ربما كان الفنان الإسباني بابلو بيكاسو أراد تحدّي أزمنة الفن الحديث بحداثة تفكيكية لما وراء الجسم الإنساني، معتمدا على عدم الوضوح مع الإصرار للوصول إلى أقصى درجات التعبير الصفري للّون، ليشعرنا بالقلق الوجودي العابر فينا، وبوحشية النوازع الإنسانية في القرن العشرين.
كان الفنان بيكاسو يقول: «كيف يمكن لأي إنسان أن يدخل إلى أعماق أحلامي ورغباتي وغرائزي وأفكاري، والأكثر من ذلك يقتنص من هذه الأفكار والرغبات ما يريد من دون إرادتي؟».والحقيقة، أن ما يجعل الفنّ فنّاً، هو التحرّر من استبداد التعبير عن الذات. فعمل الفنان هو مجرد ناقل بالنسبة إلى بيكاسو. فقد كانت الفكرة هي أن الرسم يقوم بنفسه من خلال بيكاسو. لذلك، فالأمر لا يتأثر بالقواعد الفنية المتّبعة من طرف الجميع: الرسم أقوى منّي ويجعلني أقوم بما يريد هو.
ويرجع تاريخ تحطيم بيكاسو التقاليد وكسره الحواجز في مجال اشتغاله الفني إلى عام 1907 في لوحة «آنسات أفينيون»، التي صوّر فيها منظوراً للتشريح الآدمي من الأمام والخلف في الوقت نفسه. وعام 1912 رسم اللوحة التكعيبية الأولى التي صدمت معاصريه، وكانت عبارة عن بورتريه بدائي يمثّل وجه امرأة من زوايا متعدّدة. فضلاً عن ابتكاره مع الفنان جورج براك نوعاً جديداً من الفنّ عرف بالكولاج.
عاصر بيكاسو ثلاث حروب، الحرب العالمية الأولى والثانية والحرب الإسبانية الأهلية، ورفض المشاركة في الحرب لمصلحة أيّ دولة. ووُصِف موقفه من قبل بعض المعاصرين بأنه أقرب إلى الجُبن أكثر من كونه تمسكاً بالمبادئ، ووصفته إحدى المقالات الصادرة في نيويورك قائلة: «إنه جبان ويفضل أن يظل جالساً بعيداً عن الحربين العالميتين بينما كان أصدقاؤه يعانون ويموتون في الحرب».
عام 1944 انضم بيكاسو إلى الحزب الشيوعي الفرنسي وشارك في مؤتمر بولندا الدولي للسلام. وعام 1950 استلم جائزة «لينين للسلام» من الحكومة السوفياتية، وظلّ حتى نهاية حياته عضواً مخلصاً في الحزب الشيوعي.
وخلال الحرب العالمية الثانية، ظلّ بيكاسو في باريس في وقتٍ احتلت القوات الألمانية المدينة. لم يكن الأسلوب الذي يتبعه في فنه متناسباً مع وجهة النظر النازية للفنّ، لذلك لم يتمكن من طرح أعماله الفنية خلال هذه الفترة. وعلى رغم ذلك استمر في الرسم في الاستوديو الخاص به.
عام 1937 بدأ فن بيكاسو يأخذ شكلاً آخر، فبعد القصف الوحشي الذي تعرضت له بلدة غيرنيكا، رسمها في واحدة من أروع أعماله، وهي لوحة جدارية «غيرنيكا» وقدّمها كصرخة احتجاج وإدانة للوحشية والدمار الذي تعرضت له تلك البلدة. وفيها صوّر أهوال الحرب الأهلية في إسبانيا في الفترة ما بين 1936 و1939. وبعد الحرب العالمية الثانية رسم لوحات مشوّهة فيها الكثير من الحزن والعذاب مثل لوحة «البيت المقبرة»، وقال في ذلك: «إن اللوحات لا ترسم من أجل تزيين المساكن، إنها أداة للحرب ضد الوحشية والتظلمات».
وفي المعرض الدولي في باريس، حيث عرض بيكاسو لوحة «غورنيكا» في الجناح الإسباني، تقدّم منه ضابط ألمانيّ كبير كان يمثل الجناح الألماني في باريس فقال بلكنة فرنسية ألمانية: «أنت من فعلت هذا؟» فأجابه بيكاسو: «لا أنتم الذين فعلتموه .؟».
لا بدّ من الإشارة إلى معلومة في حياة الفنان العالمي بيكاسو، أنه كان يقول في كل حواراته الفنية مع وسائل الإعلام سواء المرئية أو المكتوبة، «إنّ الفنان يرث من أصدقائه».
كان بيكاسو مسحوراً بدولاكروا، وقرّر أنّ يرسم سلسلته الخاصّة. فبدأ عام 1940 باللوحة الأولى، وظلَّ على مدى عقدٍ كاملٍ يتردد على متحف اللوفر ليتأمّل لوحات دولاكروا وليستمدّ منها إلهامه.
لا بدّ من النظر إلى التوقيت الزمني لرسم اللوحة والمناخ الذي كانت تعيشه فرنسا بالضبط، وعلينا قراءة اللوحة في سياقاتها الفني والثقافي والتاريخي.
يعود زمن رسم لوحة أوجين دولاكروا إلى مرحلة الاحتلال والاستعمار الإحلالي، فقد صرّح أحد السياسيين سنة 1837 قائلاً: «من الصعوبة تصوّر مصير الحملة لولا لوحات دولاكروا، فقد لعبت دوراً حاسماً في إغراء الأوروبيين للقدوم إلى أفريقيا ومحاولة اكتشاف سحر الجزائر والفانتازيا والاستحواذ على الأرض والنساء». أما زمن لوحة بيكاسو فهو زمن الثورات والتحرر من الاستعمار والانتصار لقيم السلام.
كان للمقاومة وجيش التحرير الجزائري البطل، الدور الأساسي في تغيير الصورة النمطية للاستيطان الإحلالي الفرنسي في الجزائر، أمام بشاعة التعذيب والمطاردة لكل مناضلي الجزائر سواء في الجزائر أو في فرنسا. بدأ نوع من الرفض تبنته نخبة مثقفة في فترة الخمسينات على اختلاف مشاربها والتي آلمها ما وصلت إليه أوضاع الجزائريين، وأبانت صراحة أو ضمنياً عن رفضها الممارسات الاستعمارية ضدّ الشعب الجزائري الأعزل من همجية ووحشية، إذ تحوّل الجيش الفرنسي بوسائله القمعية إلى النازية الهتلرية. يقول صاحب «معذبو الأرض»، فرانز فانون: «في كل مرة تكون كرامة الإنسان وحريته قيد البحث، الجميع سيكون معنياً، الأبيض، الأسود، الأصفر».
تصوروا أن الشواطئ الجزائرية كان مكتوباً عليها بلافتات كبيرة: «ممنوعة على الكلاب والعرب»، وهذا ما دفع الفيلسوف الفرنسي سارتر إلى القول: «أعطي الأمر لإبعاد السكان من الأراضي الملحقة لتبرير معاملة الكولون مجملاً لهم كحيوانات. العنف الاستعماري لا يهدف فقط إلى إذلال هؤلاء الرجال المضطهدين، إنما يسعى إلى جعلهم يتجردون من كل خصوصيات البشر. لا شيء يمكن أن يحول دون تصفية تقاليدهم واستبدال لغاتنا بلغاتهم، وتدمير ثقافتهم، من دون أن نعطيهم ثقافتنا. إننا نعمل على جعلهم حيوانات ونرهقهم بالإجهاد». وكان الموقف الإنساني للفيلسوف الفرنسي سارتر على رأس هذه الحملة عن طريق كتابه «عارنا في الجزائر».
لوحة «نساء الجزائر» رُسمت مع بداية الثورة الجزائرية من( كانون الثاني) يناير 1954 إلى شباط ( فبراير ) 1955. وكأن بيكاسو أراد أن يفكّ شيفرة هذه اللوحة ويعطيها نفساً تاريخياً جديداً يواكب التحوّلات التي تعرفها أوروبا من التخلص من ماضيها الاستعماري، وهي التي رزحت تحت حربين عالمتين. نساء يحملن بذرة ثورة قادمة ستجعل الجزائر مركزاً لثوار المستقبل. لوحة تشعّ منها ثقافة الاعتراف بالشعوب الأصلية. وقد كتبت رفيقة الفنان الإسباني تقول إنه «كان ينجز سلسلة نسائه الجزائريات وهو يسمع الأخبار عبر مذياع صغير، ويقول إنّ هؤلاء النسوة سيتحرّرن من الصورة التي وضعهن فيها دولاكروا».
وكان الإيمان بالمرأة الجزائرية كحاملة لنور جديد وعصر جديد. حتى أن المرأة «السوداء الخادمة» حُذِفت من اللوحة وتشظّت إلى حلم داخل فضائها وأصبحت اللوحة نافذة على عالم جديد يؤمن بالمساواة والعدل والديمقراطية.
نساء يحملن بذرة ثورة قادمة ستجعل من الجزائر مركزاً لثوار المستقبل. سيُخلق حوار فني يتجاوز النظرة الاستعمارية للشرق باعتباره غرائبياً وشهوانياً ويعيش خارج العصر، ويجعل المرأة الجزائرية محور الكون في المرحلة القادمة كمحررة ومناضلة وكاتبة تسجّل لسنوات الجمر والرصاص التي عاشتها بلادها. نساء يغمرهن ضياء المغامرة والنضال وإثبات الذات أمام مستعمر لا يرحم ولا يعترف بكينونتهن الإنسانية.
فعشقه للحرية قاده إلى خوض التجربة مع الشكل، ليرى المدى الذي يستطيع أن يبلغه من دون أن ينزلق في هوة الإسراف غير المبرر. إذ قال بتعبير ماكر أحياناً: «هل يتعين علينا أن نرسم ما على الوجه؟ أم ما في داخل هذا الوجه؟ أم ما يختبئ وراء هذا الوجه؟».
أولاً، العنوان أصبح «نساء الجزائر» بدلاً من «3 نساء جزائريات في مخدعهن»، ثم استخدم منظوراً فنياً جديداً وهو التكعيب، الذي أبدعه بيكاسو على خلاف الكلاسيكي الرومانسي دولاكروا.
لقد كان نور بيكاسو في لوحة «نساء جزائريات» ثورياً يضيء بنبوءة المستقبل ويجعل الجسم العاري الراقص حاملاً رسالة إنسانية، وتفريغ الجسم من شهوانية الشرق وغرائبيته.
حضور قوي بأجساد منضبطة تتكتل من خلال تقنيات اللون الأزرق والأصفر والأحمر كتحية للشرق. جعلت من رقصها قوة قادمة، وتحويل، المشهد الداخلي إلى مشهد ديناميكي من الإثارة بأجساد منفتحة تخلق صلات جديدة لماهيتها التي يغمرها نور الثورة وتجعلنا نرى من خلال رقصها الإمكانيات التي تستمد منها قوتها في اتجاه المستقبل الآتي، وبصمتها الخالدة في تحقيق هذا الحلم.
وهذا ما ذهبت إليه الكاتبة الجزائرية آسيا جبار في كتابها عن اللوحة وعن بيكاسو، فتقول: «لقد كان بيكاسو راغباً على الدوام في تحرير حسناوات الحرم». تحرير يقول بيير ديكس عنه: «تحرير مجيد للفضاء وإيقاظ للجسد من خلال الرقص والتفريغ والحركة غير المحسوبة…». وبعد سنتين من هذا الحدس الاستباقي لبيكاسو ظهر إلى الوجود ما عرف في وقائع تاريخ الثورة الجزائرية بـ«صف حاملات القنابل» في معركة الجزائر، قبل أن تستقر التسمية في ما بعد على «حاملات النار Les porteuses de feu».
وأخيراً، عام 1961 بالتحديد، حدث الذي لم يكن في الحسبان حين قام بيكاسو برسم بورتريه أحد وجوه «حاملات النار» وإحدى «جميلات الجزائر»، وهي المجاهدة جميلة بوباشا التي ألقي القبض عليها في 1959 من قبل عناصر من فرقة المظليين الفرنسيين.
ولم ينحصر دعم بيكاسو للثورة الجزائرية في إسهامه بريشته في تسجيل بعض أحداثها، بل قام مع أسرته أيضاً، بإيواء المجاهدة لويزة إغيل أحريز وأخفاها في المنزل العائلي في الضاحية الباريسية بعد تحرّرها من سجن «بو Pau» في العشرين من كانون الأول عام1961. كما أهداها بيكاسو شالاً لا تزال المجاهدة الجزائرية «الملتهبة» كما سمّتها الصحافة الفرنسية إبان الثورة الجزائرية، تحتفظ به بعناية فائقة.
وفي خضمّ ذلك، تحوّلت قصة جميلة بوباشا إلى كتاب وضع تقديمه الفيلسوف الفرنسي المشاكس، وصاحب كتاب «عارنا في الجزائر»، جان بول سارتر. كتاب لم يكن في نهاية خمسينات القرن الماضي سوى إفشاء لملف قضية لم يكن قد أغلق بعد. كتاب تصدر صفحة غلافه الأولى بورتريه بريشة الفنان الإسباني الكبير بابلو بيكاسو.
لقد استعمل بيكاسو مع لوحة دولاكروا حواراً مستقبلياً، وعمل على تفكيك الموضوع وتحويله إلى مفردات تشكيلية جديدة تغوص فى جذور الآتي، وتمنح اللوحة أفقاً قال عنه الشاعر رينيه شار: «هؤلاء الذين جعلوا من المستحيل قنديلهم، وسلكوا طرقاً وعرة غير مطروقة قبلاً أو غير موجودة قبلهم، هم أنفسهم أضحوا قناديل تضيء المستحيل، وتفضح ماهيته الغائبة عن الوجود، والحاضرة فقط في عقولهم».
يبقى الزمن في وصفه الاختيار الأصعب الذي يمر به المنجز الإبداعي والأكثر إنصافاً وصدقية المعيار لتقييم أي عمل تشكيلي معاصر والتأمل فيه مجدّداً في ضوء معطيات جديدة، واستنطاقه بلغة نقدية حديثة لفكّ شيفرات وتأويلات مدفونة في اللوحة تحاكي الوجدان وتقدم قراءات في جذور الآتي.
كان الفنان بيكاسو ثمرة الرغبة في التعبير دائماً عن نفسه وعن فنه بحرّية قلّما تمتع بها فنان أخر بعصره. كان كيمياء من الغنى والعبقرية، وذخيرة ذاكرة أندلسية متجدّدة وقلقة مستمرة.
كان فناناً ملتزماً بمعاناة الشعوب مخلصاً لقيمه ومبادئه. لقد جعل من الحداثة مادة تعبيرية تخدم موضوع العمل الفني.
وفي عالم يتطوّر سريعاً نحو الانعتاق من الاستعمار والاستبداد، كان موقفه يبدو مروعاً واستفزازياً في لوحة «نساء جزائريات». الأمر الذي دفع السلطات الفرنسية إلى عدم منحه الجنسية الفرنسية لتعارضه مع خطّ فرنسا الاستعماري من وراء البحار.
تبقى هده اللوحة تعبيراً فريداً عن قوة الإرادة الداخلية لفنان آمن بالسلام وبالحرّية حتى النخاع، فهو حينما خلق حواراً تشكيلياً مع لوحة دولاكروا «3 نساء جزائريات في مخدعهن» إنما هدم مفاهيم ومحا ذاكرة استعلائية استعمارية وقدم مفاهيم مفردات تشكيلية جديدة منحت اللوحة خلوداً جديداً يتماشى مع العصر الذي يعيشه. سيظل بيكاسو أحد أكبر رسامي العصر الذي لامس قلق الإنسان الوجودي المعاصر في الحرب والسلام.