آراءثقافة

قرار لعن إبن رشد

حتى يمكن فهم أين يقف العلم اليوم، لابد من معرفة كيفية بدئه؟ فكل علم له بداءات أولية، وتشكلات جنينية. كل حدثٍ هو نتيجةٌ لما قبله وهو بنفس الوقت سببٌ لما سيأتي بعده، فهناك علاقة جدلية بين الأحداث، وهناك ترابط محكم بين الوقائع.

في هذه الحلقة سوف نستخدم المفهوم القرآني لاستجلاء التطور العلمي في ضوء وقائع التاريخ وأحداثه. (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق) …. فلنحاول تأمل خلق العلم .  

بينما كنت أتأمل جدران قصور غرناطة في رحلاتي المتكررة إلى اسبانيا، لفت نظري تكرر عبارة (لاغالب إلا الله) منقوشة في الجدران بشكل واضح مكرر لايضل في قراءتها أي قاريء للغة العربية، فسرح بي الخيال في محاولة (استنطاق) لهذا النص وخلفيته المعبِّرة.  

    إنهم يرون أنهم يُهزمون ولكن (وللتعويض) في وجه خصومهم الذين قهروهم وبقوا في أرضهم القرون الطوال، يجب أن يقولوا إن الذي يهزمهم ليس خصمهم بل هو (الله) الذي لاطاقة لإحد به ولاقدرة. إذن كان حلاً نفسياً مريحاً، ولكن هذا الترنح كان قبل الهزيمة النهائية، والطرد من شبه الجزيرة الإيبرية، وإبادة من بقي فيه رائحة من بقيتهم .  

   كل هذا بدأت قصته بشكل مبكر أبكر بكثير مما يرويه الحجر الميت الذي كنت أقرأ فيه بقايا هذه الكلمات (لاغالب إلا الله).  

    وبينما كنت مع صديقي المقيم في إسبانيا  نمر بالسيارة بجنب مدينة (رويال ثيوداد ROYAL CIUDAD  ) سألته عن المدينة متجاهلاً هل تعرف عن تاريخها، شيئاً فأجاب بالنفي قلت له لاتذكر  علاقتها بالتاريخ أبداً ؟؟ فكرر بالنفي، فكرت في نفسي: إننا أمة نُكبت مرة أخرى لإنها لاتعرف أفظع شيء مرَّ عليها!! .  

   قلت له إن المؤرخ محمد عبد الله عنان كتب موسوعة كاملة عن تاريخ المسلمين في الجزيرة، وجاء بنفسه إلى هذا المكان قريباً من هذه المدينة ونبش في أرضها، بل واكتشف في بعض الحفر بقايا  (رؤوس رماح وأنصال)  من آثار أخطر معركة تمت في هذا المكان في عام 1212 م الموافق 609 هـ.  ولكن مالنا وللقصة الآن. دعنا لانستبق الأحداث، ولنكشف اللثام عن صفحة سوداء من النكبة العلمية في تاريخنا،  بل وفي تاريخ الجنس البشري لنستعرض رحلات العلم والتفتح الذهني المترافقة بالمعاناة والعذاب.  

 في قرار لعن العالم المسلم والطبيب النطاسي أبي الوليد (ابن رشد) ملهم النهضة الإنسانية الحالية؛ ذكر صاحب كتاب (الذيل والتكملة) ابن عبد الملك نص الإدانة الكامل، سننقل منه بعض الفقرات لمقارنتها بنصوص إدانة أخرى، وأحكام مرعبة تاريخية رهيبة تالية في مسيرة نهضة العقل الإنساني، على مدار رحلة الجنس البشري، في بقاع منوعة، وثقافات متباينة، وأديان شتى، في محاولة لإمساك وفهم سنة الله التي تتكرر ولاتخيب في المستوى الإنساني، مستوى قانون الأحداث النفسية الاجتماعية في معركة الخرافة والعلم

جاء قرار اللعنة على الشكل التالي مقتطف منه فقرات: (وقد كان في سالف الدهر قوم. خاضوا في بحور الأوهام؛ فخلدوا في العالم صحفاً، مالها من خلاق، مسودة المعاني والأوراق.  يوهمون أن العقل ميزانها، والحق برهانها. ونشأ منهم شياطين يخادعون الله والذين آمنوا؛ فكانوا أضر عليها من أهل الكتاب، وهؤلاء قصارى همهم الغمومة والتخييل، وبث عقاربهم في الآفاق. فاحذروا – وفقكم الله – هذه الشرذمة حذركم من السموم السارية في الأبدان. ومن عُثر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النار التي بها يعذب أربابه، وإليها يكون مآل مؤلفه وقارئه. والله تعالى يطهر من دنس الملحدين أصقاعكم ويكتب في صحف الأبرار تضافركم على الحق واجتماعكم. إنه منعم كريم)؟!!.   

هذا كان مصير الفيلسوف المبدع، الذي استفادت منه أوروبا أكثر من العالم الإسلامي؛ ففي الوقت الذي أطلق فيها شرارة العقل المفكر، كان هذا الصك يحكي لنا حرق كتبه أينما وجدت!! . وبذا أعدمت مؤلفاته من أمثال (شروحات أرسطو) و(تهافت التهافت) و (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من الاتصال). وهي اليوم كتب نادرة لايستفيد منها أحد، كما لم يستفد منها أحد سابقاً (باستثناء الغرب!).

   كان مصير ابن رشد أفضل حظاً  من غيره لإنه لم يحرق حياً؛ بل اكتفي بنفيه إلى قرية (الليسانة) اليهودية ليقضي فيها ماتبقى من أيام شيخوخته، لأنه ألقي هناك معزولاً منبوذاً مدحوراً، وهو في السبعين من عمره، ولم يعش بعدها إلا سنوات قليلة.     

   كان ذلك التاريخ المشؤوم عام 591 هـ الموافق 1194 م حيث مات المفكر المبدع بعدها في عام 1198م أي مع خاتمة القرن الثاني عشر الميلادي ونهاية القرن السادس الهجري. وبالمناسبة فقد تناهى لعلمي اعتماد تدريس مادة الفلسفة في الاردن فخرج رجل يدعى القنيبي وله جمهور واسع يصغي لفيديوهاته أنها الاسلام مجسدا ! دعا هذا الرجل الى حرق كتب الفلسفة لأنها ليست من العلم النافع! وهذا يقول أن معركة ابن رشد العقلانية مازالت مستمرة! 

   ولكن الأمة التي تفعل بمفكريها هذه الفعلة، هل تبقى بدون عقاب؟ لنسمع إذن خبر التاريخ عن معركة (العِقاب)؟!.

https://anbaaexpress.ma/0ye55

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى