
المغرب المنسي، هو ذلك المغرب الذي عملت الدّعاية المضادة، منذ عقود، لصرفه عن محيطه العربي، ولتشويه تاريخه استكمالا لتقويض وحدته الترابية. نجح المغفّلون في ذلك، لكن النتيجة كانت هي إقناع الضحية بعدم جدوى الرهان على ميثاق عربي مفروم من جهة الغرب.
يتساءل أحد الإعلاميين المتخصصين في الضوضاء:
– (طيب، ما الفائدة من كلّ هذا)؟ يعني الخيارات التي تشهدها المنطقة، وكان أحرى أن نسأل: وما العمل؟ لا أحد يفتح ملف المحاسبة: من المسؤول؟ والأغرب، أنّ هناك من يزيد في تعميق الفجوة وإحراج ما تبقى من أحاسيس، هناك إرادة حقيقية من خصوم المغرب التقليديين للاستخفاف حتى بتاريخه المقاوم، وكأنّه طرد المستعمر بالمعانقة لا بالمفارقة.
ولأنّه مغرب منسي، فكل شيء يحدث هنا، هو نابع من الاستهتار والتجاهل وسياسات التبشيع، التي طالما أغضبت المغاربة. هذا ما تفعله الشعارات الجوفاء الخرقاء، حينما تنتجها البروباغاندا ويتقبّلها الأغبياء، لقد ساهموا ونجحوا في جلب التصفيق لمزاعمهم البلهاء، وفي الوقت نفسه نجحوا في إقناع المغرب الذي انتظر الكثير منهم، أقنعوه بلا جدوى الرهان على من يعملون ليل نهار على تفتيته، وفي أحسن الأحوال و”أنفقها”، يتجاهلون قضيته، بل يعملون ضدّها.
المغرب المنسي، لأنّ سجل مقاومته يجهلها العرب، يجهلون بعضا منها ويتجاهلون الكثير، لأنّهم أشبعوا أوهاما وأساطير، وحفظوا الورد المصدّر إليهم كالتلاميذ من دون إنصات للرواية المغربية التي يحملها قادة النضال والتقدميون الأحرار، اتبعوا الوهم وتجاهلوا الحقيقة، ذلك لأنّ هناك من فعل المستحيل لإحداث القطيعة بين المشرق والمغرب (المُرّاكشي).
قال لي رفيقي ذات مرة: نحن نسمع بمقاومة هنا وهناك، ولكننا لا نسمع عن المغرب شيئا؟ بالفعل، هم يريدون السّماع وكأنهم لا يقرؤون، يطلبون الجاهز والبروباغاندا، وحين يتعلق الأمر بالمغرب يصبحون أمّيين وعوام، لماذا لم نعرف عن المغرب؟ طبعا لن تعرفوا لأن واضع النظام التربوي عندكم لم يزرع فيكم هذا الاهتمام، فبات المغرب ضحية ثقافتكم المدرسية الأولى. هناك كمية من الضوضاء والتشويش الممنهج، غير أنّى لرفيقي – أمثاله كثير- أن يسمعوا؟ هم تجاهلوا المغرب، والمغرب تجاهلهم، لقد اختاروا أن يسمعوا عن المغرب من خلال سردية خصومه، لم ولن يفهموا إذن، فالأفضل أن يُتْرَكوا لمن يتجاهلهم أيضا ويستمع لخصومهم كما استمعوا لخصومه، ولتستمر فصول الكوميديا الشيطانية!
معركة الهري
هنا، سأتناول قضية أخطر وأكبر مواجهة بين المقاومة المغربية والجيش الفرنسي، مقاومة من تنظيم وصنع وتدبير محلّي، شكلت ليس فقط انتصارا كاسحا على الاستعمار، بل خاضت معه أكثر من معركة كلها تكللت بالانتصار، لكنها تركت جرحا غائرا لدى الإقامة العامة ووزارة الدفاع الفرنسية، لقد كانت أهم معركة أسقطت هيبة الجيش الفرنسي، وبذلك يكون المغرب قد ثأر لهزيمة معركة إيسلي، شيء وجب تمثّله في الذّاكرة المقاومة المغربية.
نتحدث هنا عن نمط من المقاومة المنظمة، التي يحتك فيها جيش بجيش، معركة أشبه ما تكون بالتقليدية، أمّا عدد القتلى والمصابين فهو ما يحدد خطورة المعركة.
كنت أنوي منذ فترة أن أقدّم لمحات عن هذه التجربة، لكن كانت تنقصني وثيقة نفيسة حول الموضوع، أقول الوثيقة، لأنّ التاريخ ينطق من خلال الوثيقة لا من خلال خرائف البروباغاندا، فهو ليس شريطا سينمائيا خياليا، بل هو واقع عاشه المغرب في صمت.
أتحدّث عن تجربة موحى أوحمو الزياني، هل يا ترى سمع أحد من العرب بهذا البطل الذي قاد مواجهة مع آلاف من الجنود الفرنسيين، لا سيما في معركة “الهري”؟ طبعا لا أحد، علما أنّها معروفة في أرشيفنا كما هي معروفة في الأرشيف الحربي لفرنسا.
قبل أن أقوم بكتابة هذه السطور، ذهبت لأقتني هذه الوثيقة التي أمدّني بها المندوب السامي لقدماء المحاربيين وأعضاء جيش التحرير، السيد مصطفى الكثيري، وهي وثيقة استخرجتها المندوبية في وقت سابق من الأرشيف الفرنسي، وباتت مِلكا للمغاربة، وسوف أتحدث عنها لاحقا.
الكاتب رفقة السيد المندوب السامي لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير
كما أنّ المندوبية السامية ما فتئت تخلد ذكرى واحدة من أبرز المعارك التي خاضتها المقاومة المغربية بقيادة موحى أوحمو الزياني، وأقامت لقاءات كثيرة حول هذا الموضوع، حضرت بعضها. لا يوجد هنا الخيال، بل معظم تلك الأحداث تعززها الوثيقة وأغلبها مصدره المستعمر نفسه.
نتحدّث عن الشهيد، موحى أوحمو الزياني المعروف بأسد الأطلس، الذي قاتل الجيش الفرنسي، وكبده خسائر في المعدات والأرواح، حتى استشهد يوم 27 مارس 1921م في إحدى المعارك. لا نتحدّث هنا عن مواجهة عابرة، بل عن معركة فاصلة وانتصار مجيد.
ولد موحى أوحمو الزياني عام 1857، لعائلة تنتمي لقبيلة زيان، وهي قبيلة أمازيغية أطلسية. تولى بعد وفاة شقيقه قيادة قبيلة زيان عام 1887، بعد سنة من تعيينه من قبل السلطان مولاي الحسن قائدا على زيان، وأصبح بموجب ذلك يتوفر على فرقة من الجيش، لا سيما وقد قام بدور كبير في توحيد زيان وإرساء الأمن. وكانت بعض القبائل في زيان عارضت قيادته لزيان، لعل واحدة من الأسباب هي صغر سنه، حيث لم يكن يتجاوز سنّ العشرين حين تولّى قيادة القبيلة والمنطقة. استمر الصراع مع المناوئين له حتى بعد أن حارب أقوى جيش استعماري.
حين دخلت فرنسا إلى المغرب 1907م، تصدى لها المغاربة، وقادوا معارك شرسة. وكان موحى أحمو الزياني من قادة القبائل الذين اقتنعوا بضرورة المقاومة، فهاجم الفرنسيين عام 1908 في مناطق الشاوية ومديونة، وهي بداية المواجهة والاحتكاك بالجنود الفرنسيين، ثم خاض معركة القصيبة عام 1913، وهي المعركة الشرسة التي أقنعت المقيم العام الجنرال ليوطي للتفاوض معه وإعلام الصلح، بتوسط شخصيات من داخل المخزن من أمثال الوزير إدريس البوكيلي والحاد ادريس الشرقاوي باشا مدينة أبي الجعد، كما وفي مبادرة من رئيس المعسكر الفرنسي بمكناس وهو الجنرال هونريس، حيث بعث وفدا من الأهالي الأمازيغيين، وفد يقوده ادريس أورحو، قائد بني مطير، محملين بأنفس الهدايا وبرسائل الودّ، طالبين وقف المقاومة. غير أن موحى أوحمو الزياني رفض كل محاولات الاحتواء.
كان المقاومون المغاربة يسمون جنود الاحتلال بالنصارى، فهم يستعملون هذه العبارة التي كانت تعني المستعمر والعدوّ. واستمر ذلك، حيث في اللغة التقليدية للمغاربة يطلقون إسم نصراني على كلّ أوربي، كما يعتبرون كل عربي مسلما ولو كان مسيحيا. أجل، ومع كل محاولة لاحتواء موحى أوحمو في نظام الحماية الفرنسية، كان يجيب: “لن أرى نصرانيا إلاّ من خلال فوهة بندقيتي وأصبعي على الزناد”، أي لن أرى محتلا إلا من خلال فوهة البندقية.
أدرك الجنرال ليوطي كما عبر عن ذلك بوضوح، بأنّ منطقة زيان قد تصبح سندا للمتمردين بالمغرب الأوسط، وبأنّ ” إصرار هذه المجموعات في قلب منطقة احتلالنا وعلاقتها المستمرة مع القبائل الخاضعة خطر فعلي على وجودنا”.
وتؤكد عبارة الجنرال اليوطي، كما توحي عبارة “منطقة احتلالنا”، على أنّ فرنسا تنكّرت حتى لعقد الحماية، وباتت في نهاية المطاف تظهر ملامح المستعمر. وبالفعل، وفي عام 1914 قرر الجنرال ليوطي بدأ الحملة على قبيلة زيان المتمردة. استعمل اليوطي في الحرب على موحى أوحمو الزياني قبائل موالية أيضا، وقاد الجنرال هيملز الهجوم على منطقة الخنيفرة، حيث استطاع السيطرة عليها، وكذا إلحاق خسائر كثيرة في صفوف الزيانيين، مما اضطر موحى أوحمو الزياني للانسحاب بجيشه الجريح إلى أعالي الجبال الأطلسية.