“Touristes Hors Saison” “توريست هور سايزون” أو “سياح خارج الموسم” هو عنوان فيلم تونسي قصير شاهدته مؤخرا، في اطار مهرجان عليسة السينمائي التونسي لعام 2022 في لندن.
يروي الفيلم القصة الحقيقية لهيرفي – وهو رجل من ساحل العاج، قرر بعد الأزمة السياسية في بلاده في عام 2010، عندما أدت الانتخابات الرئاسية المتنازع عليها إلى انتشار العنف على نطاق واسع – مغادرة وطنه والاستقرار في تونس.
يسعى هيرفي إلى إعالة نفسه وزوجته من خلال الحصول على عمل لائق، لكنه يواجه تحديات كبيرة: ابرزها ان العيش والعمل بشكل غير قانوني يعني تفادي السلطات حتى لا يتم ترحيله الى بلده. ويزداد وضعه سوءا بسبب الأفكار المسبقة من قبل بعض المواطنين التونسيين تجاه الافارقة من دول جنوب الصحراء بشكل عام. هذه القضايا تعرقل اندماج هيرفي في المجتمع.
تسلط قضية هيرفي الضوء على الوضع غير المستقر لآلاف المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى، وهو في حد ذاته موضوع نادرا ما تغطيه وسائل الإعلام التونسية.
الإيفواريون هم من بين أفارقة آخرين من دول جنوب الصحراء الكبرى اختاروا تونس في الماضي مكانا للدراسة. فحتى منتصف التسعينيات، كان عدد الطلاب الأجانب لا يتجاوز بضع مئات، معظمهم قادمون من المغرب العربي، ومنطقة الشرق الأوسط وبلدان جنوب الصحراء. واستفاد معظم الطلبة الوافدين الى تونس من المنح الدراسية المقدمة إما من حكومات بلدانهم أو من الدولة التونسية في إطار اتفاقيات ثنائية. وبحلول الألفية الجديدة، بدأ هذا العدد في الصعود نحو الآلاف، حيث أدى إنشاء الجامعات الخاصة إلى ظهور جيل جديد من الطلاب القادمين في المقام الأول من بلدان جنوب الصحراء.
اعتبرت تونس وجهة دراسية جذابة لمجموعة من الأسباب اهمها انه حتى أولئك الذين يأتون من بلدان ليس لديها اتفاقيات ثنائية مع تونس، يمكنهم بسهولة الحصول على تأشيرة بمجرد تقديم دليل على تسجيلهم في إحدى الجامعات التونسية.
ولأن بعض الجامعات التونسية الخاصة تقدم برامج باللغة الفرنسية كان لذلك دور رئيسي في جذب الطلاب من الدول الأفريقية الناطقة بالفرنسية، في حين تقوم جامعات أخرى في البلاد بتدريس دورات باللغة الإنجليزية لجذب الطلاب من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى الناطقة بتلك اللغة أيضا.
وياتي هؤلاء الطلبة من أكثر من عشرين دولة أفريقية، بما في ذلك بلدان المغرب العربي ، وهي:
ساحل العاج والسنغال وغامبيا وغامبون ومالي والنيجر وجزر القمر والرأس الأخضر وسيشيل وغينيا الاستوائية وغينيا بيساو وناميبيا وجنوب أفريقيا وجمهورية أفريقيا الوسطى.
تساهم العديد من العوامل الأخرى في جعل تونس وجهة جذابة للطلاب من القارة. وتشمل أساسا الأمن والاستقرار في البلاد (خاصة قبل أحداث عام 2011 والتي يشار إليها بالربيع العربي) ، والبنية التحتية المتطورة نسبيا في العاصمة تونس وفي المدن الكبرى الأخرى حيث تتركز الجامعات الخاصة, إضافة الى، مجموعة متنوعة من التخصصات التي تقدمها هذه الجامعات مما يوفر للطلاب الخيارات، إضافة الى الاعتراف الدولي بالشهادات الجامعية التونسية وانخفاض تكاليف المعيشة في تونس مقارنة بالدول الأوروبية.
غير أن أسباب وجود الجالية الافريقية في تونس تغيرت في السنوات الأخيرة. ففي ذروة الصراع في ليبيا في عام 2011، عبر ما يقرب من مليون شخص (حوالي 10٪ من سكان تونس) الحدود إلى تونس. وقبل ذلك العام، لم يكن يبلغ سوى مائة لاجئ كل عام. كما أن الوضع المتقلب في ليبيا جعل البلاد خطرة للغاية، لهذا بدأ المهاجرون من دول جنوب الصحراء الكبرى في العبور والاستقرار في تونس بأعداد أكبر. ووجد كثيرون آخرون أنفسهم في تونس بعد أن أعادتهم السلطات الايطالية إلى الضفة الاخرى للمتوسط وقرروا البقاء مؤقتا، بينما يخططون للعبور مرة أخرى نحو شواطئ اووربا.
هناك روابط تاريخية تجمع تونس وشمال أفريقيا ببلدان ومجتمعات أفريقيا جنوب الصحراء. كانت “إفريقية” الاسم الأصلي لتونس وجزء من الجزائر، والتي اشتقت منها القارة تسميتها. كما كانت تربط بينها علاقات اقتصادية من خلال القوافل التجارية وتجارة العبيد، ودينية من خلال الإسلام والتيارات الصوفية وتاريخية من خلال الاستعمار الأوروبي للقارة.
ويجعل موقع تونس منها نقطة عبور مثالية ف”الطريق إلى روما يمر عبر قرطاج” ، كما يقول البعض. وهذا يعني أن المهاجرين الذين يتطلعون إلى الوصول إلى أوروبا يمكنهم الوصول إلى المرحلة قبل الأخيرة (تونس) في غضون ساعات، مما يكسبهم الوقت ويسمح لهم بتجنب مخاطر الطريق الصحراوي. ولا تزال تونس هذا البلد الصغير في حجمه، لكنه يحتل موقعا استراتيجيا بين ليبيا والجزائر ، يعتبر أكثر سهولة من جيرانه، وهناك العديد من العوامل التي تساهم في ذلك:
أولها الساحل الطويل وقربه من الشواطئ الأوروبية وخاصة الإيطالية منها. فجزيرة لامبيدوزا على سبيل المثال، تبعد أقل من مائة وخمسين ميلا عن الشواطئ التونسية الجنوبية والوسطى والشرقية. وتقع جزيرة بانتيليريا على بعد خمسين ميلا فقط من الشواطئ الشمالية الشرقية التونسية. هذا القرب عبر موانئ متعددة، يعني الوصول بشكل أسرع واقل خطورة، خاصة وأن المراكب التي يمتطيها المهاجرون غير آمنة وغير قابلة للسفر لمسافات طويلة.
ثانيها سياسات الهجرة للاتحاد الأوروبي والعديد من الاتفاقيات او الصفقات التي توصل إليها الاتحاد مع حكومات البلدان المغاربية لضمان سيطرتها على حدودها بشكل أكثر إحكاما ومعالجة قضية الهجرة الأفريقية “بشكل صحيح”. ففي بداية الألفية الجديدة، بدأت أوروبا وبعض حلفائها المتوسطيين في إغلاق جميع الطرق البحرية التي يستخدمها المهربون والمهاجرون غير الشرعيين: مضيق جبل طارق بين المغرب وإسبانيا، وطريق الأطلس الذي يربط غرب أفريقيا بجزر الكناري، والطريق من ليبيا إلى إيطاليا.
لذلك اخذ مهربو البشر يبحثون عن بدائل. وكان أحد خياراتهم الطريق التونسي الإيطالي الذي كان، حتى أواخر التسعينيات، يستخدم في الغالب من قبل المهاجرين التونسيين والجزائريين والمغاربة غير الشرعيين والمعروفين ب” الحراقةّ”.
ولكن في الوقت الذي تمارس فيه أوروبا التي تزداد انغلاقا على نفسها ضغوطا على تونس للتصدي للهجرة غير الشرعية من القارة وتريد منها ترجمة ذلك إلى قوانين أكثر صرامة وتشديد دوريات المراقبة البحرية، تجد تونس نفسها تكافح بمفردها في التعامل مع القضية الشائكة التي يرفض جيرانها معالجتها.
ووفقا لمنظمة أطباء بلا حدود، تم ترحيل آلاف المهاجرين من الجزائر وليبيا في السنوات الأخيرة، تركوا عالقين في قلب الصحراء على المنطقة الحدودية مع النيجر. ومن بين الذين بقوا في الصحراء مصابون بجروح جسدية، فضلا عن ناجين من العنف الجنسي وأشخاص يعانون من صدمات نفسية شديدة، حسبما ذكرت المنظمة. وأفادت المنظمة بان ما يقرب من 70٪ من الأشخاص الذين تعتني بهم في المنطقة تعرضوا للعنف وسوء المعاملة بينما انقطعت بهم السبل على حدود الجزائر وليبيا. كما تم تأكيد وفاة ما لا يقل عن 38 شخصا في المنطقة بين عامي 2020 و 2021.
تقدر بعض الجمعيات العدد الحالي للمهاجرين الأفارقة المقيمين في تونس بنحو عشرين ألف شخص، لكن الإحصاءات الرسمية الصادرة عن التعداد العام للسكان تشير إلى أن العدد أقل من عشرة آلاف. وهم في الاساس مواطنون من نيجيريا وساحل العاج والكاميرون ومالي والسنغال. ولكن بالنظر إلى الوصول بشكل غير قانوني إلى تونس، لا تزال الأرقام الرسمية تتغير باستمرار. وهي تأخذ في الاعتبار فقط أولئك الذين يحملون تصريح إقامة قانوني صادر عن وزارة الداخلية. ويعيش عدد كبير من العمال المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى في البلد دون أي وثائق قانونية، إما لفترة قصيرة أو طويلة من الزمن، ويعملون في القطاعات غير الرسمية. ولدى آخرين، مثل الطلاب على سبيل المثال، تصاريح إقامة لا تسمح لهم بالعمل رسميا، لكنهم يلجِؤون أيضا إلى القطاع غير الرسمي لتحسين ظروفهم المعيشية.
وفي حين أن تدفق المهاجرين لا يزال عملية معقدة، فإن الاتجاه العام في تونس يشير إلى أن عددا متزايدا من المهاجرين من جنوب الصحراء يستقرون في المدن الرئيسية في تونس: العاصمة تونس، ومدن نابل وسوسة على الساحل، وصفاقس ومدنين في الجنوب. يميل الرجال الأفارقة إلى العمل في البناء والزراعة أو في المطاعم والمقاهي أو في المتاجر. وغالبا ما تعمل النساء مساعدات منزليات، بينما تقوم أخريات بتسويق السلع الأفريقية في الأسواق وفي الشوارع.
وبدون أي سبل قانونية للعمل في تونس، يترك العمال المهاجرون عرضة للاستغلال والتهريب. كما أن وضعهم يحد من إمكانية حصولهم على الخدمات الاجتماعية. فمن اجل البقاء بشكل قانوني, كما في أي بلد, والحصول على نفس المزايا التي يتمتع بها المواطنون، يجب على الأفراد الحصول على تصاريح إقامة – وهي عملية قانونية معقدة.
ومما يزيد الطين بلة أن المناوشات والمشاجرات بين المهاجرين الأفارقة والمواطنين التونسيين تحدث بشكل متكرر في العديد من المناطق، وخاصة تلك التي يوجد فيها عدد كبير من المهاجرين. ويؤدي التوتر الى الاستياء في صفوف المواطنين، يمكن أن يتصاعد إلى عنف في أي لحظة ولأي سبب. فعلى سبيل المثال، أدت هزيمة المنتخب الوطني لكرة القدم ضد غينيا الاستوائية في يناير 2015 وانسحابه من كأس الأمم الأفريقية، إلى موجة من الهجمات العنصرية ضد المهاجرين.
كما اشتبك أكثر من مائة مهاجر من جنوب الصحراء مع السكان في احد احياء مدينة صفاقس في يونيو عام 2021مما أدى إلى إتلاف مقهى ورشق المواطنين بالحجارة. وتدخلت قوات الأمن لإنهاء الاشتباكات. ولم تكن هذه المناوشات الأولى من نوعها التي تشهدها المنطقة. فصفاقس، كونها مدينة ساحلية والعاصمة الصناعية لتونس وثاني أكبر مدينة في البلاد، مع توفر فرص العمل فيها، هي من بين المدن التي تشهد أعلى تدفق للمهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ومعظمهم يصلون من ليبيا إلى ولايات (محافظات) الجنوب التونسي. كما تشهد محاولات مستمرة للهجرة عبر قوارب الهجرة السرية.
وكثيرا ما تؤدي مثل تلك المشاكل الى ربط الهجرة من جنوب الصحراء الكبرى بارتفاع مستوى الجريمة في جميع أنحاء البلاد. وكثيرا ما يذكر نشطاء حقوق الإنسان بعكس ذلك؛ اذ يشيرون الى ان الهجرة من جنوب الصحراء الكبرى تسد الفجوة في سوق العمل، حيث يبدي المهاجرون من القارة الاستعداد للقيام بالوظائف التي لا يقبلها بعض التونسيين.
بالنسبة للعديد من التونسيين، فإن قضية الهجرة من جنوب الصحراء إلى بلادهم تعتبر مستغربة إلى حد كبير, فبينما ينتظر الشباب وحتى كبار السن التونسيون في طوابير طويلة امام سفارات الدول الأوروبية والخليجية، على أمل الحصول على تأشيرة، يشرع آخرون، غالبا ما يكون من بينهم عائلات بأكملها، في ركوب ما تسمى “قوارب الموت” نحو الشواطئ الإيطالية كل يوم تقريبا.
اذ يعتقدون أنه طالما نجوا من الرحلة، فإنهم سيتحررون من المشاكل الاجتماعية الناجمة عن الضائقة الاقتصادية التي تعيشها بلادهم. وتعاني تونس حاليا من أزمة حادة في تكاليف المعيشة، كما وصلت البطالة العام الماضي الى 20٪.
منذ فرض الدول الاوروبية تأشيرات على بلدان الجنوب وتنفيذ القيود داخل أفريقيا، اخذت الهجرة من جنوب الصحراء الكبرى إلى بلدان شمال القارة في التزايد. ومع انتخاب حزب من اليمين المتطرف هو “إخوان إيطاليا”، المعروف بمناهضته للهجرة، في سبتمبر/أيلول الماضي, بدا الأمل في الهجرة إلى أوروبا يتقلص. هذا، إلى جانب اتساع الفوارق الاقتصادية بين دول الشمال والجنوب مما يؤدي إلى عدم الاستقرار الاجتماعي والسياسي، وما يعني بالتالي أن الأفارقة جنوب الصحراء الكبرى ليس امامهم خيار آخر سوى البقاء في القارة.
يسلط ماهر الحسناوي، المخرج التونسي الشاب لفيلم ” سياح خارج الموسم” الضوء على وضع هيرفي غير المستقر، إلا أنه لا يقدمه أبدا على أنه ضحية. بدلا من ذلك، يركز المخرج على صداقاته الكثيرة مع مواطنين تونسيين وسعيه باستمرار لتحسين ظروفه. وأعادت ردود الفعل الجمهور التونسي الحاضر لمشاهدة الفيلم التأكيد على مدى تغييب وجود المهاجرين من جنوب الصحراء الكبرى من وسائل الاعلام التونسية إلى جانب المشاكل التي تواجههم في ظل الأولويات العديدة والشائكة التي على الدولة التونسية التعامل معها.
ينتهي الفيلم بنبرة مفعمة بالأمل: فهيرفي وزوجته ينتظران ولادة طفلتهم الأولى. ومع ولادتها، يتجدد الامل في إمكانية الحصول على الجنسية التونسية. هذه ظاهرة معروفة جيدا في الدول الغربية، لكنها غريبة إلى حد ما على دولة نامية مثل تونس، تواجه شتى أنواع التحديات.
لكن لا يسع المرء إلا أن يأمل في أن تمنح عائلة هيرفي الجنسية لكي يتسنى لها ان تعيش حياة أسهل.