بقلم : جواد كوفي
الهجرة نحو الغرب حلم جل الأفارقة، حيث الفردوس الأوروبي هناك تشرق شمس الأمل الدافئة هناك يحس الفرد بإنسانيته بعيدا عن عقد القبيلة ومشاكل الدولة المتوارثة بين الاقتصادي و السياسي و الاجتماعي … يضيع عمر الفرد هنا وهو يبحث عن معنى الحياة في انتظار التغيير القادم وكأن القارة غرفة انتظار مستمر، والمعاناة هنا صانعة للمعنى المزيف، فكل الآمال والأحلام تمر عبر بوابة القهر و الشقاء و كأن الكرامة هنا تسكن في الرضوخ و الصمت و لا حل إلا في التكيف مع واقع أنصاف الفرص وأنصاف القيم وقبول العيش في جماعات تشبه الدول.
واقع افريقيا ليس قدرا بل خطا في لحظة تاريخية و سياق عالمي معلوم تعمل الأجيال القادمة على تصحيحه بطرق مختلفة على قدر الوعي و الاستطاعة و من بين هذه السبل الهجرة ورفع شعار “لا حدود بين الأرض والثروة.
لم يتوقع يوسف في تلك الليلة أن يخرج من البحر على قيد الحياة بعد أن رأى الموت يخطف كل أصدقائه من أبناء المنطقة واحدا وحدا، كان صراخ الغرقى لا يزيد الموج إلا علوا وعنفا استحال معه البحر في تلك اللحظة إلى وحش يحرس الحدود ويعاند إرادة الأفراد في الهروب فيزيدهم بؤسا على بؤس وإرهاق.
كل الدعوات والدموع لم تنفع في تلك الليلة التي امتزجت فيها رائحة الموت برائحة الخوف والاستسلام لإرادة الله ورحمته.
يقول يوسف تمسكت بالحبل وأحكمت قدماي على قنينة مملوءة بالهواء حتى أضمن البقاء طافيا على الماء، وفي لحظة عم الصمت رغم الصراخ والتوسلات… أغمضت عيناي حتى أتحرر من رعب المشاهدة، لم أعد أسمع او أرى شيئا إلا عيون أمي وصوتها وهي تنادي باسمي، تذكرت البلدة وأبناء الدوار وكل من هاجر على أمل العودة بحال أفضل وبإشراقة تضيء سواد واقع أسرته المتوارث في بلد ديدنه الإقصاء والظلم، انتظرهم الأهل جميعا لكن مع الأسف أغلبهم لم يعد.
عادت موهبة السمع إلي في لحظة صفاء وكأن الموت قد تمكن من روحي واستسلمت له لكن الصراخ الهيستيري للغرقى وصوت هدير مروحية حرس الحدود ملأ المكان فبعث شيءا من الأمل في النفوس المنشطرة وكان صوت ملائكي عبر المكبر يقول ،المرجو التزام الهدوء سنقوم بإنقاذكم …
هلل من تبقى على متن القارب وخارت قوى البعض فسقط مغشيا عليه قبل وصول مركب الإغاثة.
لحسن حظ يوسف أن القانون يقضي بترحيل الكبار إلى البلد الأصلي والإبقاء على الصغار بدور الرعاية الاجتماعية.
ليلة استثنائية خرج منها يوسف بجسد شيخ وهو ابن سبعة عشر ربيعا، خرج منها بروح جنين نفخت فيه تلك اللحظة بالذات لما فتح عيناه على الفردوس الأوربي فهم حينها معنى الدهشة الأولى و الولادة الأولى و كأنه خرج من الكهف ؛من الظلال إلى الحقيقة أو كما اعتقد حينها .
العمر يبدأ كمشروع غير مكتمل وفي الحياة محاولة الاكتمال لا يهم النجاح أو الفشل الثروة أو الصحة بقدر ما يهم الصحبة مع من يتم تقاسم تلك الأماني و الأحلام، أن تحقق الرغبة بعيدا عن الجماعة التي تكون بها تلك الرغبة ذات معنى أو أن تحقيق الثروة بعيدا عن الآباء و الأخوة و الأهل يجعل ذلك التحقيق بطعم مر و بدون معنى و نافذة على الألم و الأرق وأن ما يهم في النجاح هو مشاركته مع الآخر القريب جدا وأن المهم إذن هو المكان والزمن والرفقة.
الحياة لا تحوز قيمتها من المتعة أو من المعاناة بل من ذاتها و طريقة العيش التي يكون الغير محركها الأساس، سيفهم هذا صديقي يوسف على مراحل في خضم محاولته العيش هناك بالفردوس أو كما كان يعتقد و هو يعيش عقدا ونيف من الزمن متنقلا بين رياض الفردوس المنشود؛ اسبانيا و إيطاليا و ألمانيا، لكنه سيعود بعد الامتلاء بالغربة والعزلة الجبرية، إنها تجربة حياة الفرد التائه عن المنبع والأصل، شعور الامتلاء بالغربة أحس مقابله يوسف بخواء عاطفي وقيمي وأخلاقي عميق جعله ذات ليلة شتاء بارد أن يحسم أمره بالعودة إلى البلد.
بعد سنوات نلتقي بقلعة السراغنة صدفة، لم يتغير يوسف كثيرا من حيث المرح والابتسامة الدائمة لكن الجسد والفكر فقد فعلت فيه التجارب ما شاءت، ليست الغربة إلا سلبا لإنسانية الإنسان و تشيئ أو تسليع لقيمته.
نلتقي اليوم صدفة وكأن الزمن مختزل في كلمة “الآن” وكل الماضي لحظة وكذلك المستقبل مجرد لحظة وكأن الحياة ” إرادة ” بتعيير أكبر الفلاسفة المتشائمين.