آراءثقافة

طقوس على ضوء شمعة (1- 2)

شهادات إبداعية

بقلم: عفاف خلف.. روائية فلسطينية

يأتي كتاب طقوس على ضوء شمعة ضمن المبادرة التي أطلقها الأستاذ المحامي حسن عبادي من مدينة حيفا ” لكل أسير كتاب”، وهذا الكتاب يُعني بطقوس الكتابة لدى الكتاب الأسرى، فقد جاء الكتاب بشهاداتٍ عدة لأسرى ما زالوا في باستيلات العدو الصهيوني وإن كنت انزاح إلى خلق “سجننا” الفلسطيني ليصير عنواناً على ذل الاحتلال وقهره، وإن كان كل سجن عنوان للذل والقهر.

إن فهم النظم الاستعمارية يتيح لنا فهم أسلوبها القمعي القائم على الاضطهاد والتعذيب والمحاولات الدائبة لكي وعي المستعمَر لخلق “الخوف” في نفسه بدايةً من أجل قهره وإخضاعه، وفي السجن أنت لست على ترفٍ لتكتب فكل شيء متواطىء هناك من الزمن إلى السجان إلى رفاق وإخوة الغرفة والقسم إلى الإضاءة والأفكار التي هي قبض الريح والمرتهنة بالوقت المتطاير ما بين عدٍ وعدد أو انتهاكات للخصوصية أو مصادرة متعمدةٍ للأوراق إلى ضياع الفكرة التي هي بذرة نص، كل شيء متواطئ يُذكرك أنك سجين ومنتهك دون حريةٍ أو خصوصية، وأن الكتابة هي سير “بهلوانٍ” على حبلٍ مشدود، كل الأنظار عليه وأي غلطةٍ قد تودي بما ينتجه إلى الهلاك، ذلك أن الكتابة هي نحن في أصفى حالاتنا وأكثرها إرهاصاً وازدحاماً ونقاء.

يقول العارضة في شهادته “الأسير أحمد العارضة” أحمد تيسر العارضة مواليد نابلس وتعود جذوره إلى اليازور، اعتقل في العام 2004 وحكم عليه بالسجن المؤبد ثلاث مرات “يقول أحمد” لا طقوس يمكنك تهيئتها لتكتب، إذ أن فعل الكتابة طقسٌ بذاته لا لذاته ” وعليك أن تكون حاضراً أبداً لأداء طقسك المقدس، وشعيرتك التي اعتنقت، والأهم القبض على أعنة الفكرة الهاربة لتصير مولوداً شرعياً رغم القهر وذعر المآلات التي تنتظرها فالكاتب الأسير لا يمكن له التكهن مَن مِن بناته ستصير ربة الميلاد وتحظى بالولادة. والكتابة عند أسامة فعل حياة وإحياء “أسامة الأشقر من بلدة صيدا قضاء طولكرم، اعتقل في العام 2002 وحكم عليه بالسجن المؤبد ثماني مرات وخمسون عاماً أخرى يقول أسامة عن الكتابة” هي القادرة على نقل الأسير من حالة الرماد إلى عنفوان الحياة، إلى ذاك التوهج الذي يأخذك إلى عوالمه الرحبة، وكأنك العنقاء تنهض من صرير الحبر وجفت الرصاص، وفي الرصاص حياة تستلهم منه الحياة، ويقول أيضاً بما معناه أن أهم شرطٍ لدى الأسير الذي يحترف الكتابة هو “قلعته الداخلية التي يركن إليها، حصن الذات” القادر على امتصاص كل الاهتزازات الخارجية دون أن تؤثر عليه بخدش، فظروف الكتابة أنت من تصنعها، واشتراطات الحياة لنصك تصير بالتحايل على السجان والمصادرة رغم كل الانتكاسات إلا أنك العنقاء تنهض.

يأخذنا أيمن إلى حفل الاحتفاء بالكتابة “الأسير أيمن الشرباتي/ المواطن، اعتقل في العام 1997 وحكم عليه بالسجن المؤبد سبع مرات”، يأخذنا إلى مواسم الغناء والرقص في أعياد “نزول المطر”، وأنت تقرأ أيمن ستسمع تلك الموسيقى التي تتفجر في النص فقد سالت من بين أصابعه القصائد “أنا أكتب، إذاً ، أنا موجود رغم القيود / أنا أكتب ، إذاً ، أنا جسرٌ معلقٌ بين وجود وخلود / أنا أكتب .. أنا نارٌ وشررٌ وبارود” ذاك أيمن التحدي، أيمن الذي اعتصر خمير الأفكار حتى سالت عناقيد النصوص بكؤوس الأنبياء وصار البيان سحراً، ربما عتبي على أيمن إكثاره من السجع، رغم الموسيقى التي تزخر بها الشهادة، ومن خبب الكلمات نأتي لفارسٍ آخر، فارس آثر أن يهبط بنا لطين الطقوس كي نعرف كيف تتم عملية “الخلق”، فحسام شاهين “أسير اعتقل مرات عدة في سنوات الدراسة، وحكم عليه بالسجن ثلاثين عاماً” تحدث لنا عن “الكتّابة” وهو المصطلح الذي أطلقه الأسرى على لوح الكتابة الذي اخترعوه من تجميع ولصق “علب” الخضار البلاستيكية بعضها فوق بعض وتغليفها بقطعة قماشٍ لتصير “مكتباً ” للأسير أو طاولةً للكتابة، وهو مهدد بالمصادرة أيضاً، ويخبرنا حسام أن عملية تصنيع ذاك المكتب/اللوح قد تستغرق شهراً أو يزيد عدا تفويت الأسير لوجبتين أو ثلاث من البيض لتصنيع الصمغ اللازم للصق علب الخضار، ويبوح لنا حسام بسره تقبيله الورقة والقلم عند كل لقاء كمن يلتقي حبيبته، فالكتابة فعل حب، و “الحب بالمعنى الواسع للكلمة أقدس وأجمل قيمة يتمتع بها الإنسان” حتى وأن الكتابة تصبح أدفأ وأكثر شفافية وجمالاً كلما كانت القبلة أعمق.

خليل أبو عرام “أسير من بلدة يطا – الخليل، اعتقل في العام 2002، وحكم عليه بالسجن المؤبد مدى الحياة” اختار خليل أن يحدثنا عن الكتابة كطقسٍ خاص يفترض الخصوصية والعزلة، رغم ضجيج الرفاق والأخوة في زنزانة أو غرفةٍ لا تستطيع فرض “مزاجك” فيها فعليك احترام خصوصية الاخرين وحتى ظروفهم البيولوجية.

إن الكتابة طقس، والنوم طقس، وتواطئ “الشمعة” مع الأسير طقس، وزيادة الاجراءات القمعية من قبل السجان طقس، وفي كل الطقوس أنت تمطر، لأن الكتابة هي الإلهام الذي لا ينقطع، راتب حريبات “أسير اعتقل في العام 2002 وحكم عليه بالسجن اثنان وعشرون عاماً” راتب الذي رأى في الكتابة طقساً تعبدياً يختلف ما بين أسيرٍ وآخر، وكاتبٍ وآخر فكل له درجة خشوعه وانجذابه، ولكل مناجاته ولغته، إن الكتابة في الأسر هي فعل حرية، فحين تفتح دفترك لتكتب كأنما تفتح باباً لعوالم أخرى تنحاز إليك بكل كينونتها فأنت صانعها وخالقها ولا سطورة للجدران ولا القضبان ولا حتى السجان عليها، وطقوس الكتابة لدى الأسير “هي عملية اقتناص فرصٍ كالصياد الذي يخرج لاصطياد فريسته” وفريسة الكاتب الأسير هي الوقت، إنها معركة إراداتٍ لا هوادة فيها، فالسجّان الذي مغزى وجوده، والسجن الذي فحواه مصادرة وقتك وحياتك، يصير من واجبك ككاتب استعادته من براثنهم على شكل كتابةٍ وإبداع، رائد، كاسمه رائد “رائد السعدي من سيلة الحارثية جنين معتقل منذ العام 1989 وحكم عليه بالسجن المؤبد مرتين” رائد كما النهر، طقوس الكتابة لديه تكتمل بالجري، حين يكون منطلقاً كسهم فيصطاد المفردة والحكاية، أو يمارس ألعابه الرياضية فيشحذ جسده ويقدح زناد فكره فتتوهج الكلمات، رائد المدرك أن عملية الإبداع عملية فردية خالصة يعتب على شعبه الذي قدم لأجله حياته كيف ينسونه ورفاقه وإخوانه “وحيداً ” دون ذكر!

“والليل عندي لسواد الكلمات والنهار لبياضها ” هكذا كتب يقول الأسير رائد أبو حمدية ” من مدينة القدس، أعتقل في العام 1997 وحكم عليه بالسجن المؤبد أربع مرات ” لا طقوس للكتابة في السجن، فالكتابة هي كل الطقوس اللازمة لشحنك وإعدادك، أنت تنسى انعدام الخصوصية، رفاهية العزلة، توفر أدوات الكتابة اللازمة، المصادرات، تنسى كل شيء وتلتفت إلى الكتابة ذاتها، فالأسير الذي اعتاد الاجتراح والتأقلم قادر على تهيئة كل ما يلزم ليكتب، حتى أنه استعان “ببرميل بلاستيكي” ليصنع منه طاولةً للكتابة، وجعل من “ساحة الفورة” معزلاً للكتابة رغم الأمواج البشرية المتلاطمة، فالفضاء الداخلي أرحب وأعمق، ومع ذلك يظل “الكل مستباح وموضع للشبهة في عين السجان الذي كلما رأي بذور الكلمات منثورة على الساحات البيضاء سعى إلى حرثها حتى لا تحملها طيور الحرية خارج الأسوار” وإن “حرث الكلمات وصادرها” يكتب رائد “إذا عاد الزجاج إلى أصله بعد تكسره عادت الكلمات”، ويضيف أحلم في هذا الواقع بغرفةٍ جدرانها ليست وهماً في عقلي، اختلي بها مع أفكاري، لا يتطفل عليها أحد قبل نضوجها، وقطف ثمارها، أحلم بطاولةٍ، مكتب، وإنارة وليل وقمر، حتى بقلم، وكل ذلك خلف القضبان ممنوع من الصرف.

” لم أكن لأحمل القلم أو أحاول الكتابة لو لم أكن أسير”، هكذا يفتتح شهادته الأسير سائد سلامة “من جبل االمكبر في القدس اعتقل في العام 2001، وصدر عليه حكم بالسجن اربعة وعشرون عاماً ” فنصوصه هي نتاج حالة علائقية مع المكان / السجن، والكتابة ليست ابنة الوقت أو الزمن بل هي ابنة المكان أيضاً وتنتمي إليه، والمكان يضفي عليها أو يسلب منها كأي قيمةٍ مضافة، إن هذا الوعي بخصوصية الكتابة في الأسر هو عامل مشترك لدى معظم الكتاب الذين يعانون الأسر، ورهان التحدي يكاد يكون صبغةً مشتركة لدى الجميع، فالكتابة ليست بقعة الضوء في ليل العتم الطويل وحسب، بل هي رهان الحياة في الزنازين والأقبية التي أرادوها قبراً للأحياء.

إن الكتابة أو العملية الإبداعية تحمل في رجمها بذور الجنون والثورة، فالأسير يظل على عنادٍ وفعلٍ ثوري دائم لانتزاع كينونته المصادرة بفعل الاحتلال مرة، وبفعل السجن المكرر في عشرات الانتهاكات لحريته وذاته مرات، إن الشهادة التي بدأها عمار الزبن “أسير من نابلس، محكوم بسبعة وعشرين مؤبداً بالإضافة إلى خمسة وعشرين عاماً أخرى” في سجن شطة في الشمال ستنتهي بعد أشهرٍ عديدة في سجن نفحة في الجنوب، فالأسير الذي هو عرضة للتنقلات ولسيارات البوسطة كطردٍ تتقاذفه السجون وسيارات البوسطة الباردة يعرف تماماً كيف يسلخون حريته عنه كما يسلخون أوراق الأفكار التي يحررها ويعيد كتابتها ويصادرونها المرة تلو الأخرى، ولكنه يعاند، فيكتب ويحرر ويعيد الكتابة والتحرير وبين هذه وتلك يخلق عوالمه، يرى الوردة تتفتح تحت الشمس، فيشّم عبيرها رغم أنف السجان، ويرى الأنثى عبر رائحةِ حبرٍ يسيل، وويرى البحر وحيفا وعشرات المشاهدات التي تزدحم في حواسه وتتكثف بحثاً عن انعتاق، فيصير الورق جسداً يطيّرة الأسير الكاتب ليحظى بحرية، ويصير الإبداع رهن عيني ناقد يأمل منه الأسير التفات، ونلمس هذا العتب الخفيف على النقاد الذين لا يتناولون إبداعات الأسرى كتابةً ونقداً. في السجن نحن نحمي أنفسنا من الموت بالقراءة، ونحمي عقولنا من الجنون بالكتابة، فهما معاً تعويذة النجاح، وطقوسنا هي الاستمرار والمواصلة، الوقوف بعد كل قمعة، الثبات بعد كل مداهمة، والبدء من جديد بعد كل مصادرة والأمل بعد كل يأس، هكذا يلخص الأسير عمار محمود عابد “أسير من دير البلح غزة، اعتقل في العام 2002 وحكم عليه بالسجن عشرون عاماً ونصف” طقوس الكتابة لديه، مع التوكيد على طقس مرافق للحالة الإبداعية ألا وهو القراءة، فالكاتب في أصله قارىء مجد، يسعى إلى القراءات الثلاث، قراءة النفس، وقراءة الكون، وقراءة ما يسطر بالقلم وبهذا يكون وفياً لشرط الإبداع الأول ألا وهو القراءة.

“الأسير لا يكتب ليكون أديباً أو روائياً أو شاعراً ولكن المعاناة التي يمر بها الأسير تكفي لصياغةٍ صادقة تخط عشقه لأرض يموت من أجلها ألف مرة” هذا ما كتبه قتيبة مسلم من قرية تلفيت نابلس وهو أسير منذ العام 2000 ومحكوم عليه بالسجن سبع وثلاثين عاماً، مستلهماً مانديلا وغاندي “فسلاسل العبد تتحطم لحظة يعتبر نفسه إنساناً حراً”، فصوتنا الذي يخترق جدران الحصار والعزل قادر أن يصل لأجيالٍ ستحمل في عهدتها راية التحرير، وقد ارتأى أن يكتب تجربته وأن يفضح من خان وباع، وأن يُبقى زهرة الثورة مشتعلة وحمراء كحبنا الوحشي للوطن.

الأسير كميل أبو حنيش “وهو من قرية بيت دجن نابلس اعتقل في العام 2003 ومحكوم عليه بالسجن المؤبد تسع مرات” يرى أن الكتابة هي فن مخاطبة الذات، وربما ككافكا هي حفر في هذا البحر المتجمد فينا، فقد كان يكتب لذاته بدايةً “كنت أكتب لذاتي، أخاطب ذاتي بغرض استكشافها، فأنا أجهل ذاتي وما يساورها من هواجس وآلام ورغبات وآمال وإحساس بالفقدان” عند كميل نجد الحل السحري لكل كاتب، فالكتابة مران وممارسة، وواجب مقدس وطقس له مواقيت ومواعيد مهما حدث عليك أن لا تخلفه، كي تكون على تماس متصلٍ وحميم مع فعل الكتابة لا يصدّنك عنها خبر ولا يصدعك عنها صديق، فهي جدارك الخامس أو كما احتفى بها في روايةٍ كاملة “جهته السابعة” جبهته الثالثة لا أستطيع أن أقول أنها الأولى أو الثانية فكما هو معلوم جبهته الأولى هي الوطن، والثانية انتماؤه السياسي للشعبية والثالثة هي جبهة الكتابة، وبذلك اكتملت الجبهات. كميل الذي هاجمته أوجاع ذراعه اليمين فانقطع عن الكتابة لمدةٍ لا بأس بها انتهك قدسية الموعد وخصوصية طقس الكتابة لكنه عائد لأن الكتابة هي قدر الكاتب ولا يستطيع الكاتب إلا أن يكون وفياً لما تزخر به التفاصيل، ووحدة من تفاصيل ومفصليات الكاتب الكتابة.

الأسير معتز اليهموني “من مدينة الخليل اعتقل في العام 2002 وحكم عليه بالسجن المؤبد ست مرات بالإضافة إلى عشرين عاماً أخرى” يُطلعنا معتز على طقوس الكتابة الخاصة به، إذ أن طقوس الكتابة لديه تخضع لطقوس ثلاث، أولاها يبدأ بالنزف أو النضح على الأوراق، يضع سماعات الأذن ويحلق مع الموسيقى وتطير أصابعه على الأوراق مخلفةً حرائق الحبر وبعدها يأتي دور النقاش، مستعيناً برفاق الأسر ونقاشات حامية الوطيس قد يؤججها مراراً ليصل إلى ما يريد، ينسحب بعدها إلى موسيقاه ليتم تحرير الكتابة على وقع الموسيقى الداخلية للنص أو الرواية بعد أن اكتملت في تصوره وخياله، تلك هندسة البناء لدى معتز و.. نسينا المصادرات يبيضها رابعة ً وخامسةً خوفاً من المصادرة بانتظار النور الذي يحررها ويتحرر حتى تغزوه فكرة أخرى.

وكأرنبةٍ برية تطل الفكرة، تطاردك كفتاة ترفض الترجل عن ظهر قلبك، لتأخذها إلى قلب الليل، وقلب الكتابة لتحكم وثاقها بجدائل الكلمات والحبر ولا تدري أوقعت فريستها أم هي من افترستك، هذا القدر الذي يواجهه الكاتب، الأزمة التي تُبقى الكاتب على فعل التواصل مع الكتابة يطرقه منذر مفلح وهو أسير من بيت دجن نابلس، معتقل منذ العام 2003 ومحكوم عليه بالسجن ثلاثة وثلاثين عاماً، ثمة في الكتابة طقس سحري سيطلق عليه منذر الليالي الملاح في سبعة من الأيام مستحضراً سحرية الرقم 7 واكتمال هرم الخلق، غير أن منذر يشقيه السؤال من وقع فريسة من، أنحن المنذرون للكتابة أم الكتابة التي تتواطؤ على افتراس أعصابنا في انتظر “تحررها “!
أما ناصر الشاويش فيرى أن طقوس الكتابة في الأسر يجب أن لا يطلق عليها طقوس بل هي معركة ممتدة ومستمرة ما بين ادارة السجون التي تعمل جاهدةً على تجهيل الأسير وافراغه من محتواه الانساني والنضالي والوطني، ومصادرة حقه في القراءة والكتابة وبين الأسير الكاتب الذي ينتزع إنسانيته بفعل الكتابة انتزاع ،وأكثر عندما تبصر كتابته النور وينشر، يحدثنا ناصر “أسير من طوباس جنين حكم عليه بالسجن المؤبد اربع مرات” يحدثنا عن الاجراءات التعسفية التي تقوم بها إدارة مصلحة السجون بحق الأسرى الكتاب تصل إلى العزل الإنفرادي والتغريم ومنع زيارات الأهل أو مراسلتهم، فالكتابة ليست نزهة أو تسلية بل هي حقٌ يدافع عنه الأسير بكله، فهي معركة لإثبات الحضور في الغياب، وهي معركة لأنسنة واقعٍ أرادوا منه تجريد الأسير من إنسانيته ووعيه. وبالنسبة للكاتب فأن الكتابة هي عملية ولادة قيصرية من بين أضلع قضبان السجن ومن رحم فولاذ السلاسل وهي انتصار للأسير عبر سلاح القلم، وكم يحتفي الأسير بمولده إذا ما رأى النور.

أحلم بالكتابة بقلم باركر هكذا عنون هيثم جابر شهادته “هيثم من قرية حارس قضاء سلفيت ومحكوم عليه بالسجن ثمانية وعشرون عاماً، في العام 2004، يقول هيثم” أثناء الإضراب عن الطعام كنت أخفي الجزء الداخلي من القلم “نصل القلم”، وانقع ورق علبة السجائر عن غلاف القصدير بالماء لأستطيع فصلها وانتظر حتى تجف ليتسنى لي الكتابة على ورقها، وبعد ذلك أقوم بإخفاء الورقة كما كنا نُخفي السلاح خوفاً من مصادرته، وعلى هذا قس كيف ستكون الكتابة في الأسر. ولك أن تتخيل إذا ما أُجهض مشروع الكتابة بفعل المصادرة والأنكى إذا ما ولد النص مشوهاً بعللٍ املائية وأخطاء نحوية فأي أسىً سيصيب الأسير، وأي خذلان سيشعر به!.

ويختلف الأمر لدى وليد دقة “أسير من باقة الغربية أسر منذ العام 1986” فالإبداع لدى وليد يحمل في رحمه شرطية “تحرير النص من عقلية الأسير الكاتب وجسده الذي هو موضوع السجان” وإلا فإن النص سيكون مثقلاً بالهم الذاتي للكاتب، مهدداً بالهشاشة التي يفرضها “قيد الزمان والمكان” على الكاتب الأسير، فالكاتب الأسير يواجه زمانين ومكانين في آن معاً، زمن السجن ومكانه، والزمن الآخر الذي يسير على مقربة ولا يطاله. فتات الزمن التي هي مادة الأسر، وسيولة الزمن الذي لا يعرف أين سيمضي دونه. و موضوع الكاتب الأسير هو السجن، فهو الشاهد والمُشاهد، هو المعَذّب والمبلغ، هو الرسالة ومتنها ونصها وهو في حالة كثافة عالية في توكيد السجن ونفيه في آنٍ معاً، فهو ينفيه ليبرزه، يؤكد على حريته من خلال نتاجه، ولكن نتاجه توكيد لأسره. فالكتابة في الأسر هي الرد الإنساني والثوري على وحشية المكان وعسف السجان كما يقول ياسر أبو بكر “قرية رمانة قضاء جنين أسير منذ العام 2002 ” فمن هندس السجون ومن وضع الروتين النمطي لحياة السجن هم خبراء في الأساليب المثلي لعملية كي الوعي وإعادة بلورته بما يتفق والغاية من هذه السجون، فالأسير الذي هو في متناول يد السجان وتحت عينه وبصره ويخضع لأبسط أوامره “كقضية العدد مثلاً” إذ يشترط العد أن يقف الأسير وفي حال مخالفته الأمر فإنه قد يتعرض للعزل أو حرمان زيارة الأهل أو غيرها من العقوبات التي يتفنن الاحتلال في اختراعها، فيصير “العدد” قضية إذلال وتفريغ لمفهوم التحدي وفاتحة للإذعان، ويصير “الوقوف” مهانةً وانتقاصاً من ذات الأسير.

والكتابة في هذه الحالة تضحي عملية ثورية توازي حمل السلاح، شكلاً من أشكال النضال التي يمارسها الأسير صوناً لذاته وكرامته، وصيانةً لعقله ومحاربة عملية تسطيح الوعي التي ينفذها الاحتلال، فالاحتلال يعمل جاهداً لتحويل الأسير إلى إنسان جاهل، يسهل السيطرة عليه وبالتالي تفريغه من محتواه الثوري والنضالي من أجل تحويلة إلى شخصٍ يتعايش مع محتله ويبحث معه عن جسور الهدنة ليحظى ببعض الامتيازات، لذلك فإن الكتابة تبقيك على نبضٍ حي بما كنته وما ناضلت من أجله، بالكتابة تُعمّر ذاتك إن لم تكن تبنيها، هذا ما أراد لنا ياسر فهمه في شهادته.

( يتبع )

https://anbaaexpress.ma/wc73d

تعليق واحد

  1. كنت شاهدة مرة اخر ى بنشرك معانات اسيرات مجد وطن، على الزمن الفلسطيني العابر فينا ، عبر جدارة الحباة لاسيرات وطن في جحر جرثومة اسرائيل، اضئت شمعة امل في عتمة استيطان احلالي يحاول كتم كل صوت حر بفلسطين الحرة. لك كل تقديري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى