آراءثقافة

حين تنطق الوثيقة (6).. أوحمو الزياني إنتصار”الهري” مقابل هزيمة “إيسلي” (2- 2)

شذرات من أقوى مواجهة مسلحة مع الاستعمار الفرنسي

بعد استراحة مقاتل، وبعد أن ساد الانطباع بأنّهم استطاعوا إبعاد جماعة الزياني من منطقة ملوية، كما جاء في كلام ليوطي باعتبار ذلك كان هو سياسة المقيم العام، إذا بهم يفاجؤون الفرنسيين بتغيير التكتيك الحربي، حيث دشن موحى أحمو الزياني عمليات حرب العصابات، كان الهدف منها استنزاف القوات الفرنسية.

حين باغت موحى أوحمو الزياني الجنود الفرنسيين، استطاع نشر الهلع في أوساطهم، حيث تمكنوا من وضع اليد على المدافع التي يتترس بها الجيش، وقتلوا رجالات المدفعية، وكانت معركة الهري معركة حاسمة، لأنّ الزيانيين انحدروا من الجبال بشكل مكثّف، ملحقين أضرارا جسيمة بالجيش الفرنسي. أما الخسائر التي أحصيت يومها في صفوف الجنود الفرنسيين فكانت كبيرة، نتحدّث عن مقتل ما يزيد عن 3000 من الجنود والضباط الفرنسيين، هذا بينما قدرت الأضرار في صفوف رجال الزياني بـ 300 قتيل في المقابل وألف من الجرحى.

ولم تكن معركة الهري هي المعركة الأخيرة، بل لقد تابع الزياني المعركة بتاجوكالت. قاتل موحى أوحمو الزياني هو وأبناؤه في هذه المعركة عام 1921، ضد القوات الفرنسية بقيادة الجنرال بوميرو، وهناك حيث سيلقى حتفه على إثر إصابة، ليس من قبل الجنود الفرنسيين بل رصاصة طائشة من أحد أبنائه أردته قتيلا، ليدفن بتاملاكت المحادية تاجوكالت.

لفظ البطل أنفاسه الأخيرة، نعاه أتباعه، وصدح النواح في أعالي جبال الأطلس، يصف فرنسوا بيرجي المشهد كالتالي: “هرعوا من حوله من كل حدب وصوب، القائد مات، فحمل إلى المعسكر لتأبينه، في المداشر النساء يندبن ويخدشن وجوههن، وينحن نواحا جنائزيا، على قمم الجبال أشعلت النيران التي حملت إلى واحات الصحراء نعي موحى واحمو، دخانها القليل اختفى في السماء الشاحبة فوق الأطلس العجيب ومعه الحلم الكبير للبربر وحرية زيان”.

المقيم العام الفرنسي بالمغرب: الجنرال لوي هوبير ليوطي

كان المغرب قد مني بهزيمة عسكرية أمام الجيش الفرنسي بمعركة إيسلي 1844، وهي المعركة التي خاضها المغرب مساندة للمقاومة الجزائرية بقيادة الأمير عبد القادر الجزائري، والتي كانت تنطلق من التراب المغربي وتحظى برعاية خاصة وتنسيق كامل من الدولة المغربية والأهالي أنذاك. ثم خاض معارك أخرى مع الإسبان، لكن انهزامه نتيجة التفوق التقني للجيش الفرنسي لم تنته بمحق الكيان المغربي، بل لقد كانت المعارك الكبرى التي قامت بها المقاومة ومنها معارك موحى أوحمو الزياني، هي التعويض النفسي الجماعي على تلك الهزيمة، وهي كبدت الجيش الفرنسي ما لا يحدث إلا في معارك نظامية. ولقد كانت حركة موحى أحمو شبه نظامية، وكان يتصرف على هذا الأساس. كان المغرب يمر من أوضاع صعبة، فالتنازع والاقتتال كان يجري بالتوازي مع مناهضة الاستعمار، وثمة دروس في تاريخ المغرب قلّما فطن إليها الأعداء، وهو أنّ التنازع بين مكونات المغرب غير قابل للاستغلال لتنفيذ أجندات تخريب الكيان المغربي، فحركة موحى أوحمو نموذجا آخر إلى جانب نماذج أخرى، تؤكد أنّ المغاربة حين يتعرض كيانهم للغزو أو مخططات التقسيم، يلتئمون، وهذا ما يلهمهم إياه تاريخ مقاومتهم التي لا يعرفها إلاّ هم والاستعمار ومن ترقى في المعرفة التاريخية من دون نطّ أو استعجال، لأنّهم لم يضعوا تاريخهم المقاوم في المزاد العلني لتبرير سياسات نقيضة لروح الوطنية والتحرر والوحدة العربية والقيم الإسلامية والإنسانية.

أتبع موحى أوحمو تكتيكا حربيا مكّنه من إحباط كلّ محاولات جيش الاحتلال الفرنسي، وقد نجح في تحويل هزائمه إلى انتصارات، فلمّا انسحب ليخوض معارك ضد الفرنسيين في مناطق أخرى، شتّت جهود القوات الفرنسية، واستنزفها وأيضا كان كلما تمدد التحقت به أفواج من المقاومين من قبائل ومداشر مختلفة.

حينما قلت أنّ حركة أوحمو الزياني كانت شبه نظامية، فليس فقط لأنّها حظيت في وقت مبكّر قبل اشتباكها مع الفرنسيين، مرتبطة بالمخزن في عهد المولى الحسن الذي مكن موحى أحمو من فريق كامل من الجنود النظاميين، بل لأنّ هذا القائد الذي بات العمل العسكري والقتالي جزء من سيرة أولاد موحى أوحمو الزياني، حيث كان أمّيا، وربما حسب بعض المصادر رفض لأبنائه أن يدرسوا – الدراسة يومها تعني أن تصبح طُلبة: بالمعنى المغربي حافظا للقرآن وممتهنا قراءته في الجنائز وعلى الموتى – لأنّه أرادهم مقاتلين: فالقتال في مرتفعات وأودية الأطلس، في طوبوغرافيا وبروفايل يظهره بالفعل كأسد الأطلس، وبهذا الحدس القتالي كان يحقق انتصارات مدوّية. وقد اعترف الجنرال ليوطي بهذه الحقيقة لما وصف جيش موحى أوحو قائلا: “لقد كونت القبائل جيشا يكاد يكون منظما، لها راية واحدة وروح موحدة، وعناصره المختلطة تطيع القيادة طاعة تلقائية، وله انتظام تلقائي أيضا، وكان هذا الجيش يواجه الموت بمثل أعلى موحد”.

وتكاد تكون هي الملاحظة ذاتها والوصف نفسه الذي ذكره الجنرال “غيوم” عن حركة موحى أوحمو والمقاتلين الزيانيين، حيث يقول: ” لا تكمن قوة الزيانيين في كثرة عددهم، بقدر ما تكمن في قدرتهم على مواصلة القتال بالاعتماد على ما كانوا يتحلون به من بسالة وتماسك وانتظام، وأيضا بفضل مهارة فرسانهم البالغ عددهم 2500 رجل، فكانوا بحق قوة ضاربة عركتها سنوات طويلة من الاقتتال، كما كانت أيضا سرعة الحركة والإقدام إلى جانب القدرة العفوية على المخاتلة في الحرب من الصفات المميزة لمقاتليهم”.

الجنرال هونريس

لقد أطاح موحى أوحمو والمقاتلين الزيانيين بقواة الكولونيل لوفيردير، بعد أن كان هذا الأخير يتوهّم بأنه سيطيح بقوات موحى أو حمو، وحينما أقول بأنّ معركة مثل معركة الهري ونظيراتها في المغرب شمالا ووسطا وجنوبا، لا يوجد لها مثيل في كل تجارب المقاومة في شمال أفريقيا، فذلك لما أكدته اعترافات جنرالات الاستعمار نفسه، حيث نجد الجنرال غيوم(Guillaume) الذي شارك في تلك الحملات، يصف فاجعة القوات الفرنسية في تلك المعارك قائلا :”لم تمن قواتنا قط في شمال إفريقيا بمثل هذه الهزيمة المفجعة”. إنّ حصيلة القتلى كانت كبيرة، قتلى من الجنود الفرنسيين، وأيضا قسم من المجندين في صفوف القوات الفرنسية من الشنغاليين والجزائريين ، وهذه حقائق كبيرة لا يُلتفت إليها، وهي أنّ المغاربة لم يشاركوا كمجندين في قتال الجزائريين أو التونسيين، فالتجنيد الذي تمّ فيما بعد كان في سياق الحرب العالمية الثانية، قتال النازية وأيضا تجنيدهم في حرب فيتنام. لقد قتل الحركيون الجزائريون المجندون في صفوف الجيش الفرنسي الكثير من المغاربة، بل قتلوا إخوانهم من الثوار الجزائريين؛ وفي هذه المعركة قتل منهم ما يقارب 218.

لقد رفع الجنرال هونريس تقريرا إلى الجنرال ليوطي، لكنه ونظرا لهول المأساة، أخفت السلطات الفرنسية الخبر لكي لا يصل إلى الرأي العام سواء في فرنسا أو المغرب، وتم منع وصول الخبر لوسائل الإعلام خوفا من انهيار معنويات الجيش الفرنسي الذي كان يخوض معارك أخرى في الحرب العالمية الأولى.

ومع ذلك شاع الخبر، وفي السياق نفسه للحرب العالمية الأولى، بلغ الألمان والعثمانيين خبر الهزيمة الكبرى التي حققها موحى أوحمو الزياني في معركة الهري، فقرروا الاتصال به عن طريق سفراء ينتحلون شخصية تجار، حيث بلغوه رسائل ومبالغ من المال، وكانت الرسائل تعد القائد الزياني بالدعم اللوجيستيكي والمساندة من قبل الألمان والأتراك.

أقول، إنّ الحرب امتداد للسياسة كما ذهب كلاوزفيتش، لكن موحى أوحمو كانوا مأخوذين بالحماسة والفطرة. وبعد أن قرأ موحى أحمو رسالة الألمان والأتراك، مخاطبا الوفد: “إننا لا نرضخ لعدو ديننا وعدو نبينا، ولا تتراءى معه أعيننا، فليطمئن خليفة الإسلام وقائد الألمان”.

إن الجنرال غيوم عبر بما فيه الكفاية عن صرامة الثّوار، واعترف كما فعل في كتابه” برابرة المغرب وعمليات استتباب الأمن في الأطلس المركزي”: ” كثيرا ما كنا نستحضر أمام فشل محاولتنا هذه الكلمة التي قاها الماريشال بيجو: حقيقة من المضحك والمؤلم معا أن نسمع ونقرأ ما يقوله كتابنا وخطباؤنا الذين ينصحوننا بأن نستعمل كوسيلة لجلب خصومنا أسلوبا عادلا، وأن نجعل العرب يحسون عذوبة تقاليدنا وفوائد مدنيتنا، إنّ هذا شيء جميل(…) ولكن كيف نفعل هذا مع شعب يفر من قربنا، ولا يترك أمامنا إلا مقاتلين أشداء يجيبون عن الجمل العاطفية بإطلاق الرصاص”.

لوحة للرسام الفرنسي دولاكروا حين تخيل الشرق من خلال المغارب

المهم بعد كل هذه التّفاصيل، وما تؤكده الوثيقة التي حصلت عليها قبل يومين من المندوبية السامية، والتي حصلت عليها بدورها من الأرشيف الفرنسي، هو التقرير الذي رفعه المقيم العام الجنرال ليوطي إلى وزارة الحرب الفرنسية، فرع أفريقيا، حول ما سماه بقضية خنيفرة، وفيها ينقل له التقرير الذي أعده قائد الحملة الجنرال هنري وأيضا شهادات من تبقّى من الضّباط، يقول الجنرال ليوطي في هذه الرسالة الخاصة:
“من المقيم العام الفرنسي في المغرب إلى وزير الحربية الفرنسية، لي الشرف لأتوجه إليكم بالتقرير الذي أعده الجنرال هونري بخصوص قضية خنيفرة 13نوفمبر1914، مرفقة بتقارير القادة الناجين لمختلف المفارز: تقرير العمليات للجنرال هنري من 13 إلى 30 نوفمبر، وتقرير الكولونيل دوبليسيز وأخير التعليمات الصادرة من الجنرال هنري في 27 نوفمبر قبل مغادرة خنيفرة”.

مباشرة بعد هذا التقديم يذكر الجنرال ليوطي رأيه الخاص في هذه القضية لخّصه في العبارة الآتية: ” لو أن الكولونيل لافيردور لم يلق حتفه في قضية “الهري”، فإنّه يستحق أن يقدّم أمام محكمة عسكرية، وأن يصدر في حقّه أقصى العقوبات”.

سعى الجنرال عبر عدد من الصفحات، يشرح فيها وجهة نظره في هذه القضية، والدروس التي يجب الاستفادة منها، وهو يعرض رأيه في قضية خنيفرة، وكأنّها وصمة عار في تجربته في المستعمرات، قبل أن ينتقل من مهمته بالجزائر إلى مقيم عام فرنسي بالمغرب.

في الختام:

لا أزعم أنني قدمت تفاصيل تجربة سبع سنوات من المعارك الكبرى بين الزيانيين والجنود الفرنسيين على امتداد جغرافيا واسعة، كان فيها موحى أوحمو الزياني قائدا أسطوريّا، غير أنّ ثمّة ما أحاط بتجارب المقاومة المسلحة في المغرب، هو آفة ما سمي بالمقاومة السياسية، أولئك الذين استغلوا ضعف التعليم بالنسبة لقادة في تلك المناطق البعيدة والتي عرفت بالمغرب غير النافع، لم يحصد أولئك مكتسبات الانتصار الذي تغنّى به السياسيون وحصلوا على كل الامتيازات، وركبوا على أمجاد الثوار. النخب السياسية المدينية التي جعلت من نشاطها محورا وتجاهلت دور المقاومين والفدائيين في أعالي الأطلس وبسائط المغرب العميق، حتى أنني أقرأ في عمل لأحد الزعماء الوطنيين يغيب فيه الحديث عن تفاصيل معركة الهري على قوتها وانتشار صيتها. التّأريخ لهذه المعارك بات واجبا عينيا لمن اقتدر، لأنّ هناك من يستغلّ إغفال المغاربة لأمجادهم التاريخية في الإمضاء على خرائف التّواريخ المتخيّلة والإمعان في الاستهتار. تضعنا هذه الملحمة الزّيانية أمام حقيقتين:

– المغرب المُقاوم ليس هبة لليوطي، فهذا الأخير الذي اعتبر المغرب جزء من خريطة أحلامه، سيواجه معارك ضارية، ليست مقاومة موحى أوحمو سوى واحدة منها. تكسرت أحلامه وتمزقت خرائطه واستعجل خروجه.

– أنّ المغاربة قاوموا بشكل أسطوري، ثم نسوا كلّ تضحياتهم وأمجادهم ليتفرّغوا لما بعد الاستقلال. وبأنّ بعضا من ملاحمهم لا تكاد تجد لها مثيلا في تاريخ المقاومة الحديثة؛ وليس هناك مثال أوضح من معركة الهري.

معركة الهري وحركة القائد موحى أوحمو الزياني، تجربة فريدة جهلها البعض وتجاهلها آخرون، ولكن في مجال الكتابة التاريخية، حينما تنطق الوثيقة يرتفع الالتباس.

https://anbaaexpress.ma/jhujk

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى