
سألني أحدهم يوماً: هل فلان شيعي؟ قلت له: لست متأكداً، ولم أسأله، ولعله كذلك، تابع: أظنه شيعياً قلت له: وكيف عرفت؟ قال: من عينيه، كانتا تشعّان بالخبث! سكتّ أنا، ثم عقبت بسؤال: هل تعلم أين وُلِد فلان؟ قال: لا، قلت له: في مدينة الناصرية جنوبي العراق، تابعت بسؤال ثانٍ: لو وُلِدت أنت في مقاطعة بافاريا جنوبي ألمانيا، بماذا كنت ستدين؟ شعرت أنّه زُلزِلَ. قال: ماذا تقصد بسؤالك هذا؟ قلت: لاشيء، فقط السؤال.
يتشكل الإنسان بشكل جوهري، في مرحلةِ ما قبل المدرسة، فيتبرمج في خرائط ذهنية لا فكاك منها، وفي سجنٍ من أربعة أسوار من البيولوجيا، والتاريخ، والثقافة، والجغرافيا، يشكّله المجتمع بأقوى من صهر الحديد في مصانع الصلب، فيخرج منا طائرة أو حاوية قمامات.
وهذا يعني أنّ كثيراً ممّا نتصرّف يحصل من خلال عالم اللاوعي الذي كشفه علم النفس التحليلي، فالإنسان مكوّن من ثلاث طبقات منضّدة بعضها فوق بعض؛ في الأعلى (ما فوق الوعي)، وهي جِدُّ رقيقة، وهي موضع التماع بريق الأفكار الإبداعية الفجائية، وطبقة (الوعي)، وهي تمثل (5 %) من كياننا النفسي، وهي تشبه ضوء المنارة على ساحل المحيط، فعندها القدرة على تركيز الضوء في محرق محدّد لوقت محدد، فإذا انقضت تحولت المنطقة إلى ظلام دامس، وتحتها طبقة (اللاوعي)؛ التي تمثل (95 %)، وتمثل المحيط الواسع الذي يضم شخصيتنا، وفيه مستودعات الخبرات، والعواطف، والأخلاق، والعقد النفسية، ومن ظلماته تتشكل الأحلام، فنعيش حياتنا الثانية.
نحن نقود السيارة، ونشرب فنجان القهوة، ونزرر قميصنا؛ بل نمارس الجنس برتابة آلية، وهناك من يصلي بأداء روتيني، وطقوس خالية من الخشوع الذي هو لبّ العبادة لأنه وجد آباءه يصلون، فهم على آثارهم يهرعون.
الروتين سيّئ ورائع في الوقت نفسه، لأنه بقدر ما يقتل الإبداع يريحنا.
لو كان إفراز الهورمونات، وخفقان القلب، مرتبطين بالفكر لسقط العقل في شباك الطبيعة العمياء، حتى الكلام يسيطر عليه (اللاوعي)، مع أنه أكبر تجليات الوعي، فنحن، حينما نتكلم، لا نفكر كيف تمر الكلمات من الدماغ إلى جهاز الصوت، ولو فكرنا في كيف نفكّر لانقطع كل تفكير، ولو تأملنا جسدنا لرأينا فيه تداخل ثلاثة مستويات، في اللحظة نفسها؛ (الإرادة)، و(نصف الإرادة)، و(اللاإرادة). فالكلية تنظف على نحو أعمى، دون تفكير، ويمكن أن نحبس أنفاسنا لدقيقة، ولكننا نتميز عن النبات والحيوان، فالنبات ينمو، ولكن لا يعرف لماذا ينمو، أو كيف ينمو؛ بل هو في قبضة قوانين آلية.
وتعرف القطة كيف تبحث عن طعامها، ولكنها لا تملك تعليل ملوحة ماء البحر، كما لا يُقدِم الكلب على الانتحار، ولم نر شجرة أضربت عن الطعام، وأعلنت الصيام، ولكن الإنسان يفعل ذلك.
وهكذا، هناك كيانان رئيسان يتحكمان فينا، ولكنهما متصلان على شكل طريق أحاديّ الاتجاه في الغالب، فـي (الوعي) هو الذي يشحن أولاً، فإذا تشبع نقل الفكر إلى اللاوعي، وهذا التيار مستمر على مدار الساعة، كما يشحن الدينمو بطارية السيارة، ويتدفق تيار المعلومات باتجاه واحد، كما في السيالة الكهربية عندما تمر في محول كهربي من قوة (110) إلى (220) فولت.
وما يصل أرض (اللاوعي) ينحبس فيه، ويتحول إلى قوة تشغيل خفية. ونحن لا نعرف لماذا نميل إلى شخص، ولا لماذا نشعر بالسعادة تغمرنا في لحظات، كما أننا نتصرف على نحو عفويّ في مواقف عصيبة، فإذا واجهت مصيبة شخصين تماسك الأول، وزُلزِلَ الثاني، والسبب هو تلك الخبرات القديمة المتراكمة، والعواطف المشبعة تجاه الأشخاص، والأحداث، والأشياء.
نحن نظن أننا نتصرف بوعي كامل، لكن علم النفس التحليلي كشف حقيقة مزلزلة؛ أننا نملك هامشاً ضئيلاً من الحرية، وبذلك نمتص ديانة المجتمع، الذي نولد فيه، ونحن نظنّ أنّ هذا حدث بكامل الوعي والاختيار، ونظن أن هذا هو الحق، وكل العالمين ضلال، وهو شعور يمارسه جميع أصحاب الديانات والإيديولوجيات.
نحن جئنا إلى هذا العالم دون إرادة منا، وسنودعه بالطريقة نفسها. نحن لا خيار لنا في (الجينات) التي منحناها، أو (اللغة) التي تعلمناها، أو (الأمراض الوراثية)؛ التي انتقلت إلينا.
لو وُلِد أحدنا في التيبت لكان على الأرجح من أتباع (دلاي لاما)، ولو وُلِد من رحم امرأة كردية في العراق، لكان سنّيَّ المذهب غالباً، ولو ولد في أفغانستان لمشى بساق خشبية، ولو وُلِد في ألمانيا، مع مطلع القرن، لربما لاقى حتفه بطلقة من قناص في ستالينغراد، ولو وُلِد في بنغلادش لربما وُلِد ومات دون سقف، ولو وُلِد في مصر لكان يسكن المقابر دون موت، ولو وُلِدَ في دولة خليجية لكان جيبه عامراً بالمال، ويعتلي صهوة سيارة (جيمس).
وكما يقول مالك بن نبي: إن حظوظ الإنسان في هذه الدنيا مرتبطة بالمجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، بما فيها الدين الذي يعتقده. وقد يتحرّر أحدنا من التحيّز إذا أدرك قانون التحيّز، فيتعلم التسامح، ويتعلّم من الآخرين.