
( هذا ملخّص يخفي الكثير من التّفاصيل، حول انبعاث الأصلي، معززا بقراءة سارتيرية لـ”معذبو الأرض”، أيقونة تنظيرية في الكفاح ضدّ الاستعمار، بل هو مانفستو مكلّل بتحليل يتجاوز الاحتجاج إلى تشخيص ذُهان الاستعمار وأمراضه، تلك الأمراض التي يذكيها عنف المستعمر الذي ينتهي إلى استنبات العنف المضاد من المحلّي، حينها وضمن هذا الجدل بين عنفين، يحدث العلاج التاريخي، تحرير المحلي من الاستعمار الذي يمثله الآخر، وتحرير المستوطن من الاستعمار الذي تمثله أناه ).
+ + + +
حين أتحدّث عن ذروة الإمبريالية، فالحديث يكشف عن حالة تشخيصية تاريخية فائقة، وهي أنّ الذروة تستدعي الانهيار، هي الذروة التي تكشف عن جمود في خيارات الإمبريالية إزاء واقع في يقظة متنامية، تعجز الإمبريالية عن تغيير مجرى التّاريخ، فالأصلي يحتج وأيضا يطوّر من أدائه، وهو في كل هذا ينخرط في تاريخ أراد له المستعمر أن يكون تاريخا خاصا به، وإن بدا عامّا على النمط الهيغلي، فهو ليس تاريخ مساواة، بل هو تاريخ تصنيفي، تاريخ صراع بين السادة والعبيد، لا ينتهي إلى التّحرر على أساس العدالة، بل ينتهي إلى الاعتراف على أساس الصّراع، اعتراف بأنّ صنفا يحتكر القوة والمخاطرة، وصنف ليس أمامه سوى الإذعان.
تخمد عواطف الأمم، لا سيما الأجيال التي تنطبق عليها الدّورة السوسيولوجية الخلدونية بخصوص تراخي القيم، وتنامي أحاسيس الدّعة التي تتحوّل إلى عوامل خراب العمران البشري وانهيار الحضارات، ذلك لأنّ الأجيال التي لم تعش أهوال الاستعمار، تجد نفسها غير عابئة بالذّاكرة الجماعية لتاريخ المقاومة. وهكذا، تتنامى مظاهر الاستهتار بالذّاكرة بقدر ما تتنامى مظاهر التّنكّر لقيم التّضامن مع الأمم التي لا زالت ترزح تحت نير الاستعمار، وهذا النوع من الاستهتار له تجليات متناقضة، تارة يكون صريحا في التمكين للمستعمِر، وتارة يكون باستثمار وضعية المستعمَر نفسه. فلقد تنامت مظاهر الانتهازية والمتاجرة في الأزمات الدولية، وتراجعت قيم التّضامن، وهو تضامن لا يمكن أن يتحقق من دون مُخاطرة.
سارتر قارئا فانون
تقدّم محاولة فرانز فانون(1925-1961) وهو منظّر ثوري من مارتنيك، عمل طبيبا عسكريا في الجزائر إبّان الاستعمار، ثم سرعان ما انظمّ لصفوف جبهة الثوار، وترك أفكارا تنظيرية مهمة في مناهضة الاستعمار في القارات الثلاث، وهي محاولة تنظيرية واضحة، تعزّز خيار مقاومة الاستعمار، من منطلق العنف الثوري المسلّح، لا خيار دونه، تكمن قيمة أطروحة فانون، في كونها كانت تحليلية وتشخيصية استطاعت أن تبرهن على أهمية خيار المقاومة، حيث لا مجال للتفاهم مع المستعمر وعنف الاستيطان إلاّ بعنف الكفاح المسلح، وفي زمانها بدت أطروحة فانون ونظريته، أكثر واقعية من التنظير الذي بدأ يدخل في إشكالية التصنيف، أي التمييز بين عنف استعمار دون آخر. هذا التمييز بين الاستعمار الإنجليزي مثلا والاستعمار الفرنسي، استطاع أن يخترق الوعي المحلّي نفسه.
بين فانون ومالك بن نبي مثلا، مسافة قد تبدو في ظاهرها تناقضية، ففانون يدعوا إلى مكافحة الاستعمار بأي وسيلة مهما بدت ضعيفة، بينما مالك بن نبي يتحدّث عن القابلية للاستعمار.
فانون يشرح ويشرِّح جريمة الاستعمار، بينما مالك بن نبي وهو من المفكرين التحرريين، يتحدّث عن قابلية المحلي واستدعائه للاستعمار. والواقع أنّ ثمة ما هو مشترك. فانون أيضا يظهر أنّ مقاومة تخلفها مبدأ أساسي في مقاومة الاستعمار.
وفي نظري أنّ مالك بن نبيّ كان حريصا على أن يظهر الأصلي بأنه شريك للمستوطن في أصل العقل والإنسانية والتّاريخ، وبالتالي ضرورة الدعوة المنطقية للمساواة والعدالة، وهو جيل جديد سيتناوله سارتر، لكنني أعتقد أنّ مالك بن نبي كان قد تأثّر في تلك المرحلة برؤية شاعت يومئذ، لعلّ أحد رموزها بالغ التأثير في جيله، العالم الهندي أحمد خان، الذي قدّم رؤية كاملة عما يمكن اعتباره القابلية للاستعمار، وهي فكرة شاعت بعد تنظير أحمد خان. وكان عديد من المنظرين اعتبروا الاستعمار فرصة، ومكاسبه غنيمة.
كما أنّ أفقا بدا لدى البعض، ينادي بالعدالة والإصلاح من داخل الاستعمار؛ فكان بعضهم ذهولا وتحت وطأة عنف الاستعمار البريطاني، ينظرون إلى الاستعمار الفرنسي كمثال. وهكذا في عمق هذه الرؤية سنقف على مفارقة استعمار أمثل واستعمار أسوأ. ولقد وقفت على هذه المفارقة في نصوص جيل النهضة والإصلاح، في مراسلات السيد جمال الدين الأفغاني، ومحمد كرد علي في غرائب الغرب وجرجي زيدان في الرحلة الأوربية. ومما أثار انتباهي لهذه المفارقة، التي جعلت السيد جمال الدين الأفغاني يحصي محامد الاستعمار الفرنسي مقارنة مع صلف الاستعمار البريطاني، حدّ نقل شعور المحليين في بعض المستعمَرات الفرنسية بنوع من الاستقرار والراحة في ظل الإحتلال الفرنسي.
ولا ينبغي أن تؤخذ هذه الأحكام كمداهنة للاستعمار، بل وجب تأمّل عنف الاستعمار حدّ النزول إلى فكرة أنّ هناك استعمارا أفضل من استعمار. هذا في حين كان غوستاف لوبون يواجه فرنسا بمثال الاستعمار البريطاني الذي لم يكن يتهدف إلى المحو الثقافي والهوياتي للمحلّي.
فرانز فانون الذي ظهر في ذروة الاستعمار الفرنسي، ينحو منحى الوضوح، وهو غير معني بتوضيح الأمور للمستعمر كما سيوضح جون بول سارتر، بل هو يساهم في توعية المحلّي نفسه ومهامه التّاريخية. القابلية للاستعمار حقيقة لا تتناقض مع فكرة فانون، لكن الحق في التحرر من الاستعمار هو مهمة المحلّي مهما بدا، يكفي أن يكون واعيّا بما ينبغي فعله، وبأنّه هوية مختلفة وثقافة تتشكّل في قلب النّار.
حين يستدعي الاستعمار مُقاومَته
معذبو الأرض هو مانيفستو للتحرر والكفاح الوطني، خطاب للأصلي الذي وضعه الاستعمار في تخوم غامضة بين الإنسان والحيوان، وقوف في المنتصف لأسباب تتعلّق بالإنتاج. وسيرى فيه سارتر هذا الخطاب المحرج للقارئ الأوربي، لكن في تفاصيل القراءة السارترية سنقف على أفكار، تضعنا أمام خطاب مختلف، خطاب استنكاري ضد الغرب، يتوسّل بنصّ لثائر أصلي ليدين الغرب، ذلك الذي فضحته المستعمرات.
يسخر سارتر من وضعية النخبة الجديدة، التي صُنعت تحت أعين النخبة الغربية. يقصد صناعة نخبة من الأصليين، وسطاء، جعلوهم يرتبطون بعواصم المحتل حدّ حبهم لها محبة الإبن لأمّه. استقدام فتيان من المراهقين استطاعوا أن يرسموا على جباههم حسب سارتر بالحديد الأحمر مبادئ الثقافة الأوربية، وحشوا أفواههم “بأشياء رنانة”، يصفها سارتر كالتالي: ” بكلمات كبيرة لزجة تلتصق بالأسنان، ثم تردهم إلى ديارهم بعد إقامة قصيرة في العاصمة وقد زيفوا “.
يحاول سارتر أن يحلل وضعية النخبة المحلية المزيفة داخل المستعمرات، وهو طبعا كما سنرى لا يقف عند كونهم تمثّلوا لغة الأوربي، بل هو يهيئ القارئ لفشل الاستعمار في المراهنة على تلك النخب، لأنّ جيلا جديدا لن يفكّر بطريقة الآباء، بل سيكون أوضح، كما هو حال فانون، في القول بأنّنا لسنا مثلكم.
ولا زلنا بالفعل نرى هذا النمط من المثقفين، لا سيما العرب، الذين لا زالوا يسلكون على طريقة النخبة المزيفة التي تناولها سارتر بالهجاء، لأنّه مدرك لحقيقتها كأكذوبة حية. فهم في نظر سارتر لا يجدون شيئا يقولونه لإخوانهم المحليين، فلا “يزيدون على أن يرجّعوا ما يسمعون”. ستتغير الأمور، من ذلك العهد الذهبي للاستعمار إلى عهد جديد، جعل المحلي يخاطب الاستعمار بلغة الإنسانية، على أنه ليس وفيا لتلك المبادئ، حتى بدا الاستعمار أنه نجح في مهمّته لما يرى المحلّي يتحدث لغته ومفاهيمه وقيمه. لكن سارتر يرى أن ثمة جيلا جديدا نقل القضية إلى أفق آخر، معتبرين أن الغرب يشوّه هويتهم.
إنه لا يعتبرنا سواء من الناحية الإنسانية. كان الأوروبي مطمئنا إلى عدم ثورة المحلي، لأن غاية هذا الأخير أن يكون مثل الأوربي، وهم لن يسمحوا له أن يكون مثلهم. يقول سارتر: ” لقد كنا إذن نشجع تلك الألوان من الأسى، وأحيانا لا نجد مشكلة في منح بعض الزنوج جائزة جونكور، وكان ذلك قبل عام 39″.
لكن الأمر في عام 1961 سيختلف، ثمة خطاب مختلف، خطاب يكشف عن تناقضات أوربا حول موضوع الإنسانية. يميز سارتر بين أن ينهض فرنسي بهذه المهمة الاستنكارية ضد فرنسا وبين أن ينهض بها فانون من الخارج، فالأول واعظ، ينبّه بلده، ويرهن نفسه بوطنه لأنه يصدر من داخل الشعور القومي المشترك، لكن فانون لا يقدم نصيحة للمستعمر، ولا يقدم له الدواء، ولهذا كان كتاب فانون في نظر سارتر يبعث على الفضيحة. ويستنتج سارتر من هذا، أن العالم الثالث يكتشف نفسه ويخاطبها، ففانون حسب سارتر لا يخفي شيئا، فخطابه واضح: ” على المستعمرة أن تناضل ضد نفسها من أجل أن تناضل ضدّنا، أو قل إنّ هذين النضالين ليسا إلا نضالا واحدا، يجب لجميع الحواجز الداخلية أن تنصهر في نار المعركة “.
ما الذي جعل السلطة تستمر بيد المُستعمِرين، على الرغم من السيادة الصورية؟ يقف سارتر موضّحا ما كان يرمي إليه فانون، من وحدة المصير واتحاد المُستعمَرين في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاّتينية. وأحسبه لامعا في الإشارة إلى هذه المعضلة التّاريخية، التي ساهمت في تمكين المُستعمِر السابق، يستعيد هيمنته بطرق جديدة، ولعلّها أقلّ كلفة.
وجب اليوم الحديث عن صيرورة السيادة من عديمة إلى صورية، شكل من الإدارة الذّاتية، جعت المُستعمَرات القديمة تتحوّل إلى فدراليات استعمارية مقنَّعة. يرى سارتر أن وحدة العالم الثالث يومها لم تتحقّق، ونضيف إلى ذلك أنّها حتى اليوم لم تتحقق. فالعالم الثالث دخل في رهان جيوسياسي مختلف، والمصالح المؤطِّرة للتحالفات ذات الطابع الجيوستراتيجي، أعادت العالم إلى نموذج الفيدراليات الاستعمارية المُقنّعة؛ بتعبير آخر: إلى محميات غربية، الأمن مقابل السيادة، تعمل قوى الاستعمار التقليدي على صناعة الحروب وخلق الأزمات، ثم تفرض الحماية على المحاور الأضعف. وفي المقابل يغرق العالم الثالث في أزمات، يساهم في تعزيزها بوعيه الخاطئ وعصبيته وسوء استشرافه للمصير، لكن فانون حسب سارتر يرى أن اتحاد المستعمَرين ستتحقق في القارات الثلاث، لأنه لا بديل من هذا الاتحاد وإلاّ صرعنا المستعمر مرة أخرى الواحد تلو الآخر.
وبقدر ما تبدو الدعوة مثالية لقيام اتحاد بين كل المستعمَرين بقيادة الفلاحين، بقدر ما يدرك فانون معضلة وعوائق تحقق هذا الاتحاد. يشير سارتر إلى أن فانون لم يخف أثناء دعوته تلك كل أنواع الضعف والشّقاق والزّيف حيث: ” هنا انطلقت الحركة انطلاقة سيّئة، وهناك أخذت تفقد سرعتها بعد انتصارات مدوّية، وهناك توقفت “.
أمّا أنواع الضياع المخرّب لهذا الإتحاد، فلطالما نبّه إليها فانون، وكأنّ فانون يحذّر من موانع تحقق الاتحاد وانتصار الثورة على الاستعمار. وكلّ ما نبّه إليه فانون لم يتحقّق، يلخص سارتر تلك المحاذير في فكرة الزعيم وعبادة الشّخص وكذلك الثقافة الغربية وعودة الماضوية إلى الثقافة الأفريقية، بينما المطلوب أن الثقافة الحقيقية اليوم هي الثورة، ثقافة تنشأ في حمأة الصراع. يتساءل ساتر، بما أن فانون صريح، والمُستعمِر يقرأ دعوته، ألا يستفيد من صراحته؟
ففي نظر سارتر انتهى كلّ شيء، ولا مجال لاستئناف السيطرة بعد يقظة المحلّي. كان أبناء الأصليين الذين صنعتموهم يحدثونكم وتحدثونهم، أما الأبناء اليوم فيتجاهلونكم، وبأن مصيرا غامضا ينتظركم، هكذا يوجه سارتر خطابه للغرب، مستنتجا: ” وفي هذه الظلمات التي سينبجس منها فجر جديد، ستكونون أنتم البدائيين”.
إن فانون يذكّركم حتى وإن تناسيتم أنّ لكم- أنتم الضالعين في الثقافة والإنسانية والتحرر- مستعمَرات. بهذا يوجه سارتر للأوربيين دعوة لقراءة هذا الكتاب، لأنّه أيضا سيشعركم بالخجل، “والخجل كما يقول ماركس عاطفة ثورية”. كتاب فانون حسب سارتر يوفّر العلاج لأوربا نفسها:”أيها الأوروبي، إنني أسرق كتاب عدو، فاتخذه وسيلة لشفاء أوربا من دائها”.
وثمة في نظر سارتر سبب آخر يحفز الأوربي لقراءة فانون، شريطة الاعتراف. فانون في نظر سارتر يعيد مولدة النور إلى التاريخ، مقارنا بينه وبين إنجلز، فانون لا يقدم شيئا بل يشرح موقفا حتى حين يبدو داعيا لنهج العنف ضد المحتل، فهو يذكرنا بذلك الدياليكتيك الذي لطالما أخفاه نفاقنا الليبرالي.
ثمة ما يستدعي التوقف، الأنسنة مرّة أخرى، الأنسنة التي استعيدت بمكرها اللّيبرالي، لأنّها بدأت ماكرة تخفي كلّ الآلام التي أنتجتها هذه الأخيرة ضدّ النوع. لقد كانت البورجوازية في نظر سارتر مضطرة لإدخال أولئك العمال المتوحشين في نوعها الإنساني، فقط لكي يبيعوا قدرتهم على العمل بيعا حرّا، المساواة بهذا المعنى زيف. هذا بينما الجندي في المستعمرات طبق مبدأ التمييز، وذلك لأنّ سلب أخيك في الإنسانية حقه أو قتله أو استعباده هو جريمة، والحل هو أن الأصلي ليس إنسانا، وعليه يقول سارتر: ” وعهد إلى قواتنا بمهمة إحالة هذا اليقين المجرد إلى واقع: صدر الأمر بخفض سكان البلاد الملحقة إلى مستوى القرود الراقية، من أجل تسويغ أن يعاملهم المستوطن معامله للدواب “، بل إن المُستعمِر لا يريد إخضاع هؤلاء المحليين، بل يعمل على تجريدهم من إنسانيتهم. وعلى هذا الأساس سيعمل على تقويض تقاليدهم، وإحلال لغتنا محل لغتهم، وهدم ثقافتهم دون إعطائهم ثقافتنا.
إن سارتر يستند إلى تحليل فانون في مخاطبة الـ”نحن”، الأوربيين، بأنّ دعواها الإنسانية قد تعرّت، وهي دعوى غير جميلة، أيديولوجيا كاذبة، تسويغا للنهب، تكفل غدارتها عدواننا، سنكون والوصف كله لسارتر أعداء الإنسانية بما أن هناك من يصبحون بشرا بمقاتلتنا.
ويرى سارتر أنّ عملية تحويل إنسان إلى بهيمة، ليس أمرا مستحيلا، ولكنها مهمّة مُكلفة، سيكلّف المستعمِر نفقات كثيرة، لن يكون إنسانا ولا بهيمة، بل سيتحول إلى أصلي، إلى ماكر وكسول ولص وعنيف، هنا يصبح المستوطن عاريا، ويدخل في نوع من التناقض، لأنّ عليه ليس فقط أن ينهب الأصلي، بل عليه أن يستغله. أو لا خيار له سوى أن يقتل من نهبهم من المحليين كما يفعل الجنّي بتعبير سارتر. فإذن ينتهي سارتر إلى استنتاج هذه الحقيقة، وهي حتمية زوال الاستعمار، حيث لا مجال لإبادة النوع ولا استعباده. إنّ عنف المُستعمِر الذي يمتصه المحلّي ينقلب عليه، وخلال ثلاثة أجيال تتحرك غريزة قتل العبيد لسيدهم. إن فانون يقدم هذه الحقيقة، ولذا يدعو سارتر إلى قراءته: ” اقرؤوا فانون تعلموا أن جنون القتل إنما هو اللاّشعور الجمعي للمستعمَرين في زمن عجزهم”. إنّ هذا العنف هو عنفنا يرتد علينا. إن الشيء الذي علّمنا نحن الأوربيين – أتحدث بلسانهم – هو أن اللّين لن يستطيع القضاء على العنف بعد أن يستحكم كذهان جماعي، بل العنف وحده من يستطيع محو علامات العنف وبالتّالي فإنّ “المستعمَر يشفى من عُصاب الاستعمار بطرد المستعمِر بالسلاح”، إن ظلمات الاستعمار تخرج من نفسه تدريجيا عبر هذا العنف. العنف وسيلة لتربية المحتل بالقدر الذي يبدل من أحوال المستعمَر، إنهم بهذا يقول سارتر يجتثون بعملية دامية المستعمِر الموجود في كلّ منا.
يدعو جون بول سارتر الأوربيين للاعتراف بجرائمهم بشجاعة، وهو مع ذلك يرى أنهم باتوا ضحية مرض هذا العنف الذي انقلب عليهم من المحلّي، ويتساءل سارتر إن كان بإمكان الأوربي أن يُشفى؟ فيجيب: نعم، ” إن العنف كحربة أخيل يمكن أن يلأم الجروح التي يحدثها”.
هذه القراءة التي قدمها سارتر لمعذبي الأرض في 1961، هي وثيقة تاريخية على عنف المستعمر، بل ومرضه الذي لم يكن من طريق للشّفاء منه إلاّ بالعنف الذي فرضه. فمقاومة الاستعمار بالعنف المسلح كانت أيضا ضربا من العلاج، والكشف عن تناقضات القيم الكبرى للإنسانية والحرية.
إنّ الاحتلال يفقد قوة حضوره بفعل صمود وتحوّل المحلّي، وانقلاب عنف المستوطن عليه. الاحتلال هو ذُهان مرضي، ينسى معه الاحتلال كل الدروس الإنسانية التي علّموه إياها، وهكذا لا مجال لتبرير تواجده في أرض سليبة إلاّ بتعزيز الميز العنصري ضدّ المحلّي، وهو هنا يكون قد بدأ مشوارا آخر نحو حتمية زواله، لأنّ إبادة المحلي مكلفة وتحويله إلى بهيمة كذلك، وحين يصبح أصلي فقط، قد يتحوّل في الحدود الأدنى إلى عنيف وماكر، وإذا استرجع وعيه وامتلك قوته، فسيمتلك زمام النصر، وستبدأ عملية الانقلاب على عنف المستعمِر، ولن تتوقّف جيلا بعد جيل، حتى يصبح العنف ظاهرة في مجتمع المستوطنين: حرب أهلية وشيكة.