ثقافةمجتمع

رواية جدارية العاج.. للكاتبة السودانية فدوى سعد

رسم تشكيلي مأنسن وسرد شائق بلغة تنساب كالسلسبيل

مقتطف من الجدارية

بما أنَّهُ قد تَمَّ عناقي ملايين المرات أصبحَتُ مُلِّمًا بِكُلِّ أنواع العناق القاهرة في دنيا اليتم؛ عناق عمَّتي منى يصحبُه بكاء بصوتٍ عالٍ، تضغط بقوة بيديها على ظهري، ذقنها يغوصُ في كتفي؛ هذا عناق أنا لا شأن لي بهِ، هي تشتاقُ لأخيها تفتقدهُ؛ تراني هو أحسُّ بذلك في دموعها، رائحةُ بكاءها.. هل يعلمون أنَّ للبكاء رائحةً تقهر؟ خليط رائحةُ البصاقِ، المخاط، وأنفاسِ البطنِ الخاوية كانتْ تقهَرُ دواخلي، أَلَمْ يخبرهم الربُّ أَلَّا أُقْهَر؟! ثُمَّ عناق آخر تتحَرَّكُ فيه الأيدي على ظهري في نفسِ موضعها مِن أعلى إلى أسفل تخبرُني أنهُ حَزِنَ عليَّ، وتحسَّرَ على النعيم ِالذي لم يرَ ابنهُ، عناق مربك آخر يدٌ تربتُ بخفةٍ لا أحسُّ بها على ظهري، هذا عناقُ منافقٌ لا يهمّهُ أمري فقط يريدُ أجرَ ربي. بهجتي عناق أبي الشفيع، لم يكنْ يومًا عناقًا في الأرضِ يحلِّقُ بي دوما في الفضاءِ مبتهجًا، نظرة تقهرُ لم أرها في عينيهِ أبدًا، يدغدغني داخلَ قلبي ينسيني جميعَ النظرات التي تقهرُنِي. أبي الشفيع هو أبي، وإِنْ قالتْ الأوراقُ الثبوتِيَّة غير ذلك. نظرته الضاحكة جعلتها لجميع الأطفال الأيتام ليحيوا أطفال طبيعيين غير مقهورين كما أمر الإله.

جدارية العاج … لوحة تشكيلية مأنسنة

صدرت للروائية السودانية فدوى سعد رواية جدارية العاج عن دار المصورات السودانية.  تعد الكاتبة فدوى من المبدعات المتميزات في حقل السرد والقوافي، ذلك على حد سواء فضلًا عن اهتمامها بالفنون التشكيلية والفن بشكله الواسع. فهي  تصمم أغلفة الكتب وترسم وتبدع في عدّة مجالات والأدب والفن هما في شخصيتها دون أدنى شك وجهتان لعملة واحدة، كل واحد منهما يكمّل الآخر، يغذي النفس ويفتح الأعين والروح لآفاق بعيدة قلّ أن توجد في آحادييّ الفن. أما فيما يتعلق بالشعر فقد كتبت الأديبة فدوى سعد القصيدة الحداثية ثم انطلقت بعد ذلك إلى حقل الرواية والحكايات، وكان أول عمل روائي لها هذه الجدارية، وقد حققت فدوى بهذه الرواية أصداء عميقة بين القراء والنقاد، لا سيما في الوسط الثقافي بالسودان. لقد تمكنت الكاتبة من تطويع أدوات اللغة والتحكم بأرسنها، رغم الهفوات المتناثرة هنا وهناك الذي ينبغي عليها أن تتفاداها في الأعمال القادمة، ونحن كلنا شوق وثقة. على العموم خرجت الأديبة بمخطوطة في ثوب كلميّ تشكيليّ مزركش منمق، رصين الكلم، جميل اللحن، شائق المضمون، عذب الموسيقى، متناغمة وحداته الواحدة تلو الأخرى، نجد فيه عبق السودان وعطر نسائم أفريقيا التي تنساب على أعطاف الجمل السرديّة من كل صوب وحدب. أعطت فدوى في هذا العمل الشباب صوتًا جهورًا على ترهات هذه الجدارية، رسم هؤلاء وأولئك فيها، كما فعلوا في غضون ثورة أكتوبر المجيدة، آمالهم، طموحاتهم ومخاوفهم من المستقبل المجهول، ببقعة سالت فيها دماؤهم بحرًا زاخرًا، ورغم كل تلك العثرات وتلك العبرات أعطتهم فدوى أملًا ألا يقنطوا من رحمة السماء ومن مستقبل باهر ينتظر كل فرد من بيهم، صبيان وصبايا.

جدارية العاج … إحساس دافق في السرد

جاءت الرواية في واحد وعشرين جزء، يتناوبان فيها الأصل والفرع والعكس دون انتظام، ويتناوب على أزقتها أبطال الرواية، كتلة الحدث والسرد والحركة. لقد ذكرت الكاتبة فدوى في غير مقام، أن الرواية كانت بالأصل قصصا مختلفة، متباعدة، عقدت وقتئذ العزم أن تنشرها كقصص قصيرة أو مجموعة قصصية، بيد أنها عدّلت عن هذا الرأي وانبرت لا تلوى على شيء إلى وتصب كل هذه القصص في إناء واحد. أجدها قد برعت في ربط خيوط القصص والشخصيات فيها مع بعضها البعض، رغم تباعد الأزمنة والأمكنة القائمة بينها. لقد استطاعت بجدارة أن تقتفي أثر شخصياتها من سن الطفولة المبكرة وترحل بها رويدًا رويدًا إلى مرحلة الكبر والنضوج العمريّ.

تدور أحداث هذه الرواية عن العلاقات الإنسانية، عمقها، جذورها فضلًا عن تشعباتها وتشابكاتها هنا وهناك. استطاعت فدوى ترسيخ أحداث الرواية كحقائق لا جدال فيها، وكأنه التاريخ تشرق شمسه علينا، هذا من ناحية كما تمكنت من توظيف الشخوص داخل سياق الخيط السردي بعمق كبير، يتدفق هذا الخيط بأحاسيس أسست لها بالتمعن، تنبع من الأعماق، منها التفاؤل أو القنوط، أو تلك الإيجابية رغم مدلهمات الحياة، فما أكثر العوارض التي تجابه الأبطال. فنجد أن رسم فدوى لشخصيات الرواية دقيق، بيّن، واضح، متأني إن صحّ التعبير، وكأنها تمسك في يدها ريشة لتجسد وترسم تلك الملامح  بتؤدة ورزانة، في خلوة وكأنها صوفية القلم، ومن ثمّة تفضح وتفصح عن دقة تحسد عليها، لتبرز كل شخصية على حدة، فتتدخل متفحصة في دواخلها (بطريقة الانتروسبكشن) لِتُري ما لا يُرى، لِتُظِهر ما لا يتجلى للقارئ من الوهلة الأولى، فقط استنتاجه، ذكاؤه وفطنته في التفاعل مع النص هي التي تقوده إلى طرق شتى لنهايات خلقها في خياله ومتاهات عدّة لا يجد مفر للخروج من تشعباتها، تجعله بين هذا وذاك متقوقعا داخل النص، قائلًا هل من مزيد! وإن كانت هناك بعض المشاهد القليلة التي أفاضت فيها وأكلمتها الكاتبة شرحًا دون أن تراعي أن القارئ فطن ويمكنه أن يقود خيوط السرد إلى مواقع أخرى … ربما لم تخطر لها ببال. ونجد في الرواية تعدد أصوات الرواة، أولئك الذين يسرحون في أرجاء المشاهد والأزمنة بحرية مطلقة، يعبرون عما يجوش بدواخلهم، متحدثين بصيغة المتكلم، أو …، يلجؤون إلى السرد الرسائليّ، أي عبر الرسائل، كتقنية سردية جديرة بالذكر هاهنا، ذلك باتزان، أو عندما يقتضي الحال، منفثين عن أنفسهم، بوّاحين بمآقيهم، آلامهم ومسراتهم كما هي الحال عند أخذ شخصية رضوان كمثال. ولقد ألقت الثورة بظلالها أو لنقل بنورها المتقد خلف الكواليس، وجاءت بشارة الختام تحمل في طياتها قيمًا سامية تستبشر بمستقبل واعد، مبشرة لا منذرة، محفزة لا محبطة، مستقلة لا مستغلة، ذلك رغم سحائب المنية وأحزان فتيّة طافت كغربان ابنيّ آدم، حول سموات الرواية، تطوف عليها من علٍ وهل تحمل في جعبتها رسائل إلينا …؟!

ملحوظة

إن الهدف من هذا المقال هو التعريف بالكاتبة وبروايتها الجديدة ولمن أراد أن يغوص في أحداثها فعليه بالبحث عنها فهي متوفرة في صيغة بي دي إف – أو كنسخة ورقية لدى دار المصورات بالخرطوم.

حوار مع فدوى سعد:

من هي فدوى سعد … عرفينا عن نفسك؟

اسمي فدوى سعد أحمد يوسف، أنا من مواطنيّ مدينة كسلا شرق السودان. درست الأدب واللغة الإنجليزية بجامعة أمدرمان الإسلامية وحصلت على درجة البكالوريوس فيها.

 البدايات والانطلاقة الأولى في عالم الكلمة المحكية؟

 جاءت بداياتي ككل الطلاب والطالبات في المرحلة المدرسية، وأذكر أن انطلاقتي الأولى كمبتدئة كانت بالمرحلة المتوسطة، ذلك في حصة مادة اللغة العربية وبدفتر الانشاء على وجه الخصوص. ولن أنسى تحفيز أستاذتي الفاضلة سمية الهادي، التي أتمناها أن تكون بخير وأرسل لها من هذا المنبر خالص التحايا وجليل المودة، فأنا ممتنّة لها.

بدأت رحلتي الحقيقية بعد المرحلة الجامعية وبدأت أكتب المشاهد القصصية والشعرية القصيرة ومن ثمّة الأبيات الشعريّة بالمجموعات الافتراضية وعلى أعتاب صفحتي على فيسبوك.  وللأمانة وحق عليّ أن أذكر مجموعة رحيق القصص والنصوص التي ثبتت قلمي بين كتابها، وكان أفرادها نعم الدعم والسند في توجيهي وإشارتي للأفضل. وأخص بالذكر صاحبة القلم المهذب الأستاذة سناء توفيق فريجون، والقلم الوقور د. سمية قطب والأستاذ سر الختم أبو السرور وقائد الركب الأستاذ الجليل إبراهيم أبو منذر وكل أسرة الرحيق، فلهم مني عاطر الشكر ووافر الحب. والنقد البناء يقود الكاتب الواعد إلى الأفضل ووجدت ذلك دون أدنى شك بينهم.

 هي نقول فدوى الراوية أم نقول القاصّة … ولماذا؟

 فدوى تكتب ما تفرضه عليها الحالة الكتابية والنفسية فقد يندرج ذلك تحت نمط أدبي ما، ليس بإمكاني أن أصفه أو أنعته بمسمى ما، بيد أنني أعتقد وبكل تواضع أنني أجيد السرد والحكي.

 ما هي القراءات التي دعمت يراعك وإبداعه في مسيرة سردية، روائية قاصّة لا تقل عن عشر سنوات؟

 إن التغذية المعرفية والبيئية من الصغر هي بمثابة مكتبة، فكانت مكتبة والدي الفكرية والشعرية ومكتبة الوالدة الروائية هما الأرضية التي وطأت قدمايّ عليهما وأذكر أن تنقلي بين المكتبتين بداخل المنزل نمّى فيّ تلك المهارات ودعم مقدرتي في التنوع الكتابي، وفي مسيرتي ودأبي ككاتبة شابة تطمح أن تُسمع كلماتها من به صمم وأن تصل إلى كل فرد في هذه الدنيا الواسعة.

فالقراءات المحببة التي دعمتني وروت بذرة حب الكتابة في دواخلي كانت القصص الشعرية للدكتور عبد الله الطيب كما ديوانه أصداء النيل، قصة عمرو بن يربوع والسلحفاة والسندباد البحري. بعدها طفت أجوب مدارات القراءات الأديبة، فقرأت للطيب صالح، عمر الصايم الهادي، باولو كويلو وهاروكي مروكامي، وأعتقد أن تنوع القراءات يخلق تمازج تخيلي، كتابي، فكري، نفسي ومجتمعي بداخل الأديب فيهذب ذلك أدواته الأدبية وملكته السردية فضلًا عن تعلم التقنيات المستخدمة في تستطير الحدث لدى الذين ذكرتهم أعلاه، على سبيل المثال لا الحصر.

 هل رواية جدارية العاج هو العمل الأول على الإطلاق أم كان هناك محاولات قليلة لم تر بعد النور؟ حدثينا عن بداية العمل وحتى اكتماله …

كنت قد كتبت قبلها في السنة الثانية بالجامعة رواية «فرسان البحار السبعة»، لكن بكل أسف فقد فقدت أجزاء كبيرة من مسودتها الورقية. فلم أجد متسع من الوقت لكي أعيد صياغتها من جديد، فصارت في سجل المفقودات.

لقد نما عمل جدارية العاج عبر سنوات اصطحبت واقع مجتمعي ومواكبة شخصياته. نسجتها بهدوء تام ربما انعكاس هذا الهدوء قد تبدّى في ملامح الشخصيات التي تفوق العشر داخل الرواية. حدث النضوج التام عام ٢٠٢٠ وتم تفريغ الأحداث والمواقف والشخصيات من الذاكرة إلى الورق وامتدت تلك الفترة إلى ثلاثة أشهر من الكتابة المتواصلة، فتمددت حينئذ شخصيات فرضت سطوتها على النصّ وتغيرت بعض الأسماء التي عشت فيها مع الأبطال جميع المشاعر الإنسانية الخاصة بهم، أفراحهم، أحزانهم واضطراباتهم النفسية.  نسجت جدارية العاج تفرد الشخصيات وجعلت لكل فرد منها حوارا وفكرا خاصا، ذلك لم يكن بالأمر السهل، بيد أنّ سعادتي بما أكتب ومتعتي في العيش داخل الرواية سهلت عليّ مشوار الكتابة والاسترسال فظلّ هذا الأخير هادئا ومستقرا حتى آخر المطاف.

 اذكري لنا مؤلفات سحرتك أقلامهما وما بها من تصوير روائيّ أو قل تشكيلو-سرديّ؟ فهناك بعض المشاهد وكأنها شعرية في الجدارية.

مؤلفات الدكتور عبد الله الطيب وأعتقد أن تجربتي الأولى كانت مع كتابة الشعر، وقد سرت في هذا الطريق بطريقة غير إرادية، غير مخطط لها من الأصل.

 ماذا عن السرد السيكولوجي في جدارية العاج: الصراعات النفسيّة التي تنعكس بصورة أو أخرى في مجتمعاتنا المتمزقة؟ الدين والدولة، الدين والعلمانية، الاباحيّة وبعض أشكالها، الخ. (هل هناك حذر لتطرق قضايا مثل الإباحية مثلًا؟)

يكتب الكاتب ليتنفس ذلك تحت حاجة الحالة الكتابية، فهدف جدارية العاج هو الحديث عن ذات النفس البشرية والصراعات النفسية الداخلية الغير مسموح البوح بها أو بالتحدث عنها. لذلك ما تتطلبه الحالة الكتابية مني أسطره دون تردد.

 هناك موروث جبّار للكتاب الألمان (على سبيل المثال – غوته وريلكه) عن الشرق، هل فكرت يوما ما في كتابة رواية تدور أحداثها بين أوروبا والسودان رغم أن الرواية الأخيرة جرت بعض أحداثها في أفريقيا، فهل فكرتم في رواية تاريخية تجبدون فيها خيوط الماضي وتضعونها في صحن بديع للقراء بين الغرب والشرق؟

ما جعلني أكتب وأضع خطة لكتابة عدد من الروايات بين السودان وأفريقيا يعزى للتطرق القليل للقارة داخل الرواية السودانية. نشأنا على كتابات روائية رابطة بين السودان والعالم العربي والأوربي لدرجة يمكننا زيارة بعض الدول ونتأخذ من الراوية مرشد سياحي وتاريخي. لذلك فالأفكار موجودة ما دام القلم يكتب بشغفه للكتابة ومع المتعة فيها.

يقال إن الرواية نص موسوعي يسعى إلى تمثيل ما يعتري الوجود من أنساق ثقافية وسياسية واجتماعية، كيف تعزز فدوى سعد مدونتها النصية بالانفتاح على مختلف الحقول المعرفية لتعزيز خطابها الروائي من أجل تمثيل ناجع لقلق هذا الإنسان؟

 الفكرة الروائية تحتاج لما ذكرت للنبض والمواكبة والمجتمعات والإنسان في حالات تغلب وتقدم وتغيير، تغذية الكاتب، مقدرته الفكرية واستعداده للمواكبة اللغوية والنمطية للسلوك والطرق الكتابية الحديثة والمعرفة والقراءات المستمرة لمختلف ضروب الكتابة يُمكن الكاتب من كتابة مؤلفات تكون لها الديمومة المجتمعية.

 تعد الفكرة جوهر العمل الروائي، باعتبارها البذرة التي تتشكل عملا سرديا سويا، من أين تستل فدوى سعد الخيط الأول لإنتاجها الإبداعي لممارسة عملية النسج الحكائي؟

الكاتب وليد مجتمعه وبيئته وكل ما يحيط به ودوما البذرة وليدة صدفة فتنمو لتكبر. هنا يوجد فرق بين كاتب هاوي وكاتب محترف، المحترف قد يضع خطة للمواضيع التي سيتناولها. والهاوي مثلي تبدأ لديه الحكاية كيف شاءت أن تبدأ، هي من نظرة، سلوك، تصرف أو حدث وتصطحب بعدها من خلال تكوين الشخصيات مجريات الرواية.

في مقابل هذا التكثيف الفعال للزمان والمكان، نسجل في جدارية العاج نزوعا نحو تقليل الشخوص، إلى حد يمكن أن نصف معه أعمالك بروايات البطولة الفردناية، هل هو صراع بين الخير والشر، ما دلالة هذا الاختيار؟

الشخوص خلقتهم الحالة الكتابية وبالفعل الحالة الكتابية كيبوتسا (الرواية الثانية) شخوص محدودة. الخيارات غير موجودة لدى الكاتب الهاوي فهو لا يعلم ما سوف يكتب. فقط فكرة ما يسقطها لخيالة فتنسج حولها الحكاية.

يزعم بعض النقاد أن الجدارية ليست رواية بالمعنى الكلاسيكي للكلمة لكنها (مجموعة قصص) ربط بينها حتى تستوفى شروط الأسس في الرواية؟

إن ما دفع بالنقاد إلى هذا الاتجاه عنونة الأجزاء.  أعطت العنونة إحساس بالانغلاق الموضوعي، إذا لم تكن موجودة لما وصل هذا الاحساس. فثيمة اليتيم شملت شخوص الرواية ومن الصعب كتابة قصص متفرقة ثم جمعها حتى لا تختل الثيمة.

 من الأسس التي ينبني عليها فعل التسريد لديك نجد ذلك الاستناد على الإمعان الجيد والتصوير المميز (كما في مشاهد عدّة تُعنى بالبيئة والحيوانات مثال الطيور)، في سرد الحكاية؟

 الكتب هي الزائر الغامض: غلاف جاذب ومحتوى مجهول. من مسئوليتي الكتابية التي أضعها على عاتقي مهما كان المحتوى: يجب أن تكون هناك فائدة معرفية ما، أو لفت انتباه لمشكلة مجتمعية بمعنى أشمل، وأن يجد القارئ شيئا ما يفيده نفسيا، سلوكيا أو مجتمعيا.

هل يمكن أن نصنف جدارية العاج كبداية للرواية البيئيّة؟

 عند كتابتها لمن يكن المقصد أن تكون كذلك. وأصابت الجدارية هدفا جميلا بغير خطة مزمعة سلفًا. جدارية العاج بيئية، معرفية، عاطفية، يمكن للناقد أو القارئ أن يضعها تحت المسمى الذي يحس به وله شواهد عليه.

 خذي بعض الأجزاء المحببة إلى نفسك من قلب الرواية وحدثينا عنها:

«رأيتُهم تحتَ ظل شجرة الباوباب المُعَمِّرة يضعُ فِي عنقها عقدًا مِن أزهار الجازانيا البيضاء، وانحني؛ ليضع قبلةَ الحبِّ فِي فمها، في مسافة الحبِّ صاحتِ الأشجارُ والمياه والحيوان، الصيَّادون قادمون، فزعتْ طيور الجنة، غَطَّى خوفها السَّمَاء. انتزعوها مِن سمو الحبِّ، باعها الصياد للغريبِ ثمن الحسناء بندقيتين و10 لفات مِن القماش، وباعوه بِصُرَّةٍ مِن البارود.»

إن القراءة المصاحبة أو المدعمة لكاتبة حديثة العهد بالرواية تقتضي فيها حاجة الحالة الكتابية ل معلومات داعمة للعمل، فلجأت في الجدارية لفترة العبودية في أفريقيا فقرأت كتاب «تجارة الرقيق» في أفريقيا للكاتبة المصرية عايدة العزب موسى، كتاب من 257 صفحة، لتذويد جدارية العاج بالمعلومة التاريخية الحقيقية.  مثال إن الحسناء تباع بعشر لفات من القماش والصبي بصندوق من النبيذ فأتيت بصرة من البارود عوضا عن النبيذ كمثال.  فالقراءة المدعمة كان لها دورا بارزًا في تحلية وتدعيم القصص، فجاءت هاهنا زيارة كينيا كزيارة معرفية خيالية بالإضافة ل لطرق صناعة الكموبست مثلًا أو تربية التماسيح.

«لم يكن يعرفون كلمة السّلام؛ لأنَّهم يملكون ما هو أجمل مِنها، يملكون ما فُطِروا عليه أوثادو، مابنزي، سويويا، الحبُّ، ني نيفي، اري يني هوك»

 كان التنوع اللغوي الأفريقي كلهجات ولغات مكتوبة مهما جدًا في سياق كتابة للجدارية، فتناولت وقتئذ مثلًا، كلمة «الحب» بوقعها الجميل في تلك اللهجات، ف جدارية العاج جعلتني أتنقل بين لهجات الشونا، الزولو البني عامر، الماساي واليوربا من أجل معرفة كيف تكتب أو تنطق المفردة السيميائية التي تتحد عندها الإنسانية.

 «ماذا أرسم ندبة علي يد العشق تسكن قبر، حائط أمانٍ تلاشي في تصريفِ قَدَرٍ؟

> أَمْ أرسمُ صدرًا واسعًا لا آثار لِي فيه ولا بقايا عطر، أرسمُ قصصًا بلا أفواهٍ، ليلًا مضاءةً أنوارُه، ولن تُطْفَأ حين مِزاح.. ماذا أُسَمِّي اللوحات؛ حنانٌ مفقودٌ، عطرٌ برائحة الحنوط، أمْ طل يسقط حيثُ لا وجود لأرضٍ؟»

هنا نجد الخيال التصويري أو المشهدي كطريقة من طرق السرد الحديثة. فطل التاج كشخصية وضحت ذلك في مشاهد لوحة رسم وإحساس عاطفة. الكاتب هو اللص أو المتلصص للانعكاسات المشاعر والأحاديث ومقدرته ترجمه الأحاسيس أيًّا كان نوعها لحكي قصة قد يعجز صاحبها من وصفها، فنظرات اليتيم وطرق العناق كنت أقنصها وأتلصص عليها كواقع وردود أفعال من قلب بيئتي ومجتمعي.

 كلمة أخيرة عن دأبك الأدبي وعن الجدارية وإجابات عن أسئلة ربما لم تخطر لنا ببال ولم نطرحها في سياق هذا الحوار.

عامين للقراءة وعام أكتب فيه أكملت الرواية الثانية قبل أيام، ذلك بعد عامين من كتابة جدارية العاج. أما فيما يخص الكتابة للأطفال فالآن بين يديّ مسودة لم تكتمل بعد، لصعوبات التعلم للأطفال ذوي الاحتياجات الخاصة، فالعمل ينطوي على رسومات مصحوبة بقصائد قصيرة.

الجدارية ستظل الكتاب الذي استمعت بكتابته، وتوجد بها مشكلات في التدقيق اللغوي، نشر الطبعة الثانية بإذن الله، بالإضافة إلى الترجمة والاقتراحات المتعددة بأنها تصلح لعمل دارمي، مما يدعوني للسير قدمًا في اتجاه كتابة سيناريو.

https://anbaaexpress.ma/tu8uc

محمد بدوي مصطفى

كاتب وباحث سوداني مقيم في ألمانيا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى