آراءالشرق الأوسطمجتمع

الإعلام بين زمنين مُختلفين

الإعلام وأدواته القديمة المُتجددة

مُنْذ نشأة المجتمعات البشرية وتطورها وهي في حالة ديمومة من البحث والتطوير في أدواتها من أجل إيصال أخبارها وتسجيل مواقفها اتجاه ما يُحيطها من أخطار وتحديات عصورها، ففي العصور البدائية كانت هناك طُرق مُختلفة منها دق الطبول من أجل إعلان حرب ولهذا نسمع كثيرًا عبر مُختلف وسائل الإعلام المًعاصرة عبارة ( طبول الحرب تُقرع ) وهي تُشير إلى أحد الأدوات القديمة من أجل الإخبار عن قرب وقوع الحرب، وأيضاً في عصور مُتقدمة كانت الخطابة والشعر لهما دور في إيصال الرسائل السياسية و الاجتماعية والفكرية كما في عند بدأ رسالة الإسلام وما تلاها من تشكيل الدول ، الدولة العباسية والأموية وغيرها من الدول.

الرقص بِوصفهِ لغة غير منطوقة للتعبير كان ولا يزال يلعب دور الإعلام في التعبير عن المواقف كما كانت تفعل الهنود الحُمر في العديد من المناسبات المُرتبطه بثقافتها، ودفاعها عن وجودها وارتباطها في الأرض، على سبيل الذكر نجد رقصة الفجر المستوحاة من طائر الديك الرومي كحالة إعلان عن بدأ يوم جديد.

و فيما تُعْتبر المُجتمعات الأفريقية مُتقدمة على غيرها في استخدام الرقص للتعبير عن مواقفها السياسية والاحتجاج مُنذ العصور القديمة وحتى عصرنا الحالي، ومن الرقصات التي أخذت بالانتشار في الوسط الافريقي أودى- كينيا ورسالتها تشجيع الشباب أن يكونوا أكثر فهم بالدين والابتعاد عن لغة التطرف، ورقصة الحروب عند قبائل الماسي في كينيا، في الواقع يوجد العديد من الرقصات بما فيها المستحدثة ولعلى قول الزعيم الأفريقي ليوبولد سيدار سنغور ( 9 أكتوبر 1906- 20 ديسمبر 2002) “الرقص في أفريقيا هو بداية كل شيء، وما على الكلام سوى اتباع الرقصات؛ ليتحول الحديث إلى أنغام وألحان ورقصات، فالرقص والغناء والأقنعة هي تراث القارة الأفريقية”.

ويعد سنغور أول رئيس للسنغال بعد استقلالها عن فرنسا عام 1960 ليؤكد على أن مفهوم الرقص في القارة الأفريقية أعمق مما يتداول في الأوساط الفنية العربية في العصور القديمة أو المعاصرة على أن ما يراد منه فقط الإثارة الجنسية.

وهنا في المجتمع الأمريكي المتعدد الثقافات والأعراق لم يخلوا هو الآخر من استخدام الرقص في توجيه رسائل سياسية، وما حفل السوبر بول لكرة القدم الأمريكية والذي أحيته المُغنيتين الشهيرتين شاكيرا و جينفر لوبيز في فبراير ٢٠٢٠، و حديثها في المؤتمر الصحفي قبل الحفل بأيام، إلا تأكيدًا على أن الرقص ليس كما هو شائع محصورًا فقط في الإيحاءات ذات الطابع الجنسي، بل من الممكن تصميم رقصات تحمل دلالات سياسية.

تقول شاكيرا: “لاتينيُّو أمريكا ليسوا أقل أمريكيةً من مواطنيها”، تأكيدًا على أصولها الكولومبية وزميلتها جينفر التي تعود في أصل تنشئتها إلى بورتوريكو، الرسائل السياسية كانت موجها إلى إدارة ترامب، بسبب سياساته التي تطالب ببناء جدار على الحدود مع المكسيك لمنع اللاتينيين من الدخول وجنسيات أخرى.

