إسماعيل الراجي
في هذه الأيام من شهر نونبر من الموسم الزراعي الحالي 2022، أصبح الفلاحون الصغار المزاولون للزراعة البورية، يعيشون في ظرف جد مقلقل، على ضوء التقلبات المناخية المسجلة خلال هذه الأيام، والمتجلية_من شهر نونبر_ في قلة التساقطات المطرية المسجلة خلال شهر نونبر وشهر أكتوبر.
إذ حل موسم الحرث والزرع دون تسجيل تساقطات مهمة من شأنها أن تدفع بعملية الحرث والزرع نحو الأمام. كما هو معلوم، كانت مثل هذه الفترة من شهر أكتوبر ونونبر تتخللها عدة زخات مطرية، تساهم بشكل مباشر، وغير مباشر في الحركة الاقتصادية التي يدور في فلكها الفلاحين الصغار، وتنعش التجارة والعمالة المتعلقة بالنشاط الزراعي والفلاحي عموما.
وعلى ضوء متغير الطقس وحالة الجو الراهنة، ها هم الفلاحون ينتظرون ويتابعون أخبار النشرة الجوية في كل يوم، لعل و عسى أن تنقل إليهم خبر زخات من المطر، من أجل أن يباشروا ويستكملوا عملية الحرث والزرع.
فمنذ حلول شهر نونبر والفلاحون يترقبون حالة الطقس، متوجسون لا قدر الله من حالة استمرار غياب التساقطات، ما يعني خروج من فترة الزراعة الموسمية المتعلقة بالحبوب (القمح والشعير..)، الرئيسية أي الزراعة في وقتها المناسب، ودخل في زمن الزراعة المتأخرة، أو ما يطلق عليه الفلاحون “المازوزي”.
في حقيقة الأمر، الفلاحين الذين يمتهنون الزراعة المعيشية، لا يعاني فقط من آثار تغير المناخي الذي كما هو واضح في شأن التساقطات المطرية، ودرجة الحرارة..والمؤكد من قبل علماء المناخ، بل، في حقيقة الامر، من المرتقب أن يكون هذا الموسم الزراعي من عام 2022/2023، واقع كلفته المادية على الفلاحين الصغار؛ أكثر كلفة بالمقارنة مع المواسم الفلاحية السابقة.
مع العلم أن الفلاحين الصغار، لم يبرؤا من حالة شبه الجفاف للموسم الزراعي السابق، الذي كانت مردوديته جد هزيلة دون أن تحقق ما تم صرفه من مصاريف على الهكتار الواحد. على العموم، من أبرز إشكالات الملاحظة التي تخيم على الموسم الزراعي الحالي، والمسجلة منذ بداية الموسم: قلة التساقطات المطرية، و غلاء المواد الأساسية لعملية الحرث والزراعة، بخصوص الإشكال الأول، هو مرتبط بتغير المناخي الذي هو ساري على قدم وساق، منذ عقود عدة، حيث يتحدث علماء المناخ عن المشهد الدراماتيكي للتحولات والتقلبات المناخية السريعة التي ستأثر على الانسان والبيئة في عدة أبعاد على رأسها: انتاج الغذاء، وكمية ووفرة الماء الشروب، ومساحة الامتداد الغابوي العالمي، وغيرها من الاعراض الناجمة عن التغير المناخي.. إلخ.
إن العلماء من حقول معرفية عدة يؤكدون على حقيقية التدهور المناخي، الذي له تبيعات وخيمة على كوكب الأرض وما عليه من حياة، وكل ما يحدث في الكوكب من تغيرات في درجات الحرارة، وما تشهده بعض الدول من ظواهر كالجفاف، و الفيضانات، وارتفاع درجة الحرارة ونحوها من ظاهر المرتبطة بالبيئة، ما هي إلا مشهد من مشاهد التغير المناخي، مشهد يقول علماء المجال والبيئة، بأنه مشهد يجعل المجال الاجتماعي والجغرافي معلق في شبكة من المخاطر البيئة، نسجت عبر عقود عديدة من تراكم التلوث بكافة أشكاله وألوانه وأحجامه، ومن نتائجه الكبرى احتباس الحراري واستنزاف الثروات الطبيعية، ما الحل؟
يكمن الحل في تقليل من سرعة، ووثيرة التغير المناخي، وتحكم في بعض تفاصيله حسب رأي العلماء في المقاربة البيئة، أو استراتيجية التنمية المستدامة. فإذا لم يتم التدخل من أجل حد من كل ما يساهم في التلوث البيئي الناجم عن المصادر الغازية والسائلة والصلبة..فلا خيار للإنسانية أمام مشهد الكارثة البيئية.
إن المقاربة البيئية _التنمية المستدامة_ التي تعتمدها منظمات أممية كالأمم المتحدة، هي مخرج الخروج من أزمة التغير المناخي، إلا أن هذه المقاربة التي يبدو أنها لم تحسم في اطار العلاقات الدولية في الممارسة الفعلية والتطبيق لمضامينها نظرا لحسابات اقتصاديوية تنافسية بين الدول الصناعية الكبرى تتعلق بكلفة الإنتاج.
ومن المعلوم أن هذه الدول الصناعية _الغنية_ هي من ساهمت بقدر كبير في تلوث الناجم عن أنشطتها الصناعية خلال القرنين الماضيين، وهي من لها سلطة اليوم في صناعة القرار الدولي حول المناخ والبيئة والاقتصاد.
وليس للدول الفقيرة _العالم الثالث_ سوى التعليق على التغيرات المناخية التي هي بالمناسبة أكثر الدول ضررا من مشهد التغير المناخي، فخسائرها أضعاف ما تخسره الدول الصناعية والغنية المجهزة للاضطرابات المناخية.
ومن الجدير بالإشارة في هذا السياق الإشارة إلى خطاب غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، خلال “كوب 27″(=مؤتمر الأطراف حول المناخ) التي عقدت مؤخرا بمصر، ففي خطاب افتتاح مؤتمر الأطراف حول المناخ، حذر الأمين العام مما أسماه “انتحار جماعي”، في حالة عدم التعاون والتضامن الدولي بين الدول الغنية والفقيرة في مسألة المناخ؛ التي تتعلق بقضية الاحتباس الحراري الناجم عن الانبعاثات الغازات الدفيئة.
ومن المؤكد أن حسب بعض الدراسات العالم الثالث، أول من يدفع ثمن التغير المناخي؛ فهو العالم الذي تقل فيه الإمكانيات المادية والتقنيات اللازمة والتجهيزات الضرورية لتجاوز الازمة سواء كانت أزمة مناخية عميقة أو خفيفة؛ وهذا العالم بالماسبة هو من يعيش شريحة من مجتمعه على الزراعية المعيشية التي تعتمد على اعتدال الجو والمناخ بشكل عام.
قصارى القول، ما سجل من قلة تساقطات خلال الشهر المنفرط والجاري في بعض الدول ما هو إلا مظهر من مظاهر التقلبات المناخية التي سبقتها مظاهر أخرى كالحرائق والفيضانات التي ضربت في عدة دول خلال العام الجاري. وها هم الفلاحون في العالم الثالث أصبحوا أمام واقع أزمة التغير المناخي تتحكم في تفاصيل حياتهم المعيشية والإنتاجية.. ما يعني التحكم في مفاصل التنمية.
في حالة المغرب، من المعلوم أن هناك مجالا ممتدا في المجال الترابي المغربي الزراعي، تتحكم في انتاجيته الفلاحية التساقطات المطرية التي تكون خلال الموسم الفلاحي، و بالخصوص التساقطات خلال شهر أكتوبر، ونونبر التي تعد من أهم التساقطات التي تكون في مفصل بداية عملية الحرث، والزرع خلال كل بداية موسم فلاحي، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، تعد التساقطات المطرية في مشهد الزراعة البورية بالمغرب هي العمود الفقري للمشهد الزراعي البوري، و عليه، يكون لأثر قلة تساقطات المطرية، أثار اقتصادية وتنموية وخيمة على الفلاحين الصغار الذين هم في الأساس فئات، وشرائح اجتماعية هشة تعتمد على الفلاحة المعيشية بالأساس.
وحينما نتحدث عن تداعي قلة التساقطات المطرية، فهذا الامر لا يتعلق بمشهد الحرث والزرع، بل يكون له تداعيات قوية على الاقتصاد المحلي للفلاحين، والعالم القروي الذي يعتمد على الإنتاج الفلاحي، والذي يدخل ضمنه سوق الماشية، حيث قلة التساقطات المطرية الحيوية التي تخص الموسم الزراعي، تتحكم في وضعية سوق الماشية(الكسيبة) على صعيد الأسواق الأسبوعية…وهلم جرا من التبيعات.
من الجدير بالإشارة، حول قلة التساقطات المطرية، أن هذه الظاهرة؛ لوحدها كفيلة أن تخلخل عملية الحركة الاقتصادية المرتبطة بالمشهد الزراعي، وتساهم في الركود الاقتصادي المحلي، وفي صعوبة توفير الحاجيات الأساسية للأسرة، وتعصف برأسمال الذي يعتمد عليه الفلاحون الصغار وهي “الكسيبة”، أي أن التحديات المطلة برأسها خلال بداية هذا الموسم الزراعي، هي لا سمح الله، من العوامل التي ستراكم وتزيد من وضعية الفقر المادي، والهشاشة في الوسط القروي؛ هذا الوسط الذي هو أصلا يعاني ما يعاني من حالات الفقر المتعدد الأبعاد المسجل في الجماعات الترابية ذات الخصائص القروية.
هذا كان عن الاشكال المرتبط بتغير المناخي، ننتقل الآن لتسليط الضوء على اشكال غلاء المواد الأساسية لعملية الحرث والزرع.
كما يقال، المصائب لا تأتي فرادى، فبالإضافة إلى قلة التساقطات، يسجل في بداية هذا الموسم الزراعي، استمرار عملية الغلاء؛ التي تخص متطلبات عملية الحرث والزرع. فمن المعلوم في شأن الحرث والزرع تعد كل من البدور والاسمدة والكزوال من المتطلبات الأساسية لمزاولة عملية الحرث وعملية الزراعة، فهذه المواد وغيرها سجلت خلال هذا الموسم الجاري والذي قبله، أثمنة جد مرتفعة، بالمقارنة مع ما قبل اجتياح جائحة كورنا، وحرب روسيا على أوكرانيا.
وما تزال هذه الاثمنة مرتفعة لليوم، حيث شكل هذا الغلاء في هذه المواد أحد التحديات والاشكالات التي تقف أمام الفلاحون الصغار، وحركة مزاولة نشاطهم الزراعي الذي يعد المصدر الأول للدخل بالنسبة لهم. فمن هامش هذا الدخل تعيش شريحة واسعة من الاسر بالعالم القروي، هذا الأخير، الذي يبدو أنه يزداد فيه العيش صعوبة خلال هذه السنوات الثلاث الأخيرة، إذ حاصر الفقر بكل أنواعه الاسر القروية الهشة والمعتمدة على الزراعة المعيشية، ناهيك عن الأسر القروية من لا تملك أرضا بالأساس.
من الملاحظات الأولية حول شدة الفقر في المجال القروي خلال الآونة الأخيرة، أنه فرض على بعض الأسر كل ما يمكن أن يفرضه:
– فهناك من الاسر من تحكم فيها الفقر ودفعها للهجرة من القرية نحو المدن.
