آراءثقافة

حين تنطق الوثيقة ( 7 ).. الجنرال محمد بن عمر الحرش (2 – 2)

مقاتل مغربي في فيتنام رفقة هوشي منه

تتمة..

توقيع فام نغوك تاش: جنرال بالجيش الفيتنامي من قبل الجنرال جياب

هناك خطبة تاريخية مهمة لابن عبد الكريم الخطابي، يحرّض فيها على التضامن مع المقاومة الفيتنامية، وهي تعكس وعيا كبيرا، مما جعله ملهما لثوار كثر: ماتسي تونغ، غيفارا الذي قال له أثناء زيارته لمصر: أيها الأمير، لقد جيئت خصيصا إلى القاهرة لأتعلم منك، إنّ معركة أنوال المجيدة هي درس لكل مقاومي العالم، والملهم الأول لحرب العصابات.

شارك علي يعتة القيادي في الحزب الشيوعي المغربي والأمين العام للحزب بعد أن تغير إسمه إلى التقدم والاشتراكية، وعبد الله العياشي وعبد السلام بورقية سنة 1953 في مؤتمر الحزب الشيوعي البولوني بفارسوفيا، وكان الزعيم الفيتنامي هوشي منه من أبرز الذين حضروا في ذلك المؤتمر.

وكان هوشي منه قد طلب اللقاء بالوفد المغربي ما أن علم بوجوده في المؤتمر، وبالفعل حصل اللقاء حيث أخبرهم هوشي منه بوجود عدد من المجندين المغاربة استجلبهم الاستعمار الفرنسي للحرب في فيتنام، وأخبر هوشي منه الوفد المغربي بأنّ القيادة الفيتنامية أدركت أنّ المجندين المغاربة هم ضحايا مثل الفيتناميين للاستعمار الفرنسي.

لقد كان بالفعل عدد من أولئك المجندين قد وقعوا في أسر القوات الفيتنامية، وآخرون هربوا من الجيش الفرنسي، أكد هوشي منه للوفد المغربي أنّهم على أتمّ الاستعداد لاستقبال مناضلين من الحزب الشيوعي المغربي للقيام بمهام تأطيرية لأولئك الأسرى وتكوينهم من جديد على طرق حرب العصابات، وذلك قبل إطلاق سراحهم.

عاد علي يعتة ورفاقه إلى المغرب وعرضوا هذا الطلب على قيادات الحزب، وكان محمد بن عمر الحرش، المناضل النقابي أنذاك في صفوف الحزب هو من قبل بذلك، ومن هنا بدأت رحلة مناضل مغربي، سيصبح جنرالا في إلفيت مين، لكن رحلته إتسمت بالمغامرة واقتفت طريقا ملتويا وتنسيقا محكما من باريس إلى بولونيا حيث سيتكفل الحزب الشيوعي البولوني ترتيب إيصاله إلى الصين ومن ثم تكفل الصينيون بإيصاله إلى هانوي برّا ليلتحق بالجنرال جياب والزعيم هوشي منه. هناك أيضا بدأت مهمته التدريبية، وقام بأعمال تأطيرية سياسية وكتابة مناشير ترمى على المجندين المغاربة لإقناعهم بالانضمام إلى المقاومة الفيتنامية.

إنّها رحلة دراماتيكية أيضا، لأنّ بن عمر بعد أن تزوج بسيدة فيتنامية، عاد إلى المغرب، لتبدأ رحلة معاناة، وعزلة، عاد فقيرا، معدوما، في وضع سيّئ، وكان قد قصد الجزائر من بين المعارضين المغاربة، لكن سرعان ما أصيب بخيبة أمل.

كان مقربا من الفقيه البصري، لكن انقلاب بومدين انعكس على المعارضة المغربية، فلقد باتوا تحت المراقبة، وتراجع الدعم، كان بومدين يعتبرهم مقربين من بن بله، هذا ما ذكره عبد الله ساعف، حين ينقل ما أخبره به مباشرة الفقيه البصري ملخّصا القصة: “في المرحلة الأولى، كانت المعارضة المغربية تستفيد من مساعدات غير مشروطة من الجزائر، وفي مرحلة ثانية، ومع مجيء بومدين إلى الحكم تم اعتبار المعارضة المغربية كقوة خلفية لابن بلة، فبدأت متاعبها أولا بوقف كل مساعدة مادية، ولاحقا بمحاولة التلاعب بها”.

ساءت وضعية محمد بن عمر الذي اضطر إلى مغادرة منفاه الجديد قبل ذلك، لينتهي نسيا منسيا.

حسب ما ذكر محمد لومة، فدائي سابق في صفوف الجبهة الشعبية و قائد معسكر العرقوب، يتحدث عن محنة المعارضة المغربية التي أدركت في نهاية المطاف، أنها مطالبة بدعم خيار التفتيت لا خيار التغيير، ولذا برحت منفاها ذاك وانتشرت في البلدان.

الكاتب رفقة المناضل محمد لومة: فدائي في الجبهة الشعبية سابقا

معلمة مغربية في فيتنام

ترك المغاربة الذين انضموا إلى صفوف المقاومة الفيتنامية معلمة تاريخية في قرية بافي ها طاي (Bavi Ha Tay)، وهي قرية تقع شمال هانوي، ويطلق عليها باب المغاربة (Moroccan Dung Gate) تماما كباب المغاربة في القدس، بنيت هذه البوابة ما بين 1956 و1960، تعكس الفن المغربي بامتياز، بل تشبه باب السفراء بالعاصمة الرباط، ويرى البعض أنّ هذه المعلمة تؤكد أنّ معظم هؤلاء المجندين لم يكونوا في الأصل جنودا محترفين، بل كانوا في الأصل إما مزارعين أو حرفيين.

وكان بعض من هؤلاء اندمجوا في المجتمع الفيتنامي وتزوجوا هنا وأقاموا مشكلين بذلك جالية، كما توجد جالية فيتنامية في المغرب، قدمت على خلفية هذا الانصهار بين الجنود المغاربة والفيتناميين، وباتت لهم ذرية، كما هو دوّار-قرية- الفيتناميين أو دوار الشينوا قرب مدينة سيدي يحيى الغرب.

باب المغاربة في فيتنام

قصة بن عمر، أو الجنرال الذي تنكّر له الجميع، حتى الجيل الجديد من القيادة الفيتنامية، في أحسن وصف لعبد الله ساعف أثناء تقصّي هذه الحقيقة: “فالفتناميون الجدد لمرحلة ما بعد الحروب، ولمرحلة الندوات وفي زمن إعادة البناء والنزاعات مع الصين والقضية الكامبودية، كانوا منشغلين بما هو أهم من القيام بأبحاث لحسابي حول مغربي غامض.

إلى جانب ذلك، ألم يكن من البديهي أنهم لم يعودوا من الآن فصاعدا مدينين بأي شيء لأي حد؟”.

هذه تضوية سريعة على مقاوم مغربي ترك بصمته في أهم إنتصارات فيتنام، وكما هو حال محمد بن عمر الحرش، هي حالة من قاوموا وانتهت مهمّتهم وإنطوت صحائف التاريخ وانكفؤوا من دون ضوضاء، ما أكثرهم، ولكن تفاصيل مهمة تمكن عبد الله ساعف من عرضها حول نشأة ونهاية هذا الرجل الغريب، إنه بالفعل كذلك، حتى أنه يذكرني في قصيدة الرجل الغريب لبودلير حينما يجيب في مقطع من القصيدة عمن يحب، فيقول: أحب السحب، السحب التي تمر من هناك، السحب العجيبة.

إن حياة الجنرال بن عمر بالفعل أشبه ما تكون بالسحاب، السحاب الذي مرّ من هناك، ويشبهه تاريخ المغرب ومجده الحربي، هم يظنون أنّ تاريخهم يعرفه العالم، ولا يبذلون أي وسع في النهوض به، وحين يؤرخون لا يفعلون ذلك من باب الدّعاية، وهم في ذلك واهمون، لأنّ التاريخ إن لم تكتبه كتبه غيرك، بغير ما تشتهي السفن.

إنّ تفاصيل رحلة بن عمر وأيضا تفاصيل إنحطاط وضعه في ما بعد الحرب، المارشال المشرّد، حكاية مؤلمة، ولكنني أعتقد أنّ فيها شيء من الشخصية المغربية، الزهد في التسويق والبروباغاندا، والاهتمام بالواقع، الجامع هو أنّ نهايتهم غاضبة، فلقد بات رجلا متحرجا في الشوارع، مدمنا حتى الموت، فاحشا في حديثه كأنّه يعبّر عن خيبة أمل قصوى، مشرّدا، مات وحيدا من المرض.

لم ولازالوا لم يكونوا– المغاربة- ظاهرة صوتية، لكن أرشيفهم العامر بغرائب أشكال المقاومة، من غابر العصور إلى الاستعمار وآثاره، حيث المغرب وحده في هذه الربوع من تعرض لأكثر من استعمار، والمقاومون كانوا يحاربون استعمارين، كل بمؤسساته ووجهة نظره وسياساته، أدركوا الفروق في تلك السياسات، فاستعملوها بنجاح، وأيضا كما سنفعل لا محالة، سنبر أنماطا ثلاثة من المقاومة المغربية الملهمة لثوار العالم لم يفر عبقري فريهم فيها:

– مقاومة الجيش النظامي لجيش الاستعمار، أي أنّ الحماية لم تفرض على المغرب إلاّ بعد خوض حرب نظامية وجها لوجه مع فرنسا وإسبانيا، وبات المغرب إذن ضحية لمؤتمر برلين وتقسيم النفوذ، حيث كان المغرب هو الضحية الأكبر لهذا التقسيم الاستعماري ومحاولة تفكيك وحدته ونسيجه الاجتماعي بأساليب ممنهجة.

– مقاومة شبه نظامية، أي جيوش مقاومة على قدر من التنظيم خاضت حربا شبه نظامية مع الإستعمار.

– مقاومة حرب العصابات ولها نظائر كثيرة، ويضاف إليها العمليات الفدائية، بل إنّها الأولى في التاريخ من حيث المنهجية، وهي ملهمة كما سنرى، لتجارب أسيوية وأمريكية-لاتينية وأفريقية، والتي إنتهت بتأسيس جيش التحرير.

– النمط الأخطر، هو المقاومة التي أسميها المقاومة العارية، المواجهة بصدور عارية، رجالا وأطفالا وشيوخا ونساء، تمردات حافية من كل أسباب التسلح، الدّم مقابل المدفعية، نمط من المقاومة لا مثيل لها منذ كربلاء الحسين، كما هي معركة السماعلة.

– جرب المغاربة كل أشكال وأنماط المقاومة، وفي صمت، في كل أرض تسير عليه توجد مقابر جماعية، هم مقاومون، قاوموا للوطن، وكثيرون منهم في مستوى المارشال الشريد الذي مات وحيدا، مكلوما: الجنرال بن عمر أحد أبطال الكفاح في المغرب وفي فيتنام.

بقدر ما كانت الحركة التحررية في أمريكا اللاتينية تعرف إبن عبد الكريم الخطّابي كرمز تحرري، كانت فيتنام في حركتها التحررية تعرف إسما لرمز من رموز الحركة التحررية المغربية؛ هؤلاء الأبطال الفرسان الذين تعرفهم حركات التحرر بالفعل لا بالكلام، ابن عبد الكريم الخطّابي المغربي الذي استجاب لهوشي منه، وتواصل مع الحركة الوطنية، لينتدبوا مناضلا نقابيا سرعان ما أصبح جنرال تحرير بأرض فيتنام.

ساهم بن عمر في إعادة تأهيل الكثير من الأسرى المغاربة الذين عملوا في السلك العسكري الفرنسي، ليصبحوا مقاتلين إلى جانب الثوار الفيتناميين، ليصبحوا بذلك شركاء التحرير والدم، بعد أن حصل إندماج وتزاوج بين المغاربة والفيتناميين، فكانت الروابط الاجتماعية شاهدا إضافيا ووثيقة بيولوجية على تجربة تستحقّ التّأمّل.

https://anbaaexpress.ma/1uerz

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى