سافر البورجوازي الفرنسي يوجين ديلاكروا (1798-1863) إلى إسبانيا وشمال أفريقيا في مهمّة دبلوماسية استخباراتية بالدرجة الأولى عام 1932، حيث حل في المغرب ثم الجزائر بعد سنتين من استعمار فرنسا لها. رحلته وإن كانت عسكرية فقد كان لها أثر كبير في مسيرة الفنان، ألهمته بيئتها بشخصياتها وعوالم الحياة الشرقية الكثير من المواضيع للوحاته.
كان الرسام ديلاكروا أوروبيا مفتونا بالشرق بوصفه امرأة ملونة قادرة على المنح والعطاء بل على الإغواء أيضا.. إنها، أي الشرق، امرأة حلم أكثر مما أنها امرأة مخيلة أو امرأة واقعية جعل منها الرسام الفرنسي (موديلا) لصنيعه الفني. مع الامتنان إلى تراثه الإغريقي الذي يعتبر شعوب حوض المتوسط وآسيا شعوبا بربرية لا علاقة لها بالثقافة والفنون.
تبقى لوحة «ثلاث جزائريات في مخدعهن» أجمل ما رسم ديلاكروا سنة 1832، تحفة فنية مزج فيها الألوان بدقة متناهية، وبحرص شديد خط التفاصيل الدقيقة لجلسة نساء في غرفة رفقة خادمتهن، بكل ما يحيط بهن من أثاث شرقي مخملي، وملامح الوجوه، كادت أن تكون صورة فوتوغرافية معاصرة. المرأتان الجالستان في يمين اللوحة جعلهما تبدوان غارقتين في حميمية الحكي، تمسك إحداهن بالشيشة، أما الخادمة السوداء فرسمها بحياء شرقي فيه من الاحترام والتقدير والحب لسيدتها مدارية ظهرها تخجل من النظر إلى سيّدتها متأهبة للخروج. لقد وثّق ديلاكروا بذلك تفاصيل الحياة لنساء في جلسة حميمية بعيدة عن عيون الرجال.
وربما ما يجذب الإعجاب المرأة الجالسة على يسار اللوحة، فقد برع في رسم نظراتها التي تدعو الزمن للتوقف عن جريانه، الممتلئة بمعاني الشوق والانعتاق والانتصار للحياة. وهو ما إن أطلّ على المشهد الداخلي بحسب ما روى لاحقاً رفيق له في الرحلة رافقه داخل الحريم أيضاً كما يبدو، حتى صرخ بإعجاب المندهش: «رباه كم أن هذا المشهد رائع… إنه يبدو كما لو كان منتمياً إلى زمن هوميروس». بهره الضوء الأبيض الملائكي الذي يمّيز البيوت، وكذلك الألوان المتألقة في كل مكان، «… إنني أعيش وكأنني في حلم وأنظر إلى الأشياء بفضول خشية أن تهرب مني»، وكذلك الألوان المتألقة في كل مكان.
كان ديلاكروا قد دعا زملاءه من الفنانين الأوروبيين إلى زيارة بلاد المغرب قائلاً «إن هذه الأماكن خُلقت للفن فقط، تعالوا إلى هذه المناطق البربرية نشعر بطبيعة الأشياء وأثر الشمس في الكائنات التي تخترقها وتشعل فيها الحياة بألق مذهل. فالكل هنا يسير في حلة بيضاء، كأعضاء مجلس الشيوخ الروماني ودعاة ألوهية الكون اليونانيين… وإنك لتجد نفسك في روما وأثينا… تخيل يا صديقي… الرومان واليونان أمام بابي».
ولم يكن نفسه بعيداً عن الصواب حينما تحدث يوماً عن لوحته هذه، موضحاً أن ما يحسّه هو فيها إنما هو «جمال وقوة الأشياء التي فيها، معطوفة على إحساس معمّق بالحياة وجمالها».
لقد وقع للفنان يوجين ديلاكروا ما وقع للإسكندر الأكبر حينما انتصر على الفرس ودخل إلى بابل. ودهشته حضارة بابل بأبوابها وحدائقها المعلقة وتصميمها الرائع، إذ قال لمرافقيه من المقدونيين «ليت أفلاطون يأتي إلى هنا ليرى بأم عينيه هذه الحضارة، علمنا أن الفرس بربر لا علاقة لهم بالفن والثقافة». بدا لعينيه ذلك المشهد «الذي يبدو غير ذي علاقة على الإطلاق بالعالم الذي يحيط به، هنا خيّل إلى ديلاكروا أنه عثر على جوهر كل حقيقة وكل جمال وأعاد اكتشاف العصور العتيقة من جديد».
وسيرى النقد الفرنسي دائماً أن ما يعبق من هؤلاء النساء الغارقات بين الحلم والواقع المعلقات خارج الزمن، إنما هو ذلك «الترف والهدوء والشهوانية» التي سيتحدث عنها بودلير لاحقاً.
إن سحر نساء هذه اللوحة ينبعث من جمال غامض تماماً ومجهول تماماً. ومن هنا لم يكن غريباً أن يقول الرسام سيزان، مثلاً، عن هذه اللوحة، لاحقاً، «إن للبابوجات ذات اللون الأحمر فيها، مذاق الخمر حينما يصل إلى أعلى الحلقوم». أما الرسام رينوار فكان يحلو له أن يقول» إنه حين يقترب من اللوحة يشعر برائحة البخور تملك عليه شغاف فؤاده». ولجهة تحليل اللون فقد كان ديلاكروا باحثا أصيلا عن ظلال أخرى للون.. ظلال أخرى تكسر تلك الدائرة المغلقة التي وصل إليها الرسم في أوروبا القرن التاسع عشر. وجد تلك الظلال في علاقة الضوء بالظل في المغرب العربي.. في سطوع الشمس وانكسار الظلال التي هي لون آخر.. لون آخر كان مفاجئا ومدهشا. من هنا كسر ديلاكروا تلك الدائرة العلمية الصارمة لنظرية اللون وقطاعها الذهبي فأصبح الأكثر إثارة للإدهاش فتحمس له ناقد فرنسي شاب هو الشاعر شارل بودلير، الذي ربما كتب أفضل ما كتب من نقد فني حول فن ديلاكروا.. بل أن الأخير تسربت ألوانه إلى قصائد بودلير فلم يبق اللون رهين اللوحة فحسب، بل القصيدة أيضا.. أليس هذا هو مجد اللون؟
ويبقى مصدر الضوء في اللوحة لغزا كبيرا للفنان الفرنسي، حيث لم يجد النقاد التشكيليون مصدره داخل التحفة الفنية، ولو أن أكبر ما شد الفنانين الغربيين في الجزائر هو الضوء الطبيعي، فالشمس لم تكن شبيهة بأي شمس في مكان آخر، لذا تبدو الألوان مضيئة في لوحاتهم، وكانت عاملا فنيا ساعد على جمالية اللوحة، ذلك الضوء المحير على وجوه نساء ديلاكروا، مشرقات رغم وجودهن داخل غرفة من غرف القصبة ذات النوافذ الصغيرة الجانبية المتماشية مع تقاليد مجتمع محافظ. فمنذ ما يقارب القرنين بقي السر غامضا مبهما، وهذا ما روج لتحفة الفنان الفرنسي الذي كانت نساء الجزائر بملامحهن العربية وأثوابهن وتفاصيل حياتهن السر الحقيقي في روعة ما رسمه، فقد اقترب لتصوير الحريم كحور العين. فقد قال عنه الشاعر الفرنسي الكبير بودلير بعد مشاهدتها في الصالون الدولي عام 1855: «هو فنان فريد لا أحد قبله ولا بعده». وتبقى لوحة «نساء جزائريات في مخدعهن» اللوحة الوحيدة التي رسم نسخة أخرى لها وعرضها في باريس عام 1849.
إن الشرق بالنسبة إلى الرسام هو بمثابة «أرض الأحلام» بعيداً عن نزاعات وهزات أوروبا في القرن التاسع عشر. ويسعى الفنان عن طريق «التجاوب في المشاعر» إلى التوغل في جوهر الحضارة الشرقية، وماضيها ومستقبلها، وأدى الطموح إلى تكريس الإيجابي والمثالي إلى دفع الرسام إلى البحث عن التناسق الروحي في الشرق، إن رحلة المغرب ساعدت ديلاكروا على تطويره لنظرية اللون، فقد هيأ له الشرق فرصة اكتشاف العلاقة بين الضوء واللون، مسجلاً في يومياته ولوحاته الفنية الخصائص المناخية للشرق الأوسط والمغرب العربي وبين ألوان الملابس والأبنية المعمارية والطبيعية وغيرها.
وتكشف لوحاته عن الحس الحقيقي للفنان الذي أخلص لما رآه.وهنا فإن الشرق لدى ديلاكروا لم يكن سوى ذلك المانح والملهم ليس فقط بشمسه وجباله، بل بطبيعته الاجتماعية التي كانت تتأرجح آنذاك بين الانغلاق والانفتاح إلى حد أن المرء يتساءل كيف تسنى له أن يحفظ تلك التفاصيل الدقيقة مثل لون البشرة أو طبيعة النظرة التي تنطلق من العينين سواء أكانتا رومانسيتين أم وحشيتين؟
وجد ديلاكروا تلك الظلال في علاقة الضوء بالظل في المغرب العربي.. في سطوع الشمس وانكسار الظلال التي هي لون آخر.. لون آخر كان مفاجئا ومدهشا. من هنا كسر ديلاكروا تلك الدائرة العلمية الصارمة لنظرية اللون وقطاعها الذهبي فأصبح الأكثر إثارة للإدهاش فتحمس له ناقد فرنسي شاب هو الشاعر شارل بودلير، الذي ربما كتب أفضل ما كتب من نقد فني حول فن ديلاكروا.. بل أن الأخير قد تسربت ألوانه إلى قصائد بودلير فلم يبق اللون رهين اللوحة فحسب بل القصيدة أيضا.. أليس هذا هو مجد اللون؟ مع ذلك يبقى ديلاكروا فنانا عظيما وملهما ومؤسسا لمدرسة كبرى في تاريخ الفن ليست رومانسية فحسب، بل أسست لانطلاقة راسخة في نظرية اللون.
واعتبره المثقفون شخصية محورية مهمة في الفن، كما أثنى عليه الشاعر الكاتب بودلير لأنه فتح لهم آفاق حلم جديد، وهو الشرق بكل ما يزخر به من فنون وأفكار وحضارات. وهذا ما دفع تيوفيل غوتييه أن يقول: «لقد أصبحت الجزائر بالنسبة للمصورين أكثر أهمية من الحج إلى روما». أهم ما ميز هذه اللوحة أنها كانت استباقية في كل شيء. على مستوى اللون والظل وكذلك في تغير العقلية الأوروبية المسحورة بالإغريق، وكأنهم الوحيدون الذين يملكون مفاتيح الجمال والفن والثقافة.
وتُعد رحلة ديلاكروا الشهيرة إلى المغرب في عام 1832 محطة فاصلة في التفاعل بين الشرق والغرب، حيث اعتبرها أندريه مالرو في ما بعد نقطة انعطاف في التصوير الفرنسي، وبداية التحول من الرومانسية الاستشراقية إلى بدايات الانطباعية. ومن المؤكد أن لوحة «نساء الجزائر» (1834) تبقى العمل – الذروة بين عشرات اللوحات والتخطيطات التي حققها ديلاكروا، خلال سفره أو بعد عودته. من هنا لم يكونوا مغالين أولئك الفنانين، من سيزان إلى رينوار ومن ماتيس إلى بيكاسو، الذين كان تأثير تلك اللوحة – بين أعمال أخرى لديلاكروا – كبيراً عليهم، تركيبة ولوناً واشتغالاً على التفاصيل وصولاً إلى لعبة الظل والضوء. ونعرف أن بيكاسو كان من الافتنان بهذه اللوحة إلى درجة أنه حاكاها أكثر من 15 مرة، قبل أن يصل إلى تحقيق لوحة له شهيرة هي الأخرى تحمل عنوان آخر.