– وهناك من الاسر من دفع الفقر أربابها لأخذ قرار توقيف بعض من أبنائها اليافعين والشباب من الذهاب إلى المدرسة إلى البحث عن عمل لسد رمق الاسرة من المتطلبات الأساسية.
– وهناك من الاسر من حال بينها الفقر وبين سداد فواتر الكهرباء والماء، ما زاد من تراكم شهور الاشتراك في خدمتين ودفع بالجهات المدبرة إلى اصدار قرار مصادرة عداداتها أو قطع الخدمة عنها نظرا لعدم سداد الفواتير في وقتها (خصوصا الكهرباء).
– وهناك من الاسر القروية خلال الزمن الراهن من زاد الفقر من حجم اقتراضها للمواد الأساسية كالسكر والزيت وقنينة الغاز، حيث تجد عسر في عملية تسديد الاقتراضات المتحملة في دفتر البقال.
– وهناك من الاسر القروية من ألزمها الفقر بالذهاب للسوق مرة واحدة في نصف شهر من أجل اقتناء بعض الأساسيات.
– وهناك من الاسر القروية خلال السنوات الأخير ألزمها الفقر باقتصار على حمية غذائية قسرية دون لحم وفواكه.
حاليا حسب إحصاءات المندوبية السامية للتخطيط(2014) يقدر عدد الأسرة التي تسكن المجالات القروية بحوالي 2506000 أسرة، بعدد سكان 13416000 نسمة. وبحكم موقع هذه الاسر في المجال القروي، ترتبط هذه الساكنة بوضعية الفلاحة، بشكل ما من الأشكال، وحتى تلك الاسر التي تعتمد على العائدات المالية التي يوفرها لها بعض من أبناءها الذين ينشطون في مجالات غير فلاحية.
إن ما أردنا الإشارة له، هو أن هناك شريحة مهمة من المجتمع المغربي ترتبط ارتباطا وثيقا بالفلاحة، فحسب بعض التقارير التي تتحدث عن الفلاحة المغربية، تتحدث عن أكثر من 40 بالمئة من ساكنة المغرب ترتبط بهذا القطاع. وعلى ضوء هذا الرقم، فأي هزة تصيب هذا القطاع تعني أزمة تصيب نصف المجتمع تقريبا.
قصارى القول، إن المأزق الذي عليه بعض الاسر القروية التي تمتهن الفلاحة وغيرها من الاسر القروية، هو سؤال في حقيقة الامر يعطي مجموعة من المؤشرات الدالة عن واقع التنمية القروية التي يبدو أن جل المقاربات التي تمت من أجل معالجة هذا المجال، من أجل تجاوز أزمته كانت خطوات غير ناجعة في تجاوز تحييد الوسط القروي من كونه جيبا من جيوب الفقر والهشاشة بالمغرب.
ولا تقتصر أزمة هذا المجتمع القروي فقط فيما تم الإشارة له، أي الغلاء والتغير المناخي، بل ان هذا المجتمع القروي مجتمع “محگور”(=من الحگرة باللسان الدارج المغربي: أي “شعر بالحكر” تعني ” شعر بالظّلم ونحوه) من قبل “النخبة” المحلية التي تهيمن على المشهد السياسي، والاقتصادي، والفلاحي، ويزيد من وعكات هذا المجتمع، سرطان الفساد السياسي والتدبيري وتمرير عليه كل السلع المضروبة والبائرة ومنتهية الصلاحية، وكل هذا تستفيد منه جهة واحدة وهي جهة الاسر النافذة التي هي موجود في مفاصل الجماعات الترابية بفعل قوتها المالية التي جمعتها على حساب الفقراء، والفلاحين الصغار، ومشاريع التنمية منذ سنوات لليوم، وما يزال هذا الاستنزاف جاري على قدم وساق في العديد من الجماعات الترابية-القروية.
*طالب باحث في سوسيولوجية المجال وقضايا التنمية الجهوية