آراءسياسة

تجربتي مع الثورة الإيرانية؟

التجديد الديني ظاهرة في كلّ دين ومذهب، ولكنّ تفصيلاته تختلف بين دين وآخر. وحين يأتي حديثٌ يقول: إنّ المجدّد يظهر على رأس كلّ مئة سنة، فهو – إن صحّ – لا يعني، بالضبط، أنه يأتي كلّ قرن؛ بل هو قابل لأن يأتي أبكر، أو أكثر تأخراً، ولكن سُنّة الحياة أنّها تجدّد نفسها كلّ حين. ينطبق هذا على الخلية، والكائن، والدولة، والحضارة، فإمّا هرمت فماتت، وإما جدّدت نفسها فعاشت، وامتدت.

ومع هذا، نحن في مواجهة إشكالية متعدّدة الجوانب، وهي ما أسميه أنا (دورة التاريخ)، وخلاصتها أنّ فكرة جديدة تظهر، فيتحمس لها الناس، ويموتون من أجلها، ثم يتحوّل الأتباع، مع الزمن، إلى مناهضين لأيّ تغيير جديد، فيُسحقون أمام عجلة التقدّم في التاريخ، وينهض قوم آخرون من المجهول بالفكرة التجديدية، وهكذا دواليك 

ومازلت أذكر، منذ عام (1981م)، عندما دعاني صديقي الجزائري، رشيد بن عيسى، لزيارة طهران، بمناسبة الذكرى الثانية للثورة. كنت، يومها، أتخصص في ألمانيا في مركز لجراحة الأوعية الدموية، في مدينة جيلزن كيرشن بور، في منطقة الرور الصناعية. كان تحمّسنا للثورة الإيرانية في القمة، وظننّا أنّ دار الإسلام أُقِيمت؛ فوجب علينا جميعاً النزوح إلى هناك، لبناء دار الإسلام، ومغادرة دار الكفر؛ ألمانيا التي نتخصص فيها طبياً!!. ولكن الشيء المؤرّق، قليلاً، كان الأسئلة التي كنّا نواجَه بها في ألمانيا ممن حولنا من الأطباء الألمان؟ متى تنتهي حفلات الإعدام؟ وكان يومها القصير السمين ذو اللحية العباسية الخلخالي، يبعث إلى الموت، بالمشنقة والمخنقة، أعداداً أكثر بكثير من ابتساماته وضحكاته.كنا نجيب: انظروا إلى كلّ الثورات؛ البلشفية والمشانق، الفرنسية والمقصلة، الإسبانية وتدمير غورنيكا!! هكذا هي طبيعة الثورات؛ دموية قانية! ولكن هكذا هي طبيعة ولادة الحريات؛ ليس من أمٍّ تلد دون دمٍ كَثُرَ أم قلَّ، بقيصرية، أو (الفاكوم) بالسحب، أو بالولادة الطبيعية!

إنّ قدرنا – البشر – أن نلد بين فرث ودم .ومع هذا، كان هذا السؤال المؤرّق: (متى تنتهي الإعدامات؟) يحرّك، في ضميرنا، سؤالاً ليس عندنا جوابه، إلا دفاعاً عن الثورة الإسلامية الكبرى. كانت الثورة الخمينية الإيرانية إحدى معجزات القرن العشرين، وإحدى الفتن لمسلمي الشرق الأوسط. اندلعت الثورة سلمياً، وواجهت سلمياً، ونجحت سلمياً، بأداة اللاعنف، وبتضحيات مروّعة، فاقت مئة ألف من خيرة شباب وفتيات المدن الإيرانية، وسبقت، بذلك، إنجاز أوروبا الشرقية مع مسلسل الطغاة، وسيأتي الدور على بقية طواغيت الشرق في العقدين القادمين.

انتصرت الثورة، وانقلبت مثل مَن ركب ظهر شيطان، ولم يحلّق على أجنحة الملائكة. بدأت حفلات الدم، تماماً مثل عاشوراء، في ذكرى حسينية مختلفة؛ فأمسكوا عباسي، ودباسي، وجنرالاتٍ شتى، وأناساً خصوماً من شتى الاتجاهات، وبدأت آلة الموت في العمل. لم تكن ثورة حياة؛ بل (ماكينة) موت مخيفة، واستمرّت تصعد بالأرواح إلى عالم الأتراح!! ويومها قابلتُ يزدي، (من رجالات الثورة المهمين) فسألته: ما بال الإعدامات. أليس لرحلتها نهاية؟ أليس لك في رسول الرحمة أسوة حسنة، فتصدروا بلاغاً بالأمان، كما أمّن الرسول ألدّ الأعداء سفيان ومروان، وكسب القلوب بالحب والرحمة؟! نظر يزدي إليّ بارتياب، وحدق فيّ كمن يتأمل حيواناً منقرضاً بعجب، وقال: هي الثورة!! هم أعداء الثورة!! إنّها آلة الدعاية ضدّ الثورة.. نفضت يديّ للمرة الأولى منهم. وحين غادرتهم، كنت أبحث عن (شريعتي) المختفي، وكانت أحلامي قد تبخّرت تماماً من دولة العدل، لأكتشف دولة دينية بوليسية طائفية، لا تختلف عن البعث، إلا بفرق عمامة عن طاقية (قبعة) عسكري. وتابعنا الرحلة في بلد الإعدامات، والموت، والمقابر، والحسينيات، وجلد النفس بالسلاسل والسواطير وشرشرة الدم..

الإخوان المسلمون في سورية فاتهم هذا الفهم، لم ينتبهوا لمعجزة الثورة! قالوا: انظر كيف فعل مجاهدو (خلق) في سرقة السلاح من المخازن، وقتال الشوارع مع الحرس الشاهنشاهي.. ربّما يصعب أن تقنع إسلامياً بأنّ الثورة كانت في إيران صناعة ونجاحاً بطريقة اللاعنف! ولكن بين الشباب الإسلامي، وإدراك هذه الصناعة الإيرانية، مثل السجاد العجمي، ونقشاته، وحبكاته، مسافة ثلاث سنوات ضوئية من الفهم. وأمام الإيرانيين، وفهم العالم، والتاريخ، والتطور، مسافة سنة ضوئية. إنهم حتى لم يفهموا سرّ اللاعنف في ثورتهم، فساقهم صدّام إلى حتفهم بالعنف والحرب!! وكان يمكن التخلّص من صدّام، بأسهل من الشاه، وبالتكتيك نفسه، ولكنّه غرام القوة

وهكذا، وبعد نجاح الثورة، بدأت معالم كالحة لدولة أوتوقراطية ثيولوجية من رجال الدين بالظهور على مسرح الاستبداد، ليستبدل الشعب الإيراني السل بالإيدز، والصداع بالمغص؛ كما يقول الكواكبي في كتابه (طبائع الاستبداد فخرجت إيران من نفق لتدخل نفقاً أبشع، وأعمق، وألعن… ألا يا حسرة على أولئك الشباب والفتيات الذين ماتوا صبراً برصاص الجنود من فرعون، وهامان، وقارون. ثمّ بدأت حفلات جديدة من الإعدامات!! 

إننا – نحن والإيرانيين والأكراد والعجم – نعيش في مصحات عقلية كبرى، ومتوقفين في زمن خلافات، غير مسؤولين عنها، ولكن العقل البشري يمكن أن يتوه في متاهات فئران التجارب. واليوم تدور الدورة الخالدة، كما حدث مع طهران في حزيران/يونيو (2009م)؛ فلماذا ثار الشباب ضدّ نظام الملالي، وقتلت ندا سلطان؟ ليس من أجل انتخاب، بل تطلعاً لحياة جديدة، بعد أن دبّ الملل في المجتمع الإيراني من الدولة الدينية الخرافية؟

من يتأمل التاريخ يراه مطوقاً مغلفاً بقانون حديدي، من تناوب الأدوار، وهو ما حصل في طهران؛ فبقدر عذاب المسيحيين الأوائل حتى فازوا، كان تعذيب محاكم التفتيش خصوم المسيحيين لفترة خمسة قرون، حتى فجّرتها أنوار الحداثة في أوروبا، وعندنا في العالم العربي، لجيلنا الذي عاصر انقلابات الضباط الأشقياء، فقد بدؤوا بالمثاليات، ثمّ فتكوا ببعضهم، ليصفو الجوّ لرئيس القراصنة، ليحوّلوا الجمهوريات إلى مزارع طائفية عائلية مسلحة، كما في تعبير النيهوم. ومَن يمسك دول الطوائف العربية الجديدة مافيات بأسنان سمك القرش الأبيض، ولكنّها مرحلة تطول أو تقصر، ثمّ يتقدم التاريخ، فلا نبتئس بما كانوا يعملون، وما حدث في إيران هو خطوة في هذا الطريق.

https://anbaaexpress.ma/7sbxh

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى