آراءثقافة

حكاية الفوضى في العلم والسياسات

بقدر ما تغري قواعد المنهج لفيفا من فلاسفة العلم، بقدر ما ينزع بعضهم إلى التشكيك في جدواها. في هذا الطريق الحافل بالجدل كانت مشكلات المنهج والعلم تترسّخ يوما بعد يوم. لم يعد الاحتفال بقواعد المنهج على طريقة العلم التقليدي محل بجاحة، على الأقل هي مسؤولية عظمى.

يوقفنا تاريخ العلم وفلسفته على تنوع وتضاد بين النظريات وكيفية تدبيرها. وقد نشعر أمام هذا الوضع بأنّنا أمام شكل من الاقتصاد السياسي للمعرفة. أحيانا يتم التعامل مع الأفكار كبضائع قابلة للفساد. والحل إذن، أن نرمى بها في أعالي بحار النسيان. أليس حريّا بنا المقارنة بين موقفين من المعرفة لدى كلّ من الآكاني و فيرابند؟ تنهض ما يعرف بحالقة الآكاني على ما يمكن أن نسميه بالاقتصاد في العلم والمنهج والنظريات.

وهذا تقليد هيمن على مناهج العلم في الغرب التي لا زالت تنزع نحو الصرامة الديكارتية، وحتى مع بوبر الذي يأبى أن يمنح النظريات صفة الخلود مع نظرية الدّحض والقابلية للتكذيب، فهو يتمسّك بجوهر فكرة النسيان والتخلص من كل النظريات التي تطالها نظرية الدحض.

لكن أمام هذا الاقتصاد في النظرية من حالقة الأكاني إلى نظرية الدحض، نقف على فكرة وفرة النظريات مع فيرابند التي تعضد بعضها بعضا من دون الالتفات إلى تاريخها أو تحقيبها في مسار تطور العلوم واكتشاف النظريات الجديدة. الاكتشاف الذي يجري على منحى خارج قواعد المنهج، أي عبر الخيال.

هنا مع فيرابند الذي مزج بين سياقي الكشف والتبرير للنظرية مازجا الخيال بالتفكير، بل دحض المنهج بوصفه معيقا للعلم. هنا مع فيرابند لا يكفي باراديغم توماس كون، فهو لا يحلّ المشكلة رغم نزعته الصوفية التي تنحصر فقط في التحول بين نظرية وأخرى، ولكن تظل كل منهما مرتهنة بقواعد منهج خاصة. في تفاصيل دحض المنهج وتحرير العلم والتركيز على وفرة الأفكار وعدم اعتماد تاريخانية العلم والأخذ باللاّقياسية، نكون أمام شروط نظرية الفوضى الضرورية للعلم.

هنا وفي تفاصيل هذا الأمر، تكمن نكات فائقة الأهمية. لكن ما يغريني أحيانا، هو العلاقة بين التجربة الذاتية للفيلسوف وبين أهم أفكاره. أتساءل ما قصة كانط و نيتشه وهيدغر وفرويد وفيربند مع العقل؟ ما حكاية الفلسفة الجرمانية مع هذا الإرث الفلسفي الذي جعلوه يتقلّب على وجهه أكثر مما فعل غيرهم؟ لنتذكّر هنا أن الفرنسيين هم تلامذة مقلدين للألمان ليس إلاّ. يشرح كانط العقل ويدخل في نقد فصيه: المحض والعملي، كما يتهاوى مفهوم العقل في الخطاب النيتشي إلى ما تحت الجسد، في حين كان فرويد يسعى ليمنح اللاّعقل الكثير من الأهمية خارج قواعد الوعي، بينما أعاد هيدغر الروح لفكرة الوجود وزمانيته، قاطعا مع العقل الموضوعي الذي يضع الزمان خارج خبرة الوجود الذاتي، ليعلن فيرابند: وداعا أيها العقل.

كيف كان هذا العقل ملهما أحيانا لأقصاه في الحركة النازية، وكيف أعادت تجربة الحرب العالمية الثانية إنتاج هذا التّمرّد؟ هل كان هتلر هو نفسه نتيجة للفوضى والخروج عن قواعد المنهج في الفلسفة، مما أربك السياسات الموسومة جرمانيّا بالمحافظة والثبات؟ هل هي الفوضوية الفلسفية التي عوضت الجرمان حرمانا من الفوضوية السياسية؟ فيرابند يؤمن بفوضوية العلم دون فوضوية النسق السياسي، وهذه هي المفارقة التي أردت وضع اليد عليها: بقدر ما ينزع الجرمان سياسيا إلى المحافظة والثبات السياسي فهم يفجّرون قواعد العلم والفلسفة، وليس هناك من مثال أقوى من أنّ هؤلاء الجرمان هم الذين فجّروا الذّرة وغاصوا في الميكرفيزياء وأبدعوا نظرية الكم، كما هم من فجّر وحدة العقل وتقاليده وثوابته. لكن بالمقابل، هناك غير الجرمان من الغربيين، الذين آمنوا بالفوضى الخلاّقة في مجال السياسة والمجتمع، ولكنهم ظلوا محافظين على قواعد المنهج ووحدة العقل. وفي الولايات المتحدة الأمريكية، كنا أمام مصهر عجيب لهذا التعارض بين النزعة الجرمانية وباقي أوروبا.

المفارقة الأمريكية تكمن في الجمع بين أشكال الفوضى في العلم والمحافظة في السياسة، وهما سرّ ما يمكن تسميته بالثورة الأمريكية احتواء العقول الجرمانية المهاجرة في العلم والعقل الأنجلو ساكسوني في السياسة، غير أنّ هذا المزيج من الفوضى والمحافظة لها امتدادات وآثار على سائر مناحي الاجتماع، مما يجعلنا نقف على سرّ التفوق الأمريكي على أوربا العجوز في كل شيء.

لقد هيمن الجرمان في أمريكا على العلم وجماعته بينما هيمن الأنكلوساكسون على السياسة، ومن هنا أصبح الحديث عن الفوضى الخلاقة في مجال السياسات ممكنا بعد هذا الانصهار بين عقلين فرّقت بينهما أوربا ووحدت بينهما أمريكا، برسم النزعة البراغماتية التي هي حصيلة الجمع بين نزعتين فشل الأوربيون في الجمع بينهما.

ولا زلت أرى في هذه الحقول ما يعانق جانبا من الحقيقة وليس كلّها. الحقيقة لا تكتمل في نظري في الخارج الموضوعي، بل في الذّات. إنّها الأنا الشمولية التي ترتبط مع الواقع بحيوية وفرة الحقائق، لئلاّ ينهار نظام المعرفة والأشياء. التمذهب في العلم والمعرفة يشبه التمذهب في الأديان، يكشف لك عن حقائق كثيرة ويحجب عنك أبعادا كثيرة. القابلية للتكذيب عند بوبر ضرورية، ولكن تكذيبا بارديغميا يحيلنا إلى كون، لكن مع لامناهجية فيرباند نكسر جبروت البارديغم نفسه وتحكّمه الغامض في الجماعة العلمية. ولا بدّ من وفرة الأفكار ولكن في الوقت نفسه لا بدّ من سياسة لتدبيرها. دائما وكما في الفيزياء، لا شيء يندثر ولا شيء يولد، بل الكل يتركب.

في سياسة توزيع الأفكار، تقتضي إمبريالية الحقيقة أن نصطنع مركزا وهامشا، وهذه العملية تناوبية حيث في لحظات تاريخية تتحقق ثورة الهامش على المركز فيعاد صياغة جمهورية الحقيقة، الحقيقة التي تكبر معنا في نشوء وارتقاء، تستمد منّا ومن حراكنا الطبيعي وقدرنا كلّ سلطانها، هذا إذا أقررنا ولو قليلا باستحالة إدراك النومينا، على الأقل في شروطنا المعرفية المزرية وانسدادات عقل لا زلنا نبحث عن آخره، عن بدائل من خارجه،عن عقل آخر نحن في انتظاره.

https://anbaaexpress.ma/j1y62

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى