آراءثقافة

معركة العُقاب والعقاب

بعد موت الفيلسوف العظيم بأربعة عشر عاماً نكبة (اليتيمة والأيتام) على حد تعبير الخليفة الموحدي (المنصور) الذي وصف الأندلس وأهلها بها، وأوصى بهم على فراش الموت، بنكبة عسكرية لم يقم لهم قائمة بعدها ! كان ذلك في معركة (العُقاب) في يوم الاثنين الخامس عشر من صفر سنة 609 هـ (ليلة 16يوليو سنة 1212م).

وكما كانت معركة (الزلاقة) هي (الفرملة التاريخية) للسقوط الأندلسي عندما جاء الخليفة المرابطي (يوسف بن تاشفين) في عام 1086م (479 هـ) لينقذ الأندلس المنهار بعد فترة حكم الطوائف التي دامت ثمانين عاماً ( من عام 399هـ حتى عام 479هـ) فإن معركة العقاب هذه كانت بداية النهاية للاندلس (قارن بين رقم 1086 معركة الزلاقة وعام 1099 بداية الحروب الصليبية السبعة التي دامت حتى عام 1270م).

وحتى يمكن أن نعي الوضع التاريخي المكرب للمسلمين في ذلك الوقت والآثار المأساوية لتلك المعركة، ولإلقاء الضوء على هذه الفترة من الظلام الفكري وضيق الأفق والتعصب الذي انتهى في صورة مأساة ابن رشد فإننا ننقل عن المؤرخ محمد عبد الله عنان مايلي: (وأما في التواريخ الإسلامية فإنها تعرف بموقعة العُقاب، من مفردها عَقبة، وذلك فيما يرجح لوقوعها بين الربى والتلال المانعة، وليس بمعنى المعاقبة على الذنب، وإن كان بعض الكتاب والشعراء قد نسبوا إليها مثل هذا المعنى، في معرض التلويح بغضب الله وعقابه للموحدين، لإنهم حادوا عن جادته، وبغوا وتجبروا، واعتمدوا على كثرتهم ولم يعتمدوا على عونه. ومن المسلم أن خسائر المسلمين في معركة العقاب كانت فادحة جداً. والروايات الإسلامية تجمع كلها على أن الجيش الموحدي قد هلك معظمه. ويصف صاحب الحلل الوشية المعركة بالهزيمة العظمى التي فني فيها أهل المغرب الأندلس).

وقد أسفرت هزيمة العقاب الساحقة عن أفدح وأروع الآثار التي يمكن تصورها، سواء بالنسبة للأندلس أو المغرب أو الدولة الموحدية، فأما بالنسبة للأندلس فقد قضت هذه الهزيمة نهائياً على سمعة الموحدين العسكرية في شبه الجزيرة، وتحطم ذلك الدرع الذي كانت تسبغه الجيوش الموحدية القادمة من وراء البحر على الأندلس وعلى دولة الإسلام بها. وتضعضع سلطان الحكم الموحدي بالأندلس، وأخذت الأندلس من ذلك الحين تنحدر إلى براثن الفوضى الطاحنة، وانتثرت غير بعيد إلى أحزاب وشيع جديدة، قامت لتضرب بعضها بعضاً، ولتبدأ عهداً جديداً من المعارك الانتحارية الصغيرة التي لانهاية لها، والتي تذكرنا بعهد الطوائف، وضمن ذلك النصر الباهر الذي أحرزته الجيوش النصرانية المتحالفة في هضاب تولوسا، لاسبانيا النصرانية تفوقها السياسي والعسكري في شبه الجزيرة، وفتح الباب واسعاً لغزو الاسترداد (LA RECONQUISTA) النصراني المنظم، الذي سوف يستمر من ذلك الحين في اجتناء ثماره بانتزاع القواعد الأندلسية واقتطاع أشلاء الأندلس الكبرى بصورة متتابعة وفي فترات قصيرة مذهلة.

وقد تردد هذا الفزع الذي سرى إلى الأندلس يومئذ، وماكان يفوح لها من شبح الفناء، من جراء كارثة العقاب، واضحاً في الأدب والشعر فمن ذلك ماقاله أبو إسحق إبراهيم بن الدباغ الاشبيلي:
وقائلة أراك تطل تفكــــــرا كأنك قد وقفت لدى الحســـــاب
فقلت لها أفكر في عقــــاب غدا سببا لمعركــــة العقــــــــاب
فما في أرض أندلــــس مقام وقد دخل البلا من كل بـــــــاب

ويلخص لنا صاحب الروض المعطار أثر الهزيمة في الدولة الموحدية بقوله: (وكانت هذه الوقيعة أول وهن دخل على الموحدين، فلم تقم بعد ذلك لأهل المغرب قائمة).

وإذا كانت هذه عقوبة من عاقب ابن رشد، أو كانت عقوبة ابن رشد لهذه الأوضاع التي تمشي في طريق الاحتضار فإن المحصلة النهائية واحدة، وهي نتيجة بائسة بكل مقياس لإمة تعامل الفكر المشرق هذه المعاملة، وهي مؤشر خطير لتوقف الحياة العقلية، أو انحدار مخطط الحضارة بصورة عامة لإن الحضارة هي حياة العقل قبل كل شيء.

وقد إنتبه المفكر الجزائري (ماك بن نبي) إلى هذه الوقفة التاريخية المفصلية فاعتبر أن الحضارة الإسلامية توقفت لتفرز بعد ذلك الإنسان المتخلف عن ركب الحضارة، العاجز عن حل مشاكله، الذي يتوقف عنده الزمن كما توقف عند أصحاب الكهف بدون رسالة أصحاب الكهف، فاعتبره إنسان (مابعد الموحدين) أي إنسان مابعد مصيبة معركة العقاب.

ولم يتوقف معاقبة أهل قرطبة الذين يصفهم ( الفيلسوف ابن رشد) بأن من أعظم المواقف الصعبة التي مرت عليه عندما أراد الصلاة في أحد المساجد هو وابنه فقام عليه الغوغاء وأخرجوه وابنه من المسجد ومنعوهما من الصلاة، قال عنها إنها كانت من أصعب اللحظات التي مرت عليه في حياته. ولاغرابة فإذا كان الخوارج قديماً قد أخرجوا الإمام علي من الإسلام وكفروه ثم سفكوا دمه من أجل الاختلاف معه في وجهة النظر، فإن هذا المشهد قد يتكرر تاريخياً في صور شتى في إطار التعصب وعدم التسامح.

https://anbaaexpress.ma/igilr

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى