آراء

اليوم العالمي للديمقراطيا (الجزء الرابع)

هشاشات الديمقراطيا

من بين الأعمال الأكثر شهرة التي قدمت نقدا للوضع السياسي المتردي، كتاب “الميديوقراطيا” (La médiocratie)  للفيلسوف الكندي ألان دنوا، هناك من ترجمه إلى “نظام التفاهة”، وهي ترجمة غير موفقة في نظري من حيث أن “نظام” مفهوم فضفاض بينما كلمة (Médiocre) لا تعني “التافه”، بل تدل على المستوى المحدود في الموهبة وفي الآداء، وتعني المتوسط والمتواضع وليس التافه.

هذا الكتاب يصف كيف تسلل محدودو الموهبة الى مراكز النفوذ والقرار في كل المجالات وأصبحت الأفكار المتواضعة من حيث الجودة موضوع استهلاك المجتمعات رغما عنها وهذا المستوى المتواضع له منتجون وأنصار ضعاف أو متوسطو الكفاءة يدافعون عنه، في حين غاب الفكر النقدي العميق والفكر المجدد الابداعي.

يتكون الكتاب، الذي ترجم الى العربية، من أربعة فصول رئيسة، ومقدمة تبدأ بعد تعليق طويل للمترجمة يصل إلى 65 صفحة، وينتهي بخاتمة بعنوان (سياسات الوسط المتطرف)، ويشمل أطروحات كبرى على غرار الحديث عن لغة خطاب الكفاءة المتوسطة أو المتدنية، والأكاديميا، والتجارة، والاقتصاد، والثقافة، والسياسة، وأخيرًا تحدثت عن الهدف النهائي من إسباغ الرداءة على كل شيء.

الفصل_الأول: المعرفة والخبرة

يسلط الفيلسوف الكندي الضوء على حقيقة صادمة مفادها أن الفضاءات التي من المفترض أن تصنف في خانة مضادات الرداءة، وفي مقدمتها الجامعة، أمست لبنة أساسية في نسق الرداءة الذي نعيش في ظله. فبدلاً من أن تضطلع الجامعات بأدوارها التنويرية وتفرز لنا مثقفين نقديين يشتبكون فكرياً مع القضايا والأسئلة المجتمعية الملحّة، أصبحت الجامعات مشتلاً لما يسمى بالخبراء أو “أشباه الخبراء” الذين يحاولون إضفاء الشرعية على الأوليغارشيا الاقتصادية المهيمنة والتعمية على تجاوزاتها.
إن الميديوقراطيا يعني انسحاب التفكير العميق والتأملي في النظر إلى الأشياء، وبالتالي إفساح المجال أمام تغول النزعة التقنية ذات الطابع التبسيطي والتنميطي الذي تكفله القواعد والأعراف الأكاديمية المرعية. فإلى جانب مثال الخبير، يتخرج في الجامعات سنوياً ما يمكن تسميته بـ”الأمي ثانويا”، وهو شخص متمكن من المعارف التقنية والعملية، لكنه فارغ فكرياً وأيديولوجياً، وعاجز عن التعاطي مع الإشكالات الفلسفية والنظرية المتصفة بالعمق وكثافة المعنى!

الفصل_الثاني: التجارة والتمويل

يتحدث الكاتب في هذا الفصل عن مرض المال الذي أصبح ساترًا يخفي كل عيب، وفرض نفسه على ثقافتنا الحديثة كطريقة لحساب متوسط القيمة التي تعتبر الناقل الحقيقي لضعف الكفاءة، فالمال هو الوسيلة والهدف الأعلى، فقبل كل شيء، نحن نبحث عن هذه الوسيلة التي توصلنا لكل شيء.
إن فرط الانجذاب إلى المال في نظر دونو يعني أننا في الحقيقة منجذبون إلى لا شيء، فنحن بالنهاية منجذبون إلى الوسيلة التي توصل إلى القيمة لا إلى القيمة نفسها.

الفصل_الثالث: الثقافة والحضارة

يتحدث دونو في هذا الفصل عن رأس المال الثقافي، والفن التخريبي المدعوم، وعن التأثير السلبي لوسائل التواصل في نزع الناس عن الواقع، مثلًا التلفاز هو قوة مسلطة لنزع القيمة الجمعية بين الناس. فعندما يقدم للمشاهدين الشيء ذاته، في الوقت ذاته، وفي المحتوى ذاته، يجلس ملايين من الناس في الوقت ذاته منفصلين منعزلين في أقفاصهم لا يعيشون التشارك الاجتماعي الحقيقي، والفن التخريبي هو “فن صادم، بشكل أصيل”، نجد فيه الذوق السيء، والوقاحة، والاستفزاز.

الفصل_الرابع: ثورة إنهاء ما يضر بالمصلحة العامة

يتحدث دونو في هذا الفصل عن قطيعة جمعية مع النسق الفاسد، وإعتاق أنفسنا منه، ومحاولة تقويض أسس المؤسسات الفاسدة التي تهدد الديمقراطيا بشكل مستمر، ويسهب في الحديث عن واقع تضخم أدوار الشركات العالمية التي تنهب موارد بلدان أخرى من خلال توظيف مصطلحات مثل “الحوكمة”، مما يفضي إلى إفراغ سلطة الحكومات والبرلمانات من محتواها، والتي أصبحت مجرد غطاء وواجهة للتافهين أصحاب رؤوس المال[].

إن مساوئ السوق كنسق مجتمعي معروفة وذائعة على نطاق واسع. ولكن ماذا عن مساوئ الديمقراطيا؟ سؤال يطرحه كندي آخر، مينارشيست، حول أحداث وتوقعات كيبيكي مختص في الاقتصاد،
مقال تحت عنوان “هشاشات الديمقراطيا“(Les failles de la démocratie) 24 سبتمبر 2012، يلخصها في عشرة.

أولا، الديمقراطيا مكلفة جدا. الانتخابات الأخيرة للمجالس الولائية كلفت الحكومة 80 مليون -$-، بالإضافة إلى إنفاق الأحزاب. بخصوص الانتخابات الأمريكية في نوفمبر المقبل، مصاريف الإشهار ستتجاوز 5 مليارات -$-! تكلفة السوق أقل من ذلك بكثير.

ثانيا، إنها سيرورة بطيئة، والانتخابات لا تحدث سوى كل 4 سنوات فقط (الفترة أقصر في بعض الحالات، ولكن حتى لو كانت كل شهر، فإنها مع ذلك طويلة جدا). السوق تتيح إمكانية التصرف بشكل أسرع.


ثالثا، الديمقراطيا تفتقر إلى المرونة. من المستحيل أن نتخذ بعض عناصر برنامج حزب تحالف مستقبل الكيبيك (CAQ) ونعمل على التركيب بينها وبين بعض أفكار الحزب الكيبيكي (PQ) وحزب الكيبيك الليبيرالي (PLQ). لا بد من شراء سلة الغذاء بالكامل، حتى لو لم ترقنا بعض العناصر. لكن السوق تسمح لنا أن نختار بالتحديد ما نريد، وليس هناك حاجة إلى شراء المجموعة كاملة.

رابعا، الديمقراطيا ليست سيرورة مأمونة الجانب. وعود انتخابية كثيرة لم يتم الوفاء بها وبعض السياسيين غيروا المواقف حتى أثناء الطريق. وبعبارة أخرى، فإن محتويات سلة الغذاء تميل إلى الفساد وبعض العناصر تم استبدالها خلال العهدة.

خامسا، هناك عدم وجود خيار. ما العمل إذا لم تناسبنا أي سلة من سلال الغذاء؟ في الكيبيك، الأحزاب الرئيسية الأربعة يسارية نوعا ما، ودولوية (étatistes). ليس هناك حزب يناسب دعاة الحرية (libertariens)..


سادسا، الديمقراطيا قابلة للفساد. برامج الأحزاب مصممة بطريقة تسمح بشراء الزبائن الانتخابيين من خلال إغرائهم بـ”الهدايا” التي يؤدي ثمنها دافعو الضرائب. اللوبيات تضغط على السياسيين إعلاميا وماليا وتحصل بالتالي على امتيازات غير عادلة؛ ومكاسب خاصة بتكلفة جمعية (collectivisés). محتويات السلة في بعض الأحيان أكثر ملاءمة لفئات معينة على حساب بقية السكان.

سابعا: الديمقراطيا تستقطب المجتمع على شكل مجموعات متجانسة متعادية، الأمر الذي يعرض النسيج الاجتماعي إلى التلف. الديمقراطيون يكرهون الجمهوريين، حتى ولو كان لديهم في بعض الأحيان أفكار جيدة (والعكس بالعكس). ذوو النزعة السيادية (souverainistes) يكرهون الفيدراليين: إذا كان هناك شيء نافع لكندا (وبالتبعية لكيبيك)، فهو سيء بالتأكيد في نظر السياديين (souverainistes). وهذا يعطي مجتمعا مشلولا ودوغمائيا. إذا اقترح منافس شيئا، يجب معارضته، حتى لو كان ذلك الشيء هو ما ينبغي فعله.

وأخيرا، العيب الثامن هو الأهم: طغيان الأغلبية. يجب على الجميع شراء السلة التي حصلت على أكبر عدد من الأصوات. وهكذا، فبالثلث فقط من الأصوات، فإن الحزب الكيبيكي (PQ) يمكنه تسيير الولاية وفقا لقيمه ويفرضها على بقية السكان. في سوبر ماركت حقيقي، اختار محتويات سلتي وأنت تفعل الشيء نفسه. لا أحد يفرض سلته على الآخر.

لذلك عندما نتحدث عن الحكامة المؤسساتية، من المهم أن يتم التحديد بوضوح في الدستور العناصر التي تختص بها الحكومة، والعناصر التي ينبغي تركها لتقدير الأفراد. بهذه الطريقة يتم تعريف حقل اشتغال الدولة بوضوح وحماية حرياتنا الفردية. للأسف، نحن بعيدون عن هذا النوع من الإصلاح، ولكن على أقل تقدير، يمكن أن نحد من الأضرار وذلك بعدم التصويت لصالح الأحزاب السياسية التي تسعى إلى تضخيم الحكومة. كما ينبغي للناس أن يدركوا أن الديمقراطيا ليست غاية في حد ذاتها. بل هي وسيلة يتحدد بها من سيكون مدير المتجر، وليست وسيلة لتحديد كل ما سوف يكون في سلة الزبناء.

أما بالنسبة لأهمية التصويت، فلا جدوى من محاولة إقناع أولئك الذين لا يصوتون. وتشير الدراسات أن لديهم أسباب وجيهة لعدم التصويت، باعتبار أنهم أقل اطلاعا على القضايا والبرامج، وأقل تعليما وتكوينا. من جهة أخرى، قد يكون عدم التصويت طريقة لانتقاد النسق؛ وعدم مساندته. في المقابل، البعض يصوت فقط ليعطي وعيا جيدا أو شكلا من التعاطف غير المكلف أو التخلص من الشعور بالذنب تجاه من هم أقل حظا.

بالنسبة لي، يقول صاحب المقال، أصبح من الواضح أن الديمقراطيا ببساطة هي سيرورة مبالغ فيها. الحجة القائلة بأن الديمقراطيا تعني “القوة في يد الشعب،” أسطورة. الشعب لا يمارس أي تأثير في القرار بشأن المخاطر الرئيسية المتعلقة به. إنهم الساسة الذين لديهم السلطة والتي يستخدمونها في مصلحتهم ومصلحة الداعمين من اللوبيات وجماعات المصالح .

وعلاوة على ذلك، فإن كلمة “الديمقراطيا” لا يتضمنها إطلاقا دستور أمريكا ولا إعلان الاستقلال. في الواقع، كان “الآباء المؤسسون” «Founding Fathers» ضد الديمقراطيا البرلمانية كما نعرفها اليوم.
في الديمقراطيا ليس هناك حرية مقدسة. كل مظهر من مظاهر حياة الفرد يكون عرضة لرقابة الحكومة. الأقلية بشكل كلي تحت رحمة الأغلبية.

الديمقراطيا والأوليغارشيا

تعبيرا عن وجهة نظره حول استحالة تطبيق النموذج الديموقراطي الليبرالي كما ابتكره الغرب، أسس باريتو لنظرية النُّخبة، وفي تحليله لـ(دوران النخبة) ولحركة مرور السلطة داخل النُّخب، لا يرى أي دور آخر للجماهير باستثناء كونها مزودا تتزود منه النُّخبة الحاكمة بالعناصر المتفوقة والمؤهلة لممارسة السلطة. والجماهير عند باريتو تتصف بخاصية الضعف وعدم القدرة على التنظيم وهذا يسهل من مهمة النُّخبة الحاكمة في تحقيق أهدافها بفاعلية وقوة حيث تبقى الجماهير خارج دائرة الفعل السياسي الذي يشكل ممارسة نخبوية واضحة المعالم . ولأن الجماهير عاجزة فعلى هذا الأساس يتعذر أن تتحقق الديمقراطيا في المجتمع، إنه “وهم الديمقراطيا” وفق تعبيره. الاختيار الديمقراطي ينهض في البداية على المساواة بين أعضاء الجماعة ومشاركتهم في مختلف مراحل صياغة القرار، ومع سيرورة الأحداث وفي سياقها تفرز تفاعلات العمل السياسي أقلية محكمة التنظيم داخل المجتمع أو الجماعة، (نخبة) تخطف السلطة وتنفرد بها وتحتكرها. ومن هذا المنطلق يرى ميتشل أن الديمقراطيا “وهم”، وهي في المحصلة مجرد قناع تختفي من ورائه نخبة أو أقلية تنفرد بالسلطة وتهيمن على مقاليد الحياة السياسية والاجتماعية.

وانتهى ميتشل من دراسته الواسعة هذه إلى وجود ثلاثة أسباب رئيسة أدت إلى ظهور النزعة الأوليغارشية الفردية داخل الأحزاب والمنظمات السياسية، وهي: خصائص التنظيم ذاته، سمات القادة وسمات الجماهير.

وفي تناوله لموضوع النُّخبة يرفض ميتشل – كما رفض موسكا من قبل – التفسير الماركسي للتاريخ، ولكنه يقرّ في الوقت نفسه بأهمية العوامل الاقتصادية في إحداث التغير الاجتماعي.

يرى ميتشل، في نظريته النخبوية، أن الأحزاب السياسية – مهما يكن أمرها وتوجهاتها وأيديولوجياتها – تتحكم فيها بشكل من الأشكال النزعة الفردية الأوليغارشية.

في البلدان الغربية، وبعد نضالات مريرة وتجارب عديدة، أصبحت الديمقراطيا نسقا سياسيا “système politique”  (ولم تعد مجرد ريجيم  « Regime ») ودون أن نغفل “مساوئ الديمقراطيا”، فإن المجال أصبح متاحا أمام الشعب كي يمارس سيادته بشكل أوسع. وتجليات الديمقراطيا في مجتمع ما مشروطة بنوعية التراكم الذي حققه هذا المجتمع في مجال تدبيره الديمقراطي لشؤونه العمومية.


روح الديمقراطيا

إن روح الديمقراطيا، وفق رالي دايموند، ليست شيئا ميكانيكيا يتم تكييفه عن طريق إلغاء الأعراف، بل تقتضي تغيرا على مستوى القلب. إن الديمقراطي الحقيقي هو الذي يدافع عن حريته، ومن ثم عن حرية بلده، وعن حرية البشرية جمعاء، معتمدا بشكل صرف، وسائل اللاعنف.

منذ الوهلة الأولى التي يبنيها القارئ مع كتاب “روح الديمقراطيا”، يجده يكتسي دلالات بليغة تبدأ بالعنوان، وبالأسماء التي حظيت بالإهداء وبالمقطع الافتتاحي.

ثم ينهي لاري دايموند كتابه في الفصل الخامس عشر “طبيب؟ اشف نفسك”، داعيا أمريكا إلى معالجة أمراضها بدل اهتمامها بصحة الآخرين.

هذا الفصل تضمن سبعة عناوين. في العنوان الأخير “نحو ديمقراطيا أفضل”، كتب: “من سخرية الحياة السياسية، في الربع الأخير من القرن الماضي، قادت الدول المتحدة الأمريكية العالم نحو تعزيز الديمقراطيا على المستوى العالمي في وقت لا تفتأ وضعيتها الديمقراطية تتدهور“.
عن الديمقراطيا الليبيرالية في أمريكا، يرى أنها مستقرة وآمنة، وهي قابلة للتطور. يدعو إلى بعض الابتكارات بهدف تجديد المؤسسات السياسية وإحياء روح الإبداع انطلاقا من مقاربة نسقية جديدة تتفاعل فيها الديمقراطيا بالمواطنة النشطة على خلفية فلسفية أساسها الشك الإيجابي، يسميه الكاتب بـ”النزعة الشكية الصحية” في شأن السلطة بدل النزعة التهكمية.

سؤال الإصلاح يطرح نفسه بإلحاح مرة أخرى، إصلاح الديمقراطيا يبدأ شرط نجاحه من الأسفل (التعليم والتجند الطوعي للمواطنين ضد الفساد وشطط السلطة)، التجند والاستغلال الجيد لما يسميه “التكنولوجيا التحررية“.
يؤكد على ضرورة القيادة ودورها في تفعيل التجند وحاجة المواطنين إلى قائد ملهم، ويعطي المثال بتجربة جون كنيدي وخطابه الشهير، خطاب ساخن في صباح بارد من شهر يناير 1961 “لا تسأل عما يمكن أن يقدمه لك بلدك، بل اسأل ما يمكن أن تقدمه أنت لبلدك“.

https://anbaaexpress.ma/z0cx1

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى