آراءسياسة

مستقبل العلاقة الفرنسية الجزائرية: السيناريوهات الممكنة (4/4)

المد الثوري الفرنسي الذي أحدث ثورة كونية كوبرنيكية في أنماط الحكم والتفكير والحياة، وساهم في بناء الدولة الحديثة، بصيغتها الجمهورية أو الملكية، أصبحت “الثورة” بفضله، ولاسيما بعد كمونة باريس، نقطة محورية في تطوير كل الأنساق السياسية الحديثة، ووفرت مناخا حيويا لانتشار الليبراليا والعقلانية والعلمانيا والقومية والاشتراكية وقضايا الحقوق والحريات. بالموازاة، واستنزافا لطاقة هذه الثورة و/أو لتصدير قيمها إلى العالم، شرعت فرنسا في الغزو العسكري.

لقد واجهت الثورة مقاومة داخلية وخارجية من القوى المعادية للتغيير، وبالقدر الذي نجحت القيم الثورية في الانتشار أوروبيا نجح أعداء الثورة في كبح جماح الثوار من خلال إعادة الملكية إلى فرنسا مؤقتا وتشتيت الطاقة الثورية عبر حمل فرنسا على احتلال الجزائر (حدث ذلك في سياق عودة الريجيم الملكي 1830) وعلى خلفية التحالف المقدس (Sainte-Alliance) الذي تم بين روسيا والنمسا وبروسيا بطلب من القيصر ألكسندر الأول من روسيا ووقعتها القوى الثلاث في باريس يوم 26 سبتمبر 1815 بعد هزيمة نابليون، وقد تقرر في مؤتمر إيكس لاشابيل تسوية عدد من القضايا من ضمنها القضاء على القرصنة البحرية التي كانت البلدان المغاربية الطرف المستهدف فيها.

ولأن الثورة الفرنسية مازالت مرجعا مؤسسا لعالمنا المعاصر، ومازالت تشكل الخلفية الفلسفية والسياسية لفرنسا في جمهوريتها الخامسة، نفهم، في ضوء ذلك، هذا التناقض الجدلي اليوم عبر المشهد السياسي الفرنسي من خلال شعاراته ومقولاته السياسية عبر أحزابه وإعلامه ومواقفه السياسية والدبلوماسية في علاقته بمحيطنا المغاربي ولاسيما العلاقة الفرنسية الجزائرية. كما نفهم ذلك في ضوء الرداءة المغاربية سياسيا وفكريا وإعلاميا في علاقتها بمحيطها المتوسطي من جهة ومن حيث مقاربتها لأمهات القضايا ذات الصلة بالراهن الأممي والمغاربي من جهة ثانية.

كانت الجزائر العثمانية على المستوى الجيوسياسي والعسكري من أبرز البلدان التي أصبحت فضاء حيويا لفرنسا ما بعد الثورة، وكانت معركة نافارين 1827 إيذانا بأفول الجزائر العثمانية. وعلى مدى حوالي سبعة عقود لم تتوقف المقاومات الشعبية للغزو الفرنسي، ومع مطلع القرن العشرين كانت فرنسا أرست سيطرتها على الجزائر وتونس وأعدت العدة لاحتلال المغرب. نشأ جيل جديد من النخبة الجزائرية التي تتلمذت بالمدارس الفرنسية، وقد تزامن ذلك مع بزوغ الحراك القومي المغاربي حيث نشأت مؤسسات تربوية وإعلامية وتنظيمات حزبية ومدنية في الجزائر وقسنطينة ووهران وتلمسان وعدة مدن أخرى، وتبلورت فكرة القومية الجزائرية تفاعلا مع القومية الفرنسية، وأصبحت مفاهيم على غرار الأمة، والوطن والاستقلال والاندماج.. من المفاهيم الرائجة في المنابر الإعلامية والنقاشات السياسية والكتابات الأدبية.

وجاء الاستقلال الجزائري نتاج حرب عسكرية، سياسية ودبلوماسية، وإثر مفاوضات إيفيان(1960-1962) التي تزامنت مع التجارب النووية في صحراء رقان، وهي التجارب التي امتدت إلى غاية الأعوام الأولى من الاستقلال. وهو ملف من أقذر الملفات التي سترهق الدولتين من حيث أن الريجيمين تكتما عنه لمدة نصف قرن، إلى أن طفا إلى السطح منذ عقد أو أكثر بفضل السوشل ميديا، وبعد ذلك فرض نفسه على سياسة البلدين، ولاسيما منذ مجيء ماكرون إلى الحكم.

إيمانويل ماكرون نتاج هذا التاريخ الفرنسي في عمقه الثوري، وفي ذات الوقت هو مواطن فرنسي ينتمي إلى محيط سياسي يعاني من رواسب ثقافة معادية لقيم الثورة أو جاهلة لقيم هذه الثورة، كما أنه ورث تاريخا كولونياليا ثقيلا ومعقدا لم يحظ بالمعالجة الموضوعية سواء من النخبة الفرنسية أو من النخب المغاربية التي يمكن وصفها بحليف الثقافة الفرنسية اليمينية المتشددة والمقاومة لقيم الثورة (التحالف هنا ليس واعيا ولكنه يخدم أجندات اليمين الفرنسي المتطرف من حيث لا يدري).

هل هناك لوبي فرنكوجزائري يتحكم في مفاصل العلاقة الفرنسية الجزائرية؟

كانت جماعة 22 التاريخية (1954) نتاج التشظيات التي عاشتها الحركة القومية الجزائرية منذ نشأتها بعد الحرب العالمية الأولى، وكان مؤتمر الصومام (1956) نتاج صراع الرؤى بين رفاق السلاح، ثم مفاوضات إيفيان (1960/1962)، ثم مؤتمر طرابلس صيف 1962 تزامنا مع الاستقلال، وكانت الغلبة لجيش الحدود برئاسة هواري بومدين الذي سيطر على الحكم بيد من حديد.

مع الاستقلال وبسبب التغير الديموغرافي، بدأ المظهر الاجتماعي والثقافي للمدن الجزائرية يتغير تدريجيا وبشكل عشوائي، لقد غادرها المستوطنون الأوروبيون، والأقدام السود واليهود والجزائريون الموالون لفرنسا (الحركى). ومثلما تسببت حرب التحرير في تمزيق صف المناضلين ثم الثوار، تسببت أيضا في تمزيق القرار الفرنسي بين الديغوليين وغيرهم من أنصار الجزائر الفرنسية.

وكتحصيل حاصل تشكلت العلاقة الفرنسية الجزائرية انطلاقا من هذه التمزقات التي مست السياسة الفرنسية من جهة، والأفلان من جهة ثانية. نجم عن هذا التمزق لوبيات تشكلت في فرنسا من الحركى والأقدام السود واليهود، وفي الجزائر لم يتوقف الحديث عن المالغ وجماعة وجدة وحزب فرنسا.

لقد تحدث فرنسيون وجزائريون رفيعو المستوى عن “لوبيات فرنكوجزائرية”، وظلت العلاقة الفرنسية الجزائرية أكثر غموضا لدى الرأيين العموميين: الفرنسي والجزائري، غير أنها كانت لدى الجزائريين أكثر غموضا من حيث أن معالجتها ظلت رديئة ومحل تلاعب بسبب ضحالة الوسط الإعلامي والأكاديمي.

تحدث إيف بوني رئيس المخابرات الفرنسية السابق عن وجود “لوبي قوي” في الخارجية الفرنسية معاد للجزائر. “في حوار أجرته معه “أصوات مغاربية” (ربيع 2016)، قال: “هناك فصيل من الدبلوماسيين في وزارة الخارجية الفرنسية يتصرف كـ”لوبي مضاد للجزائر”، مع أن هذا لم يمنع تعيين سفراء من الطراز العالي في الجزائر، من أمثال: “فرانسوا شير” أو “برنارد كيسيجيان” وغيرهم من هذه الطينة”.

إيف بوني شخصية غامضة، ومن الواضح، أن بوني كان يتحدث عن “لوبي” معاد للريجيم الجزائري الحاكم أنذاك وهو “لوبي” كان على صلة بدوائر جزائرية رسمية وغير رسمية، ولعل ما حدث لعبد المجيد تبون عام 2017 يفسر طبيعة الصراع بين اللوبيات الفرنكوجزائرية.

نذكر على سبيل المثال قصة المدير العام الأسبق لمجمع «صيدال»، ووزير الصناعة الحالي، السيد علي عون مع اللوبي الفرانكوجزائري وأحد أبرز الشخصيات الاستخباراتية الفرنسية (رئيس الاستخبارات السابق إيف بوني). كشف أن ابنة مدير المخابرات الفرنسية الأسبق، إيف بوني، قدمت إلى الجزائر لتفاوضه حول صفقة بين مجمّع «صيدال» الجزائري وشركة فرنسية كانت تدير أعمالها، حيث قدمت إلى مكتبه وطلبت منه إبرام الصفقة بطريقة مشبوهة لم تكن تراعي القوانين المعمول بها، مضيفا أنه رفض طلبها لتتوالى عليه بعد ذلك المشاكل من كل الجهات. وأضاف عون أنه بعد حوالي 3 أيام من لقائه بابنة ايف بوني جاء هذا الأخير إلى الجزائر ومكث بها 24 ساعة أقام خلالها بفندق الجزائر «SAINT JORGE»، التقى حينها بمسؤولين سامين في جهاز الأمن والاستعلام وهما جنرالان أحدهما صار فريقا فيما بعد، وقد طلب بوني منهما تسوية وضعية ابنته تجاه مجمع صيدال.

ويضيف علي عون: “تعرضت إلى التهديدات والحرب النفسية الممارسة ضده من قبل مسؤولي «الدي.أر.أس»، ثم بدأت مشاكلي في المجمع والتي كانت أغلبها اتهامات وهمية إلى غاية إنهاء مهامي فيما بعد”.

تمثيلا لا حصرا، أحاول قراءة هذه العلاقة عبر ما حدث لهذا المسؤول الذي ظل مقصيا قبل حراك 22 فبراير إلى أن عاد إلى المشهد الرسمي منذ شهور. عاد شهر مارس 2022 إلى الواجهة بتعيينه مديرًا عامًا جديدًا للصيدلية المركزية للمستشفيات، بعد سنوات طويلة من مواجهته للمتاعب القضائية في قضية خليفة،  ثم تم تعيينه وزيرا للصناعة الصيدلانية في التعديل الحكومي الأخير سبتمبر 2022.

 وكان عون يشغل منصبًا في مجمع سيفيتال الخاص، بعد انتقاله من القطاع العمومي الذي قضى فيه أغلب مساره المهني، حيث عرف بكونه أبرز المدراء الذين مروا على مجمع “صيدال” العمومي لإنتاج الأدوية في بداياته. وانقلب مسار عون رأسًا على عقب بعد تفجر قضية خليفة، حيث دخل السجن ثم حوكم بتهمة الرشوة وسلطت عليه بعد الاستئناف عقوبة سنة سجنا غير نافذ وغرامة مالية.

وفق مصادر إعلامية، “متاعب عون بدأت مع تغول لوبيات استيراد الدواء ودخول شخصيات نافذة على خط الحصول على رخص الاستيراد، خلال حقبة الرئيس الراحل عبدالعزيز بوتفليقة. ففي العام 2008 وبعد 12 عاما من إدارته للمجمع الحكومي، اضطر الرجل إلى تقديم استقالته لمجلس الإدارة، لأنه بات غير قادر على مواجهة المخاطر التي تهدده حتى في حياته”. وذكر في أحد تصريحاته بأن علاقات وطيدة كانت تربط جنرالات في جهاز الاستعلامات مع مدير المخابرات الفرنسية السابق إيف بوني، من أجل الهيمنة على سوق الدواء في البلاد.

متاعب عون مع القضايا الملفقة والتحقيقات الكيدية تواصلت إلى أن زج به في السجن وقضى عامين خلف القضبان، لكنه حظي بتعاطف شعبي وسياسي، حتى وإن كانت القبضة في أيدي جنرالات جهاز الاستعلامات، لأن الجميع كان يدرك أن الرجل يدفع ضريبة نجاحه وإخلاصه.

بعد خمسة أعوام (26 أكتوبر 2021)، تحدث إيف بوني في حوار أجراه معه نفس المنبر “أصوات مغاربية” عن العلاقات الجزائرية الفرنسية والأزمة المتصاعدة بين البلدين منذ تصريحات إيمانويل ماكرون المسيئة للجزائر، ويقول إنه “مُحبط من فرنسا أكثر من إحباطه من الجزائر“.

وكشف بوني، الذي شغل ذلك المنصب مطلع الثمانينيات قبل أن يتفرغ للعمل السياسي، موقفه من مطالب الجزائر من فرنسا بالاعتذار عن الفترة الاستعمارية، كما يتحدث عن مستقبل العلاقات بين البلدين.

حول فرنسا ورفضها للاعتذار عن الفترة الاستعمارية من 1830 إلى استقلال الجزائر، يقول إيف بوني:  “ليس عليها أن تعتذر عن سلوك أو مواقف أو حتى أفعال تعود إلى الماضي. ما يستحق الإدانة، بما في ذلك المعنى القضائي للمصطلح، هي أفعال المسؤولين السياسيين أو الإداريين أو العسكريين، التي تتجاوز القانون، الدستوري أو العادي”.

وحول سؤال: ماذا ستخسر فرنسا لو تدهورت علاقاتها تماما مع الجزائر، وبالمقابل أيضا ما الذي ستخسره الجزائر؟ قال بوني: “من الواضح أن الجزائر، مثل فرنسا، بحاجة حقيقية إلى علاقة ثقة بينهما.

لا يمكننا الاستغناء عن بعضنا البعض، ولقد انتقدت بما فيه الكفاية موقف بعض المسؤولين الفرنسيين في “السنوات السوداء” (في إشارة إلى العشرية السوداء)، والذين بلغوا درجة تمني انتصار الإسلاميين علانية في الجزائر”. لينهي حواره بالقول: “أنا أشعر بالإحباط من فرنسا أكثر من الجزائر”.

في ضوء علم التواصل السياسي والأنتروبولوجيا السياسية ومسرحة الفعل السياسي (théâtralisation du pouvoir) يمكننا فهم المعالجة المسرحية لـ”لمأزق” الذي تتخبط فيه العلاقة الجزائرية الفرنسية، وهو مأزق بنيوي حدث بفعل انحراف فرنسا عن المبادئ المنبثقة عن ثورتها من جهة وانحراف الجزائر عن المبادئ التي تبنتها في غمار حربها من أجل الاستقلال. هذه المعالجة المسرحية في مظهرها الضحل تتجلى في التصريحات والقرارات التي تصدر من هذا الطرف أو ذاك. ما يحدث في فرنسا والجزائر يحدث أيضا في عدد من البلدان، يبقى الفرق بين بلد وآخر هو جودة “المسرحة” ورداءتها، وإلى أي مدى ستصمد هذه المسرحة ومدى قدرتها على تحقيق الوعود التي بشّرت بها.

من الواضح أن إيف بوني يشعر بالإحباط، لأن فرنسا رفعت حمايتها عن أصدقائه في الجزائر، وأن العلاقة الفرنسية الجزائرية ستعرف تحولا يبقى مشروطا بتحولات جيوسياسية إقليمية وأممية:

– ذهاب فرنسا إلى جمهورية سادسة، وإعادة هيكلتها لعلاقتها بأمريكا، بريطانيا، وبروسيا، بأفريقيا ولاسيما الفضاء الجيوسياسي المغاربي

– انتقال الجزائر إلى حكم عسكري علني بعد نهاية عهدة عبد المجيد تبون، أو الانسحاب النهائي للمؤسسة العسكرية من تدخلها في الشأن السياسي؛

– هل سينتصر المظهر العسكري في فرنسا؟ أم سينتصر المظهر المدني في الجزائر؟

– هل سيعرف البلدان هيكلة سياسية تجمعهما في النهاية على التعاون والوفاق؟ أم ستعمق هذه الهيكلة من أسباب الخلاف؟

https://anbaaexpress.ma/qkez2

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى