
أن تبقى في منطقة الاشتباك شيء وأن تكون المُشتبك الأول شيء آخر تمامًا. أي أنك لا تجعل النوم طريقًا إليك، النوم هنا ليس موتًا مؤقتًا، هو أن تهجر السكون الذي يتشكل ملامحه بعد غياب الشمس، وأن تغمر عقلك وقلبك وروحك بالضجيج كالنحل في مملكته. أن تُسمع العالم من حولك أنك أتيت ومعك كُل أدوات الاشتباك لتنموا كما قُرر لك أو كما وجدت ذاتك على مُفترق الطُرق، كان أمامك فرصة أن تكون مع الأرستقراطيين وتحظى بما تشاء، إلا أنك اخترت أن تبقى ذلك المُشتبك حتى الرمق الاخير . إنك لا تعرف معنى النوم، و رُبما لا تنام لأنك لا تزال في أولاً بتعبير الراحل غسان كنفاني.
أصبح من الممكن التحدث عن القدرة على تقديم استقراءات تكشف عن ملامح ما بعد أولاً و مع أهمية ذلك، إلا أن الأحداث تُحتم علينا تقديم استقراءات المرحلة المفصلية بكل اشتباكاتها التي تُلقي بضلالها على العقل العربي، وهو الذي يُعاني من كثرة الشظايا الإعلامية والسياسية على حد سواء مما يوقعهُ في خضم التجاذبات التي لا يوجد ما يكبحها ليمكنه من رؤية الأحداث كما هي دون تأثير الإعلام والصحف التي يغلب الكثير منها انعدام المصداقية والموضوعية أو ضعفهما. إن المرحلة التي نعيش تداعياتها عالميًا تؤكد أن ثقافة الاشتباك هي المخرج الوحيد من عنق زجاجات الاستبداد العابرة للحدود والقارات، اشتباكات متعددة الاتجاهات تؤكد أن كل سُبل التهوين والتطبيع والتحجيم لا تقوى أمام إرادة المُشتبكين، فهناك من اشتبك مع العدو المُحتل عابرًا للحدود كما فعلت المناضلة دلال مُغّْربي ( 1958-1978 ) حينما قادة مع فريقها عملية كمال عدوان من أجل حجز رهائن والتفاوض من أجل اطلاق السجناء إلا أن جيش الاحتلال رفض العرض مما دفع دلال أن تعطي الأمر إلى إطلاق النار مما كبد العدو 30 قتيلًا. كانت مُغّْربي أمام فُرصتها الأولى والأخيرة أن تبقى في منطقة المُساكنة كما كثير من النساء وتُنجب الأطفال، إلا أنها اختارت طريقها بعناية فائقة أن تبقى المرأة المُشتبكة حتى لحظة الأخيرة. وقد رثاها الشاعر نزار قباني ( 1923-1998 ) حيث قال : إنها “أقامت الجمهورية الفلسطينية.”
لم تعد ساحات الاشتباكات بالصورة التقليدية كما كانت في السبعينات والثمانينات من القرن الماضي، فنحن نعيش اشتباكات تُجدد ذاتها بذاتها وتحمل طبيعة ديناميكية مستمرة تنتقل من روح مُشتبكة بالإرادة وعقلانية في حركتها ، وقلب صلب في المواقفِ كما كان يفعل المناضل إبراهيم النابلسي والمُشتبك الاستثنائي عُدي التميمي.
أستحضر العمل الروائي الجزائري ( وطن من زجاج) الذي يُسلط الضوء على ما فعلته فرنسا في الجزائر و صور استصغار الآخر الذي يُنظر له بدونية وفي الحد الأدنى عدم أهليته في اتخاذ قرارته الحياتية الطبيعية، وهذا ما يفعله الاستبداد وثقافته التي غرسها في المجتمعات العربية على امتداد تاريخ سيطرته، وتوغله ونفوذه. إنه اشتباك معرفي وأدواته تختلف كُلياً عن الاشتباكات المُسلحة، أن ترسم ملامح الواقع الذي قد لا يُعجبك أو لا تُريد استمرار إفرازاته، وتنظر بعين التحديات، والمتطلبات ،والتطلعات هو تأكيد أن اللغة بوصفها أداة يُمكن من خلالها أن تُحدث انتصار وتقدم أمام جيش من الغث والسمين من أعمال غايتها أن تهزمك وتُبعدك عن منطقة الاشتباك لتحقق نصرها المزعوم. قصص مناطق الاشتباكات و المُشتبكين أكثر من أن تُحصى، فهناك من يختار الأدوات ومناطق الاشتباكات فيما البعض يحمل ذاته عابرًا نحو أدوات ومناطق من اختياره لِيُعيد تشكيل الواقع الذي يبحث عنه ويُريده.
أيها النائمون واشباههم أكملوا نومكم، إن المشتبك لا ينام وإن فعل سوف تكون نومته الأبدية التي لاتُشبه نومكم الأبدي.