ماكرون وتبون
زارت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن الجزائر دامت يومين (90 و10 أكتوبر 2022)، وكانت مرفوقة بـ 16 وزيرا أي ما يقارب نصف أعضاء حكومتها. وتهدف الزيارة إلى بعث “زخم جديد” لمصالحة بدأها رئيسا البلدين نهاية آب/أغسطس الماضي. هذا وكان مقررا إجراء زيارة إلى الجزائر مع وفد وزاري في نيسان/أبريل 2021، لكنها تأجلت في اللحظات الأخيرة على خلفية توتر العلاقات بين البلدين.
يأتي هذا في سياق توتر حَدَثَ بين البلدين اللذين يجدان نفسيهما مجبرين على البحث عن زمن الوئام الذي ظل عرضة للشبهة. البلدان تربطهما الذاكرة والجغرافيا وتشابك المصالح والقضايا المشتركة.
حدث التوتر بين الرجلين عام 2017، وكان واضحا أن تبون لم يكن على وفاق مع اللوبي الفرنكوجزائري الذي كان يسيطر على مفاصل العلاقة الفرنسية الجزائرية، ولم يكن يتمتع بالقوة والمنعة التي تؤهله لفرض سلطته وبرنامجه الحكومي، فغادر مجبرا وحل محله أحمد أويحيى.
منذ حراك 22 فبراير 2019، الذي تسبب في استقالة الرئيس الراحل عبد العزيز بوتفليقة وتأجيل الانتخابات الرئاسية ودخول عدد من الشخصيات السياسية والعسكرية والمالية إلى السجن، ثم وصول عبد المجيد تبون إلى سدة رئاسة الجمهورية نهاية 2019، انفجرت جملة من التناقضات التي ظلت كامنة في سياسة الجزائر الخارجية.
انقطعت شعرة معاوية بين الجزائر والمغرب وكادت أن تنقطع مع فرنسا لو لم يرخيها قليلا الرئيس الفرنسي ماكرون. وكان يكفي أن يجذب الطرف الفرنسي قليلا هذه الشعرة فتنفجر العلاقة ويدخل البلدان في صراع عدمي. لكن ماكرون فضل تدبير الأزمة بالطريقة التي تسمح لتبون باستعادة نفوذه والتحرر من جماعات المصالح الفرنكوجزائرية القديمة التي عملت على إعاقة برنامجه إلا في الاتجاه الذي يخدم أهدافها.
نظرة إلى الخلف
أثناء أول زيارة له للجزائر كرئيس عام 2017، قالت الرئاسة الفرنسية إن ماكرون “يتمتع بصورة جيدة جدا في الجزائر”، موضحة أنه زارها مرارا حين كان وزيرا للاقتصاد. وخلال زيارة للجزائر في شباط/فبراير عندما كان مرشحا للرئاسة، سبّب ماكرون صدمة للكثيرين في فرنسا عندما قال إن استعمار فرنسا للجزائر الذي استمر 132 عاما كان “جريمة ضد الإنسانية”. ولقي هذا التصريح ترحيبا في الجزائر مقابل انتقادات شديدة في فرنسا من اليمين واليمين المتطرف.
في ظرف بضعة أشهر فقط من عهدته الأولى (2017)، وجد ماكرون نفسه أمام ثلاثة رؤساء حكومات جزائرية(سلال، تبون وأويحيى). وبدأت علاقة ماكرون بالجزائر بشكل لافت، حالما أصبح مرشح الانتخابات الرئاسية الفرنسية عام 2017، حيث قام بزيارة إلى الجزائر في فبراير/ شباط. زيارته أثارت إهتماما كبيرا لدى الشباب ومناقشات في مواقع التواصل الإجتماعي بالجزائر، فقد بدت عليه ملامح الشباب التي تفتقدها الجزائر في قمة هرم الدولة ومؤسساتها وفي الأحزاب الرئيسية. وكان لافتا إطراء رئيس الحكومة الجزائرية عبد المالك سلال على المرشح ماكرون، خصوصا بعد أن صدرت عنه تصريحات وصف فيها الاستعمار الفرنسي للجزائر (1830-1962) بأنه “جريمة ضد الإنسانية”.
وشكلت زيارة ماكرون إلى الجزائر العاصمة كمرشح للرئاسيات الفرنسية، محطة غير عادية، ومنعرجا حاسما في تاريخ العلاقات الثنائية بين البلدين، والدليل طريقة الاستقبال التي حظي بها من قبل المسؤولين الجزائريين، وتعاطي وسائل الإعلام وقتها مع الحدث، وكأنها “زيارة رئيس لدولة”. ورصدت كاميرات المصورين الطريقة التي عانق بها وزير الشؤون الخارجية رمطان لعمامرة، ماكرون، مرفوقة بإبتسامة عريضة، وتعدت تلك اللحظة حماسة الصور. وأعلن لعمامرة في تصريح له: “ايمانويل صديقنا، صديق للجزائر وهذا واقع”. لم يكن وزير الشؤون الخارجية السابق الوحيد الذي كسر الطابع البروتوكولي للزيارة، وسار وزير الصناعة السابق، عبد السلام بوشوارب على نفس الخطى وتبادل مشاعر المحبة مع الرجل صاحب 39 سنة، وكذلك فعل الوزير الأول عبد المالك سلال، ونقل عنه في مجالس مغلقة، أنه تبادل عبارات الغزل مع ماكرون، وعبر عن مباركته للرجل بطريقته الخاصة. تلك المشاهد لم تكن عابرة، وطرحت تساؤلات عن أسباب وخلفيات هذا الاستقبال الرئاسي، ما جعل وسائل الإعلام الفرنسية تخصص حصص تلفزيونية لتحليل “ذلك الاستقبال”. غادر ماكرون الجزائر نحو بلاده، بعد أن حظي بدعم جزائري لدخول قصر رئاسة الإليزيه، وساهمت تلك الزيارة بشكل أو بأخر بتفوقه على منافسته مارين لوبان.
يوم 7 مايو 2017، أصبح إيمانويل ماكرون رئيس الجمهورية الفرنسية. وبعد حوالي ثلاثة أسابيع (يوم 25 ماي 2017)، أصبح عبد المجيد تبون على رأس الحكومة الجزائرية حيث أقيل بعد شهرين ونصف من منصبه.
لكن تلك الفترة الوجيزة، التي كان فيها تبون رئيس وزراء، تزامنت مع إحتفالات الجزائر بالذكرى 55 للإستقلال (5 يوليو 2017)، حاولت الجزائر في ظل حكومة عبد المجيد تبون إحراج إيمانويل ماكرون، وجس نبض مواقف الرئيس وليس المرشح، فذكرته بالتزاماته السابقة حيال ملف الذاكرة بين البلدين، مستغلة تلك الوعود التي أطلقها خلال زيارته إلى الجزائر في غمار حملته الانتخابية. تلك الدعوات لم تصل للضفة الأخرى على ما يبدو، وظلت ردة الفعل غائبة من الجانب الفرنسي.
تداعيات إستقبال الجزائر لإيمانويل ماكرون ظلت تخيم في الجزائر، وحدث تعديل حكومي جزائري حيث ربطت مصادر متطابقة هذا التعديل بفوز ماكرون بالرئاسة، وشكل رحيل الثلاثي، الوزير الأول عبد المالك سلال، وزير الصناعة، عبد السلام بوشوارب، ووزير الشؤون الخارجية رمطان لعمامرة، الحدث، وتساءل كثيرون عن دواعي هذه التغيرات خاصة في حقيبة الخارجية، التي أحسن لعمامرة حسب مراقبين تسيير ملفاتها الثقيلة، كالملف الليبي والمالي والصحراء الغربية. فهل كانت حفاوة هؤلاء بماكرون سببا في إبعادهم؟ وإذا ما كان ذلك فعلا، فلماذا يا ترى؟
اتضح أن ماكرون لم يكن راضيا عن رحيل حكومة سلال، وبدت علاقته بتبون في درجة الصفر، ولم تعد الحرارة إلى علاقة البلدين إلا بعد رحيل تبون ومجيء أويحيى. ولم يزر ماكرون الجزائر إلا بعد سبعة أشهر من ولايته الأولى (ديسمبر 2017).
ولعل أهم سبب كان وراء إقالة عبد المجيد تبون من رئاسة الوزراء عام 2017، طريقة تدبيره للعلاقة الجزائرية الفرنسية، حيث خاضت حكومته معركة جديدة مع مصانع تركيب السيارات حديثة النشأة في البلاد، من حيث عدم رضاها بما تحقق ورفضها “للاستيراد المقنع” للسيارات تحت غطاء مصانع التركيب.
كما أن حكومته واصلت سياسة إخضاع السلع المستوردة للترخيص من المنتجات الزراعية والمواد الغذائية أو الصناعية، كما منعت استيراد 24 منتجا جديدا: الصلصات الصناعية والصنابير والشوكولاتة والمعكرونة وعصائر الفاكهة والمياه المعدنية والطوب والبلاط او مواد منتجة للبلاستيك. وتحدثت بعض التقارير آنذاك أن “الحكومة تنوي تخفيض فاتورة الواردات في عام 2017 بمبلغ 10 مليارات دولار”.
وأقرت السلطات -عقب تولي عبد المجيد تبون رئاسة الوزراء في مايو/أيار 2017- عددا من الإجراءات، بهدف تأطير مصانع التركيب التي تم افتتاحها. غير أن مساعي الفريق الحكومي تعرضت إلى الإجهاض بإقالة رئيس الوزراء عبد المجيد تبون بعد حوالي ثلاثة أشهر من توليه هذا المنصب.
لم تنعم العلاقة الفرنسية الجزائرية بالوئام في عهد ماكرون سوى عام ونصف، حتى هبت رياح فبراير 2019، التي أزعجت ماكرون، الذي اختار الوقوف ضد الحراك، وضد مخرجاته. ومنذ أن اعتلى تبون رئاسة الجمهورية ازدادت علاقة البلدين تأزما. ومع فوز ماكرون بعهدة ثانية، سارع تبون بالتهنئة وبدعوته رسميا إلى زيارة الجزائر.