الإعلام القوة الناعمة

في الدراسات السياسية الأكاديمية يُصنف الإعلام بالقوة الناعمة المؤثرة على الدول والمجتمعات على حدًا سواء، يقول مساعد وزير الدفاع الأمريكي جوزيف ناي صاحب كتاب القوة الناعمة “ليست العبرة في عدد الأعداء الذين تُخضعهم بل في عدد الأصدقاء الذين تكسبهم، إن القوة الناعمة ليست ضعفا بل هي شكل من أشكال القوة، وإن الفشل في دمجها في الاستراتيجية الوطنية يُعد خطأ بالغ الخطورة”، يُخطأ الكثيرون في فهم خطورة الإعلام وقدرته على صناعة التغيير أو أحيانا مقاومة التغيير بعيدا عن توصيف تلك المتغيرات مدى إيجابيتها وسلبيتها، ومن أوضح النماذج على قدرة التأثير في عصرنا الحالي هو تطبيع ثقافات لم تكن مقبولة في المجتمعات بل كانت مُحاربة ومرفوضة بشكل كلي أو حتى جزئي.

ثقافة ما أصفها شخصياً وكثيرون بالشذوذ الجنسي العابر للحدود الجغرافية، والدينية والاجتماعية حيث أصبحت المجتمعات الغربية وبالخصوص أمريكا نظراً إلى الإقامة التي تمتد سنوات طويلة وأرى مستوى التحول الاجتماعي، كل ذلك دون مُمارسة أي قوة خشنة أو إكراه من خلال استضافات تدريجياً والترويج عبر الأفلام و المسلسلات الأمريكية عن هذه الثقافة الغير مقبولة إنسانياً مهما روجت لها الرأسمالية و إعلامها الذي يشبه الأخطبوط الضخم في قُدراته، ولم يقفوا عند هذا الحد بل يعملوا ليل نهار على قتل الطفولة عبر اقحامها هذه الثقافة من خلال ما تنتجه شركة دزني وغيرها، الأسرة هي الحصن الوحيد الذي به تتشكل المجتمعات هي الأخرى تواجه في أمريكا بما تبقى من ملامح بواسطة بث أفكار في غاية الخطورة عن امكانية اقامة علاقات جسدية بين أفراد الأسرة الواحدة، وللجميع التخيل ماذا لو صمت العالم عن هذه التطبيع الإعلامي المُتجدد والمستمر؟!

ويجب أن لا ينسى القارئ العربي ماذا فعل الإعلام الأمريكي بعد أحداث برجي التجارة العالمي وكيف رسخ فكرة أن ما حدث كله بسبب تنظيم القاعدة، بينما هيلاري كلنتون قالت في تصريح مبثُوث ومسجل، “دعونا نتذكر أن الذين نقاتلهم اليوم، نحن أوجدناهم منذ عشرين عاماً وفعلنا ذلك لأننا كنا نقاتل الاتحاد السوفيتي، وكان ذلك في عهد ريغن وبمشاركة الكونغرس”، هذا الاعتراف الواضع يؤكد من جديد كيف تمكن الإعلام في ذلك الوقت من التأثير على الرأي العام الأمريكي دون أي فعل إجرائي يمس حياة المواطن أو إكراه على قبول فكرة ما.

الإعلام وصراع الاستقطابات

كلما تعمقت في دوافع صراع الإستقطاب، كل ما تأكد لي أن التأثير على الجمهور هو الهدف الأول وليس إظهار الحقائق، ومن هذه النتيجة أتفهم طبيعية الإختلاف بين قناة الجزيرة القطرية و قناة العربية السعودية على مستوى السياسة التحريرية و سقف الحرية في تناول القضايا السياسية والدينية العربية، ولعلى أبرز نموذجين في التغطية الإعلامية هما الحرب الروسية الأوكرانية، ووفاة الشيخ يوسف القرضاوي (9سبتمبر 1926 – 26 سبتمبر 2022).

راقبت بكثافة تغطية قناة الجزيرة عن الحرب الروسية الأوكرانية وكانت دائماً ما تمثل صوت الموقف الأمريكي ضد حكومة روسيا، وأعني هنا في تقارير مراسليها من مناطق الصراع وبرامجها الحوارية، أما قناة العربية في الجانب المُعاكس حيث لمست وجود تماهي مع الموقف الروسي من شن الحرب على أوكرانيا في بعض تغطياتها، على الرغم من تبرع الحكومة السعودية 400 مليون دولار وفق تصريح السفيرة السعودية في واشنطن عبر لقاء تلفزيوني بأنه لدعم الوضع الإنساني، وبالرغم من وجود مواقف سياسية مُنذ بدأ الحرب الروسية على أوكرانيا إلا أن حكومات عربية ومنها قطر والسعودية كانت كلاهما ملتزمتان الحياد والذي لم يكن يعجب إدارة الرئيس الأمريكي بايدن.

وعن الاختلاف العميق في تغطية رحيل الشيخ يوسف القرضاوي كان من أكثر التغطيات وضوحاً حتى أنك قد تُصاب بالصدمة من شدة الصراع وكأنها حرب بين قناتين لا يمتون إلى العالم العربي بصلة، نجد قناة العربية كان شغلها الشاغل تحطيم صورة القرضاوي الدينية، فيما قناة الجزيرة جعلت منه أسطورة تاريخية لا يمكن أن تتكرر، وبين هاتين الصورتين يضيع المشاهد العربي لا سيما الجيل الناشئ الذي لا يعرف الكثير عن تاريخ وأسباب نشأة القناتين ولا حتى عن حقيقة الاختلاف في الموقفين.

بكل تأكيد لست هنا في موضوع تقيم شخصية الشيخ يوسف القرضاوي ولا حتى تبني موقف من الحرب الروسية الأوكرانية، نعم أنا مع سبق الإصرار الدعوة إلى إيقاف كل الحروب التي لا يدفع ثمنها سوى الفقراء والضعفاء والذين لا يملكون حق المُشاركة في صناعة القرار السياسي، مما يدفع بالمزيد من الخسائر البشرية والاقتصادية، فيما ينعم فيها الأثرياء والذي لا ينقص من حساباتهم البنكية السويسرية دولار واحد.

في الحروب وحينما تُسفك دماء المدنيين تعمل المؤسسات الإعلامية والصحفية على نقل الأحداث وفق توافر المصادر والمراسلين وقد يحدث ألا تكون بعض المعلومات دقيقة كعدد الضحايا وهذا أمر معقول في ضوء تسارع تطورات الحدث، لكن ما لا يعد أمراً معقولًا هو التفاوت في حجم توصيف الحدث.

من المؤكد أن هناك فارقا بين أن تتحدث تلك الصحفية أو القناة الإخبارية عن عشرات الضحايا وأخرى عن مئات فلا يمكن اعتبار هذه المفارقة اختلافا في المصادر أو خطأ مراسل لم يتمكن من التقصي من المعلومات.

هنا يمكن الذهاب إلى مفهوم المشاركة الديمقراطية عبر مختلف وسائل الإعلام والتي تُشير إلى أن وجود وسائل الإعلام في أصلها يتمثل في خدمة جمهورها وليس من أجل خدمة الجهات أو المنظمات التي أنشأتها، ولهذا يمكن فهم التفاوت في حجم الاختلاف عند الجماهير حول بعض القضايا التي يتابعها غير مدركين حجم التأثير الإعلامي على رؤيتهم إلى الأحداث مما يُفاقم مستوى الصراعات ويزيد من الانقسامات الاجتماعية على المستوى السياسي والديني، مما يحتمل حدوث حروب مستقبلية أهلية ذات طابع طائفي أو حتى سياسي وليس ما عُرف بالربيع العربي بعيداً عنا ولا ما يحدث من مناكفات إعلامية ذات صبغة سياسية بين الإعلام الإيراني، والأمريكي والسعودي بسبب موت شابة إيرانية والهجوم الأخير من تنظيم قاعدة على مدنين أثناء تأدية طقوس دينية مع التأكيد على اعتراف تنظيم داعش في العملية الإرهابية الجبانة.

أيها السادة والسيدات الصحفيين والصحفيات و الإعلاميين والإعلاميات العرب إن الحذر مطلب عقلاني وذلك من العبث في الحقائق، لأن أول من سوف يطاله الاحتراق بالنار أنت، هنا النار ليست تلك التي تنتج عن تفاعلات، بل هنا نار تحرق تاريخك الصحفي والإعلامي فتصبح شخص منبوذ من قبل الشعوب العربية، فهل تُريد أن تحافظ على جهودك التي تجاوزت 20 عام أو تُريد أن تبقى صحفي حسب الطلب السياسي؟!

https://anbaaexpress.ma/akcjc

هاني العبندي

كاتب صحفي سعودي مقيم في أمريكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى