
تكمن مفارقة الكائن فرديا كان أو جماعيا، في أنّه يأبى قيمة الأشياء حتى تفقد راهنيتها، إنّه يتعامل مع الماضي أكثر من الآن، يتجاهل كونه في كل فعل هو يصنع التاريخ، لكن تاريخ الآن يفقد قيمته أمام غواية تاريخ الماضي.
وهذا الماضي ليس بالضرورة أن يكون موصولا بالتراث الرمزي الجماعي، فالكائن يقدّس ماضيه الفردي أيضا، كما يمنح قيمة أكبر لما تصرّم من آناته. بهذا المعنى، يكون الإنسان أيضا حيوانا تاريخيا، وهذا هو مصدر قلقه المستدام.
إنّ الآن في ضمير الكائن هو احتراق، لأنّه يتطلّع باستمرار إلى ما دون الآن، بتعبير آخر هو كائن هارب من الآن، والغفلة فعل لاشعوري مقصود للغريزة، وحتى في ذروة الإستمتاع، هو لا يعيش اللّحظة بقدر ما يعيش شعور متعة مؤجّلة. إنّ المستقبل في مجمل أحاسيس هذا الكائن، هو لحظة هروب أيضا، تماما كالماضي. وعند تأمّل هذا الوضع، يبدو أنّ الإنسان في حالة هروب دائم من الآن بوصفه فراغا. يوهم الإنسان نفسه بأنّ ماضيه ومستقبله شيء غير الآن: آنات متصرّمة وآنات في حالة انتظار.
تكمن هشاشة الوجود في هذا الهروب، في الشعور الحاد بفراغ اللّحظة، وفي هذا الإيهام، ينشئ الكائن لنفسه عالما متأرجحا خارج الآن. الآنات نفسها التي أهملها الكائن يعود إليها ويعيشها في ذاكرة أكثر حياة مما كان يعيشها كلحظات واقعية، إنه الكائن الذي يأمل والذي يتذكّر، ولكنه ليس الكائن الذي يملك الشجاعة لمباشرة الآن.
بناء على ذلك، تبدو المفارقة طبيعية، يستطيع الكائن أن يصرف كل آناته في الانتظار، كما يصرفها في الإستذكار، كل شيء يفعله وهو في حالة تجاهل للآن.
هنا يبدو الوجود في ضمير الكائن ضربا من الفراغ يواجهه بالانتظار والاستذكار. فالماضي هو تلك الآنات نفسها التي تجاهلها الكائن بالأمس، والمستقبل هو الآنات نفسها التي يتجاهلها الكائن اليوم. يسكن الإنسان في ماضيه كما يسكن في مستقبله المفترض، وكلّ شيء مرتهن للمخيال.
للخيال دور في تجربة الوجود تفوق العقل، ففي لحظة ما، يفقد الكائن عقله بشعور منه أو من دون شعور، لتفادي استحقاقات المعقول، ويستنجد بالخيال، كي يحقق الرغبة في الوجود. الوجود في خبرة الكائن مدين للخيال، وهذا الأخير لا غنى عنه في تدبير هذا التموضع خارج الآن.
لا زال التاريخ يعيد نفسه، لدى كائن هارب من آناته، متطلّع لآنات يعيشها على حساب آنات قادمة، في جعل آناته في خدمة آنات مضت وأخرى لم تأت بعد، ثم ما أكثر الحديث عن كائن واقعي.
غير أنّنا حين نرى أنّ هذا الكائن لم يتوقف عند آناته الآنية، وبأنّه ماضي بدافع الغريزة التي تعزز كون التاريخ والمستقبل موصولا باندفاع غريزي لكائن لا يمكن أن يعيش خارج متعة هذا التخارج الزمني، نُدرك أنّ ثمّة ما يوحي بأنّ هذا الكائن ليس واقعيا قطّ، بل الواقع في نظره لا يمكن أن يمثل إلاّ كآنات متصرمة أو آنات آتية؛ كائن مِخيالي بامتياز.
تكمن معضلة كائن يعيش على هامش الوجود لا في مركزه، نظرا لهذا الإحساس بفراغ لحظته، والتعويض الهذياني الذي يجعله لا يلتفت إلى آناته إلاّ حين تتصرّم أو حين لا تأتي بعد، لا يوجد “آن” لدى كائن بالمعنى الوجودي للعبارة، والآن الذي نتعقّله زمنيّا، هو آن فارغ وجوديا، وهو غير واقعي نتيجة اختيارات كائن يتموجد خارج آناته.
تدخلنا عبارة آنات، وهي هنا بمثابة جمع (غير متداول لآن، تفاديا لاستعمال آونة، لكن المراد هنا صناعي مقصود) في أناة – تُؤدة – وأنّات – جمع أنين – وأنوات – جمع ذوات – بما يوحي أنّها كلمة غنية بالإيحاءات، حيث أنين كائن فقد رويته وشعوره بآنه، ففقد ذاته، التي لا مناص من استعادتها إلاّ بإعادة الآن السليب أو الآن الهارب ذات شاردة في تخارج زمني متواصل، وجب تعريف الإنسان بأنّه الكائن، الكائن في زمن ما، كائن في الماضي أو مشروع كائن آتي، لكنه ليس كائنا الآن.
لسنا أمام كائن متصالح مع لحظته، بل أيّا كانت وجهته، هو يلتقي مع نوعه في هذا الهروب الأنطولوجي وإنّ كائنا هاربا من آنه، لهو كائن ذو طنين، وسوف يفكّر في كلّ شيء إلاّ في آنه، وسوف يتحسّر أو يستشرف لحظات من وجوده تقع هناك لا هنا حيث يربض الكائن، في حالة تجاهل قصوى لآنيته.
وتأتي مغالطة الكائن، حين يعتبر التموضع في الآن، تجاهلا للزمن، وكأنّ الزمن يبدأ وينتهي في الماضي أو يبدأ وينتهي في المستقبل. وهو هنا في حالة شعور قصوى بفراغ اللحظة من زمانيتها.
المفارقة الأكبر تكمن في أنّ الفيزياء سبقت الإنسانيات في امتلاك مفهوم الآن، في تغيير عادتها حيال الزّمن، فالزمن الفيزيائي الجديد، فيزياء الكم تداخل مع الأبعاد المادية، مع الحركة، مع المادة التي كفّت أن تبقى مفهوما غامضا. حين تمّ إعادة اكتشاف مادية المادة(باشلار) انحلت عقدت الزمن، وتحررت المادة من الزمن الميكانيكي ما قبل النسبية، بينما ظلّت الإنسانيات عاجزة عن تعقّل الزمان كمعطى خارجي غير ثاوي في خبرة الموجود نفسه.
هل استطاع الإنسان أن يشعر يوما بقيمة الآن؟ إنّ خيبات الأمل لا توجد هناك، في الواقع، بل هي ناتجة عن اختلال في تدبير الهروب من هذا الفراغ الآني في خبرة الوجود. لا يشعر “الآنيون” بهذا القلق الذي اجتاح العصور التي خضعت لعدوى هذا الفراغ؛ الآنيون كما في شعوب تماهت مع الطبيعة، أو في الخبرة العرفانية التي تتميز بامتلاء الآن في لحظة إشراق الماتعة.