آراءمجتمع

في أنطولوجيا الطفولة أو البحث عن الطفولة الضائعة

شرّفني المجلس القومي لرعاية الطفولة في المؤتمر العربي الأفريقي الأوّل حول حقوق الطفل والتنمية المستدامة، بتعاون مع المجلس السيادي ورعاية وزارة التنمية الاجتماعية، بمحاضرة خاصّة، كانت حقا مجازفة، لكنها واجب تقتضيه المقاومة الفلسفية ضدّ الركود الذي تشهده الأنسقة والمفاهيم التي ارتهنت إليها الهندسة الاجتماعية ووضعية الطفولة التي لا زالت عاجزة عن تحقيق التعويض الأسمى لتعبيراتها، إذ لا زالت تعبر عن زمنها المفقود كطفولة مهسترة.

حاولت أن أسلّط الضوء على المهمّة الأنطولوجية القصوى لطفولة غير معنية بلعنة نسيان الوجود الهيدغيري، لأنّ الطفولة شوق متدفّق نحو الكينونة، والطفل إذ هو منهمك في أعظم مهمّة في العالم وهي اكتشاف الوجود، سيواجه تشويشا خطيرا على مهمّته. هل يا ترى الطفل حالة سلبية في المجتمع، كائن عاطل غير نافع حتى في تنويرية كانط الاجتماعية؟ كلاّ، فهو شغّيل ، انظر جاك لاكان في الكتابات، وما يفعله عالم الكبار المدجج بسلطة القاطيغورياس، هو صرف الطفل عن مهمّته، ليحقق ليس فقط الاندماج الاجتماعي وفق سوسيولوجيا دوركهايم أو إعادة إنتاج الهابتوس الذي يشدّ عصبه بالمجتمع وثقافته وفق بورديو، بل ثمّة صرفه عن مهمته الأنطولوجيا وإخضاعه لإعادة إنتاج نسيان الوجود.

الطفل هو منهمك، وأي تشويش  عليه أثناء إنجاز مهمته، سيربك فعل صناعة الإنسان. الطفل هو من يحدد مصير الكبار، هو من يهندس طبائعهم، فلا تشوشوا عليه. على التنمية المستدامة أن تكيف خططها مع مقتضيات وحاجيات الطفولة ومستقبلها وليس العكس.

فتربية الطفل ليستجيب لمقتضيات التنمية خطيئة استراتيجية لا تغتفر.

لقد تناولت الطفولة من منظور عبر-مناهجي أيضا، تلك الفكرة التي أذكر بها في كل مناسبة، الفكر التعقيدي. فضلت أن أكون داعية للعبر-مناهجية عربيا، لأنّ هذا مطلب يؤمّن الطريق نحو عالم أفضل. الفكر التعقيدي الموراني مهمّ، شخصيا يناسبني ويناسب فلسفة الطفولة ومقتضيات المهمة الأنطولوجية للتنشئة.

المهمّة المنهجية تقتضي وضع الأمور في مواضعها. وكلمّا نحونا نحو الأنطولوجيا والطفولة، كنا تعقيديين وعبر-مناهجيين. ليس اتباعا للمورانية، فإدغار موران داعية للفكر التركيبي بأسلوب تركيبي، لأنّه أفاد من عصارة الأفكار.

لكن يعود ذلك وعلينا أن نذكّر دائما بأصول الأفكار حتى نضبط إيقاع وأنماط استغلال المفاهيم، فالفكر التعقيدي يعود إلى نيتشه، هنا منشأ الأفكار الثورية الكبرى أنطولوجيا وإبستيمولوجيا، فهو يعتبر أنّ العهد ما بعد السقراطي أدخلنا في التبسيط والتمييع وأخرجنا من التعقيد.

وهنا وجب أن لا نقرأ الطفولة في هذا التجزيئ، لأننا لن نفهم شيئا، والطفل لا يخضع لسلطة القاطيغورياس، هو يباشر التموجد بكل المعاني المتاحة ومن دون مخطط مسبق. ليس العلم وحده من تموقل -“المقاولة العلمية”- بل الأنطولوجيا تموقلت، فيما أسميه الوضعية الأنطو-قياسية.

وقد تناولت أيضا الطفولة ضمن علائق متعددة، منها الطفل والحداثة، وابتدأت من عتبة التعريف الفويبري للحداثة بوصفها نزع السحر عن العالم – أو حسب ترجمة صديقنا  المرحوم محمد سبيلا: نزع الابتهاج عن العالم- وتساءل: أي معنى للوجود وأي فرصة للطفولة إن نحن نزعنا الابتهاج والسحر والخيال عن العالم، وهل حقا نملك نزع هذا السحر عن العالم، أم يتعلق الأمر بتنويع الابتهاج وإعادة صياغة أنماطه المختلفة؟ شخصيا أعتبر أن قاعدة لافوازية ليت محصورة في الفيزياء، بل هي حاضرة بقوة في النفس والاجتماع، فلا شيء يتلاشى ولا شيء يكتسب، بل الكل يتحوّل، وفي قارة النفس البشرية وحسب التحليل النفسي، هناك فقط تحوّل في تحقيق الرغبات بكيفيات أخرى، فلا شي في أعماق النفس يتلاشى، بل كل شيء يتحوّل، ويعبر عن نفسه بكيفيات مختلفة.

واغتنمت الفرصة لأردّ  فكرة نزع الابتهاج عن العالم الفويبرية إلى أصلها النيتشي. وقد سبق وسألني بعض الزملاء عن مصدرها عند نيتشه، ورأيت من المناسب أن أنبّه إلى ذلك من خلال منبر الطفولة. فانظر تجد الشذرة الـ 167 في “من هو الفيلسوف”، حيث ما بعد الأديان، نفي الآلهة والابتهاج (démythifier les dieux et les enchantements).

في الطفل والتنمية المستدامة، نجد أن هذه الأخيرة مستدامة بقدر ما تكون وفية للطفولة، لفعل الاستذكار، الديمومة من منظور برجسون، تلك التي منحها للذاكرة الحية، المعيشة، المؤثرة، لنقل أفعال الذاكر، والمثال الأعظم بروست، والبحث عن الزمن الضائع، وهو ما وقفت على عينات منه بخصوص الطفل والذاكرة في مفتتح المحاضرة، وصولا إلى البطل الصغير، وكيف تنتهي ملحمة الاستذكار مع دوستوفسكي إلى نهايتها حين يعلن البطل الصغير: هنا انتهت طفولتي.

شيء مأساوي، وكل مأساة تنتهي بنهاية الطفولة، أو اقتران تلك النهاية بخيبة الأمل، والعالم في ظني يعيش خيبة الأمل وهدر الطفولة. فالطفل حاضر لا أحد ينفيه، ولكنه حاضر بكيفيات مختلفة، التنمية المستدامة هي الإنفتاح على العبر مناهجية، على حقبة ما سماه هويزنغا بالإنسان اللعبي: أومو لودنز.

اللعب بمعناه الأنطولوجي الذي يكتسح الثقافة نفسها، وفي هذا السياق، رأيت من المناسب أن نتجاوز كل أنماط الإنسان وأطواره، لأنّ الخلاص مرتبط بتطفيل الكائن، حيث نسيان الوجود هي بكيفية أخرى نسيان الطفولة، لنحقق التجواز إذن، من الأومو-سابان، والأومو- فبير، والامو-ايكونوميكوس، والأمور-ليدنز، إلى مفهوم أسميه الأومو- آنفان: (homo-infant)، آنفان باللاتيني، غير الناطق، لكن الطفل بتعبير لاكان هو ناطق، وناطق من خلال آبائه، يكتشف الطفل وهو أصل الرجل- الوجود عبر اللعب، اللعب هنا جدّي، وطريق الطفل للمعرفة، فلا تزرموا أطفالكم في أي مرحلة من مراحل النمو، لا المعرفي بمنظور بياجي، ولا التربوي بمنظور سبنسر ولا النفسي بمنظور فرويد.

ولم أنس لاهوت الطفولة، وأن الإنسان مدين للطفل في هذا الاكتشاف: لا تدخوا الجنة حتى تكونوا أطفالا، وفي تفصيل هذه الرؤية في القادم، سنحاول تعزيز  ثورة الطفولة، باعتبارها قضية كونية وليست محلية فحسب.. فتحية طفولية نضالية.

https://anbaaexpress.ma/pocvq

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى