
شكل الإتحاد الأوروبي إحدى أكثر التجارب التكاملية أو الوحدوية نجاحا، خلال العقود الخمسة الماضية، لا سيما أنه إنتقل بالدول الأوروبية الأعضاء من حالة العداء الكامل، خلال الحرب العالمية الثانية، إلى حالة هي أقرب إلى الوحدة الكونفيدرالية على المستويين الإقتصادي والسياسي.
وقد تمكن الإتحاد، عبر هذه السنوات، من تأدية دور حيوي ويشكل رقما مهما في المعادلات الأمنية والسياسية والإقتصادية على السّاحة العالمية، غير أن هذا المشروع الوحدوي صار يعاني، في الوقت الراهن، من مشكلات عدة، تعوق تطوره، وربَّما تهدد استمراره ووجوده، لا سيما مع خروج بريطانيا من هذا التكتل الأوروبي وصعود اليمين المتطرف في عدة دول أوروبية وما يشكله ذلك من تهديد حقيقي على هذا المشروع الأوروبي، فبريطانيا كانت إحدى الأعمدة الرئيسة في الإتحاد الأوروبي وخامس إقتصاد على مستوي العالم وقلب أوروبا المالي وصاحبة أکبر نصيب من الإستثمارات الأوروبية المباشرة.
ومن المؤکد أن هذا الإنفصال له آثارا إقتصادية على الطرفين البريطاني والأوروبي، خاصة في ظل الظروف الإقتصادية الحالية التي يمر بها العالم، ففي الأشهر التي تلت توقيع بوريس جونسون على الإتفاق التجاري الخاص بخروج بريطانيا من الإتحاد الأوروبي أصبح البريطانيون غرباء في أوروبا والأوروبيون غرباء في بريطانيا.
والملاحظ أن بريطانيا هي الطرف الأكثر تضررا من هذا الإنفصال، عكس الإتحاد الأوروبي الذي أصبح أكثر طموحا للنهوض بمستوى العلاقات التي تجمع بين دول أعضاء، أما بريطانيا فمنذ توقيع اتفاقية “البريكسيت” بالنظر لآثاره السياسية والإقتصادية والإجتماعية، مر البريطانيون بأزمات كان سببها المباشر أو غير المباشر هو”البريكست”، لكن ليس في المملكة من هو مستعد لمواجهة الحقيقة التي اسمها خدعة ذلك الاستفتاء الذي استغله في حينه سياسيون شعبويون، أكثرهم من اليمين المتطرّف، لا يمتلكون أي رؤية إستراتيجية مرتبطة بالواقع البريطاني سوى رفع شعارات شعبوية من قبيل “استعادة السيادة” الشعار الذي اعتبر بمثابة المحرك الأساسي لأنصار “البريكست” للتحريض ضد الإتحاد الأوروبي، إلا أن هذه السيادة مازالت معلّقة، في ظل أزمات اقتصادية.
كما يكشف عمق الأزمة أنّه صار مطروحاً مستقبل المملكة المتحدة، وما إذا كانت ستبقى موحدة مع فكرة الإنفصال التي تراود النخبة السياسية في اسكتلندا، ودولة من الدول المتقدمة في العالم مع تراجع دورها في الساحة الدولية.
وهذا لا يعني أن المملكة المتحدة ليست حاضرة على المسرح العالمي.
في جانب أخر ضل الحديث عن “بريكسيت” يغيب عن الساحة السياسية تفادياً للاعتراف بأن ظاهرة الإزدهار البريطاني، عائدة في معظمها، إلى أن العلاقة بأوروبا حوّلت لندن إلى أكبر مركز مالي عالمي.
وللإشارة الحرب التي تشهدها أوكرانيا وجائحة “كوفيد 19” زادتا من الأزمة غير أن “بريكسيت” يبقى في أساس الأزمة البريطانيّة المركبة، فمنذ خروج المملكة المتحدة من الإتحاد الأوروبي، لم تجد بديلاً منه إذ بقيت العلاقات التجاريّة مع الولايات المتحدة ودول أخرى على حالها.
عدم الاستقرار الإقتصادي نتج عنه عدم إستقرار سياسي، بعد استقالة ليز تراس عن منصبها الذي تولته لمدة 44 يوماً فقط جاء ريشي سوناك، هو الآخر في مواجهة إرث بوريس جونسون، وهو إرث من نوع غير قابل للحمل في ضوء عمق الأزمة التي تعاني منها بريطانيا: فهل يستطيع ريشي سوناك من انتشال بريطانيا من أزمتها ؟.
ذهب البعض لوصف الاستقالة السريعة لتراس واللجوء إلى سوناك أنه ليس سوى تعبير عن كارثة خلفها “بريكسيت” ويعود التفسير للأحداث التي تعرفها بريطانيا الآن سوى على المستوى الإقتصادي والسياسي وانعكاسها على المواطن البريطاني لنتائج التي ترتبت على الاستفتاء في غياب كامل لرؤية إستراتيجية لما بعد “البريكسيت”.
ويُنظر إلى رئيس الوزراء ريشي سوناك على أنه الشخص المناسب، بعد أن نال ثناء واسعا على تعامله مع الإقتصاد خلال جائحة كوفيد19، حيث ساعد الشركات والمواطنين من خلال برامج الإنفاق الحكومي الكبيرة التي أنقذت العديد منهم، ووظيفته الآن واضحة أن يجلب الهدوء للمملكة المتحدة.
غير أن هذا لا يشفع للمحافظين فقد أظهرت نتائج استطلاع أجراه المركز البريطاني للاستطلاعات، أن غالبية من البريطانيين تعتقد أن بريكست كان خطأ، وتوقعت هزيمة شبه مؤكدة للمحافظين في الانتخابات القادمة.
تحليل دقيق لواقع مريض يعيشه قصر المرادية