تمازيغتثقافة

الحب أول الحكمة.. عن رواية التحولات (الحمار الذهبي)

بقلم : جواد كوفي

“…وتذكرت عز لوقيوس الأيام الخوالي وتغشى اليأس من الخلاص نفسي فأطرقت أرثي حالي، لم يبق لي عزاء في حياتي المعذبة يسليني قليلا سوى جلبة فضولي ، سيما والجميع يتصرفون ويتكلمون أمامي بحرية مستخفين بحضوري… “…أنا شخصيا أتذكر بكثير من فترة حياتي الحمارية ، فقد جعلتني تحث ستار هيئتي البهيمية ومن خلال التمرس بشتى الأحوال الحياتية إني إن لم أكن احصف حكما، فعلى الأقل أنا الان أوسع علما..” ” افولاي الحمار الذهبي ص220.

الصور الواقعية هي الأصل في الأعمال الروائية ، فهي حمالة للكثير من القيم و العادات والتقاليد التي تسود مجتمعا معينا ، فالراوية تحافظ كذلك على أحداث وأسماء لوقائع وأماكن كتب عليها الزمن قدر التغير العفوي استجابة لمطلب العصر وظروفه أو التحريف عمدا لمآرب معينة ،كما أن الروائي يكون حرا في التعبير بطرق متعددة عن واقعه المعيش وعن منظوره للجماعة و طرق تدبير المدينة منتقدا حينا أو منتصرا لقيم و عقائد معينة حين آخر.

إن الراوي يلعب دور المقدس بحصر الأحداث داخل سجن الحرف ثم منحها روحا سرمدية تضمن لها البقاء و الخلود بالانتقال والسفر عبر الزمن.

رواية الحمار الذهبي أو التحولات للمؤلف الأمازيغي افولاي 125 م تعتبر أول رواية في تاريخ البشرية وصلت إلينا كاملة.

صحيح أن الرواية ترجمت مرتين الى العربية من اللغة الإنجليزية والفرنسية ، لكن النص الذي اعتمدت عليه هنا مترجم عن اللغة الأصلية (اللاتينية) للمترجم التونسي القدير عمار الجلاصي والذي كان موفقا جدا في ترجمته لهذا المتن الروائي الرائع.

تحكي الرواية عن شغف الإنسان للمعرفة وسعيه الدائم الى استكشاف المجهول ، تلك الرغبة الجامحة للأب الأول (آدم) التي تحولت في الماضي السحيق الى خطيئة ، تحمل الأبناء (البشر)بعدها وزر النزول ثم الاستحالة ، من كائنات خالدة في النعيم و السعادة السرمدية ، إلى كائنات يصيبها الفناء و التغيير و الألم و الجهل.

إنه التحول الأول أو السحر الأول، أليس العقل و الوعي أعظم سحر زود به الإله الإنسان بمعنى ما؟

فهل للحمار قدرة على حمل أمانة الوعي و الإدراك مثل الإنسان، حمل موهبة العقل والحب على ثقلها والحكمة على عمقها وإيصالها بأمانة إلينا نحن البشر؟

تحول بطل الرواية إلى حمار ( أسنوس ) بالأمازيغية وهو نفس الإسم باللاتينية ( Asinus ) و اختيار هذا الكائن من طرف افولاي لم يكن اعتباطيا ، فبالإضافة إلى أنه يرمز في الأساطير اليونانية والمصرية القديمة إلى تبجيل المتعة و تقديسها إذ يظهر بصورة الإله ( ديونيسوس) فهو كذلك قد يحيل هنا على دلالة فلسفية ضمنية صرح بها سقراط ملمحا للجهل الذي يلبس الذات والخواء الذي يعتريها في لحظات الظن بأنها عالمة.

ربما ينبه افولاي إلى التواضع أمام المعرفة والاعتراف بالجهل كنوع من الحكمة، لهذا كان التحول إلى حمار كبداية للإرتقاء في مدارج العلم، فالحمار قدره مكابدة مشقة الحياة و تجاربها الأليمة.

التحول أو المسخ من شاب قوي البنية جميل الخلقة إلى كائن بشع إثر خطأ في استعمال محلول سحري يحول الأجساد من حالة إلى حالة دون فقدان ملكة الوعي والعقل ، مع تعذر القدرة على التعبير اللساني.

هكذا تبدأ مغامرة لوقيوس بحافز الفضول الى المعرفة ،و إرادة كشف الظواهر ثم الإرتقاء في مدارج الحكمة.

وكأن الراوي يقدم لنا طريقة الحلول والوصول على طريق وعر لم يخبره إلا المتصوفة ، كالزهد و التجرد من ملذات الحياة.

إن التحول إلى حمار هو التهيئة الأولى للنفس البشرية، كشرط للدخول في تجربة أرقى تفضي إلى التماهي مع المطلق وكشف أسرار العوالم الخفية ، فكانت الخطوة الأولى هي تعلم الصبر و الإذلال في جسد حمار.

بهذا المنطلق يتم تصحيح معتقد الجمهور ، هذا المعتقد الذي كان يحمله لوقيوس كذلك والذي يتمثل في التوسل باللذة الحسية كالجنس و الخمر ثم شرف النسب و الثروة معتقدا فيه أول الطريق نحو بلوغ الحقيقة ، فكان السحر و الطلاسم وسيلة الخاصة وبعض من الجمهور لبلوغ الغاية.

هذه المغامرة في جسد حمار ستكشف له أنها وسيلة لا تصلح إلا لإشباع الغرائز الجسدية و إبهار المخيلة أثناء الشوق إلى الأخر البعيد (السلطة والحب و الشوق) ويؤكد افولاي من خلال تتبع خيوط الرواية أن هذه الوسيلة حكر على النساء ( مروة – بنفلية- فوتيس- زوجة الطحان..).

التحول إلى حمار جعل لوقيوس يمتلئ بالحكمة و يأخذ العبرة في خضم رحلته الطويلة الشاقة بين أصناف البشر (الخسيس و الشريف والشرير و الخير..) وما سمع من القصص التي تحكي عن طباع الآاهة و أنصاف الآلهة وما يعتريهم من مزاج (الحب و الشهوة الغضب و الانتقام ).

كان لوقيوس يمشي في مضارب الأرض يسمع ويرى و يعيش تجارب متناقضة ، فتعتريه نوبات من الندم و التحدي في صور تراجيدية كوميدية في نفس الأن.

إنها سيرورة المنشطر الذي يسعى إلى التوحد، وفي طريقه الوعرة نحو الحكمة، يعرج لوقيوس على زيف بعض الطرق(الدروشة-الجدبة) التي تدعي الدروشة و العلاقة المتينة بالآلهة من خلال شطحات الجذبة على أنغام المزمار و إراقة الدم بالضرب على الأكتاف بالسيوف تعذيبا للجسد ، كصورة من صور المازوشية التي تفضي إلى توهم الإتصال في لحظة اللذة التي يضمنها الألم و يحققها الإغماء كلحظة للوقوف مام المطلق.

يصف لوقيوس (الحمار) مشهد بعض الدراويش المخنثون بالزهد المزيف -هذه طقوس نجد لها حضور الى حدود اليوم في بعض الزوايا – بنوع من النقد الممزوج بالهزل وكثير من الطرافة.

بدأ يفهم الحمار (لوقيوس) على مضض الغاية من هذا التحول العارض ويفطن الى أن سبيل الحكمة بعيد عن السحر و الغريزة و النسب.

فعاد في لحظة صفاء الذهن إلى حضن الطبيعة ثم توجه بالتدرع إلى إلهة الكون و أصل الطبيعة، سيدة العناصر كلها (إيزيس) التي ستتجلى له في المنام وسينعم في حضرتها بلذة لا يستطيع وصفها، وحال يتذوقها فقط من كان في مثله من الأحوال.

حال يتعذر على الواصل أن يبوح بما رأى ، حتى وإن أراد ذلك تخونه اللغة ويعجز اللسان على حمل المعنى أو حتى تقريبه من السائل عن حال ليس كمثلها شيء.

إن للماضي روح تسكن التاريخ و تنتقل بسلاسة بين الأجيال بلطف تبصم حياتنا اليوم لا يحس ريحها إلا من كان مسكونا بالعودة الى مخلفات الأجداد مستعينا بالعقل والتأويل حينا و بالخيال أحيانا كثيرة.

نعم إن الماضي قد يهزم المستقبل و ينفيه كما أن الماضي قد يكون كذلك لبنة متينة تابتة تفتح للحاضر إمكانات متعددة الإستقلالية و كذا إتمام بناء تكوين العقل الإنساني وكماله.

https://anbaaexpress.ma/v8y89

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى