما تلاها من أحداث نقلتها العديد من المصادر التاريخية.
أعتقد أن البحث التاريخي للتوحش على أهميته كمعرفة إلا أن وضع كيفية النشأة تحت مجهر التحليل سوف يساعد بالضرورة لفهم أعمق عن أبعاد التوحش والذي أصبح يمتلك صفة الاتساع نتيجة للمراكمة العلمية، مما فاقم من قوة التوحش.
فمن قصة هابيل وقابيل وغيرها مما ورد في تاريخ يعود إلى ما يقارب ألفين سنة وما تلاها من أحداث حتى يومنا وكيف أن العالم عاش حربين عالميتين وتلاها حروب عسكرية، و إقتصادية، وسياسية، ودينية، وحتى إجتماعية بين مختلف القوى و الاتجاهات الفكرية.
بالرغم من تأسيس منظمات وسن تشريعات قانونية دولية إلا أن كل هذا لم يمنع إيقاف والحد من التوحش الذي أهلك الحرث والنسل، لا يمكن أن تشتعل النار من دون مكون أساسي، كذلك التوحش والذي تشكل من خلال النص الدين المورث وفق القراءة التي قدمها د. الديري في كتابه “نصوص متوحشة“.
في هذه السلسلة من المقال سوف أحاول تسليط الضوء على جوانب لم تُعطى حقها في النقد أو حتى المكاشفة لأنها تُنتج الكراهية، والحروب الأهلية فضلاُ أنها تُشغل الإنسان عن البناء في مختلف مجالات الحياة وهذا ما نراه بوضوح كيف أن الكراهية دمرت الأوطان و الإنسان ولنا في العديد من دول العالم نماذج كالعراق، سوريا، ليبيا، لبنان، فلسطين والعديد من دول العالم.
دوافع التوحش
كل صورة من صور التوحش لها دوافع مشترك ومختلفة، وأما الدافع المشترك في تقديري هو تحالف الرأسمالية والفردانية بوصفها فلسفلة إذ كان التوحش الديني في مرحلة سابقة بالغ الخطورة مُنذ عقد من الزمن، “النصوص المتوحشة أنتجت في سياقات تاريخية سياسية كانت تتصارع حول شرعية الخليفة، كما أن إعادة إحيائها من جديد في العصر الحديث فرضتها ظروف سياسية أيضاً”، كتاب نصوص متوحشة د. علي الديري.
هذا إذ ما أكدنا أن الدول الغربية كبريطانيا وأمريكا وغيرها دعمت هذا التوحش لتحقيق أهداف سياسية رأسمالية في الشرق الأوسط وغيرها من دول العالم.
لم ينتهي الحديث حتماً أو حتى أصل إلى أعماق مُسببات التوحش لا سيما أنني هنا بدأت في التوحش الديني من خلال النص، إلا أن الحلقة القادمة سوف أستكمل وأضع بين الجميع الحقائق كما هي لا كما نُريد.
شكراً عزيزي، اكثرت من الاشارة لعلي الديري. هو نفسه متورط بالتوحش و الظن بأنه و جماعته الفرقة الناجية لذلك لن تجد له انتقاداً لجماعته ولا حتى اشارة بسيطة. بل أنه حتى مع حداثيته يبقى وفياً لمنشأه و لن ينبش موروثه المليء بالتوحش والكراهية.
التوحش يحتاج لبذرة عصبية تغذيها كراهية مستمرة تقود للجريمة.
يبدء حين يظن أحدهم أنه أعلى شأناً و أصحّ موقفاً من الاخرين.