آراءثقافة

التّبرّي من معرّة كلشني

جوابات ثمانية على أسئلة البروفسور مهدي كلشني حول العلم والدين

يبدو لي أنّ العلم في بلاد فارس يجتهد ليتصالح أكثر مع الدّين، وهذه دعوى تبدو مريبة من منظور الغرب الذي حسم تلك العلاقة وأقام شرخا أبديا بينهما، لأنّه لم يجد من سبيل سوى علمنة الحياة السياسية والعلمية جهرا والحياة الاجتماعية والثقافية خُفية.

نذكّر بأنّ الحقيقة العلمية والحقيقة اللاّهوتية في ذروة الصدام بين التأويلين بلغت الباب المسدود، نحن إذن أمام توقّف زمن الإشكالية نفسها، أنتجت في نهاية المطاف تراجعا في الخيال، انحصارا في الواهمة، اختزالا في الممارسة العقلية، هل من منفذ يا ترى لعقد تفاوض خصب بين العقل والخيال، بين كلّ الآماد التي نباشر بها الوجود، مصالحة بين العلمي والميتافيزقي؟ تلك هي المسألة.
إلى أي حدّ يا ترى يمكن لفارس المُعاصرة بناء على رصيدها وتجاربها وموروثها الحكمي والعرفاني أن تعيد ما إنكسر في عصر التنوير الأوربي؟

يبدو أنّنا اليوم أمام محاولات يجب أخذها بعين الاعتبار، لكن، وفي هذه المحاولة سوف أُسائل خطاب د. مهدي كلشني، وهو من اهتمّ بهذه العلاقة بيقين ودربة مختلفتين.

تعرفت على محاولته في أول عمل ترجم إلى العربية من قبل رابطة العلاقات الإعلامية 1985، لم يكن يومئذ هناك حديث عن إسلامية المعرفة، لكن يبدو أنّ الأمور عرفت تطورا جعل المسألة شديدة الالتباس. إن كنت قد حدست تلك العلاقة من دون وجع برهاني، فلأنّ الشقوق التي تظلّ في الجسد النّفسي، لا يمكن أن يملأها العلم بوصفه تطبيقا محصورا لبرنامج بحث، غير معني بما عداه. أبحث في العلم عن دعامة للإيمان، بينما الصورة الميتافيزقية التي تهفو إليها النّفس لم تجد بديلا في العلم.

كنّا حتى ذلك الوقت نميّز بحدس نقيّ بين العلم وبين غواية العلموية، وذلك لسبب بسيط، هو أنّ ما نقرره وما نمتحن فيه، هو ما يتعلق بأسس وسيرورة الاستنتاج. سعى البعض إلى جعل العلم بديلا عن الميتافيزقا، وكان القرن التاسع عشر قد أتى بما يعزز هذه الأيديولوجيا الصُّلبة، التي سرعان ما اصطدمت بتحوّلات كبرى في مضمار العلوم. ولمّا اكتشفت النسبية العامة، سعى البعض لجعلها سندا لتقويض الإيمان، في حين أنّ مكتشف النسبية لم يسلمهو نفسه بهذا الشّرخ.

إنّ الفيزياء الحديثة عامرة بما كان حتى الأمس القريب وتحت طائلة الميكانيكا ومبادئها، يعدّ من خرائف العصور القديمة، فالعلم نفسه دخل في حيرة بسبب التشويش الذي تقوم به الأيديولوجيا العلموية، حيث لا زال هناك شوق إلى مزيد من الاكتشافات، وحاجة العلم لمزيد من الفرضيات والمحفّزات الفلسفية.

ومع ذلك يصعب عليّ الإنصات لمن يروم تلك المصالحة أو يبحث في تلك العُلقة خارج إلحاحية أسئلة العلم والميتافيزقا معا. فمهدي كلشني هو عالم فيزياء وعضو منظمة الفيزيائيين الدوليين، وأحد الذين باشروا إشكالية العلاقة بين العلم والدين من منطلق غير الذي تعارفنا عليه خلال العشريتين والنصف الأخيرة، فضلا عن أنّ النظرة التقدمية للعلم يجب أن تتوفر على رصيد من التراث، فمن كانت رؤيته في التراث إقصائية للعقل، لا يمكن أن يحرر موقفا عقلانيا من العلم المعاصر، ففي إسلامية المعرفة، كيف يمكن الاستناد إلى ابن تيمية الذي رفض المنطق والعقل في تحرير موقف تقدمي من العلم المعاصر؟ وكيف يمكن الاستناد إلى الشاطبي الذي يقول بعدم التعمق في العلوم، كمقصد أساسي يخدم أمّية الشريعة؟ وأمام هذه الشّبهة، يصبح النّظر في التراث مسألة أساسية في حلّ الموقف المعاصر من المعرفة.

لقد أغراني مرارا أن أكتب دراسة وافية حول مشروع البروفسور مهدي كلشني، الذي قدّم أفكارا عميقة وفي صمت، أقل مما يثيره الضوضاء في مجالنا العربي، الذي حوّل كلّ نظر ميتافيزقي إلى إنشاء أجوف لا يخاطب لا المخيلة ولا العقل. ومع ذلك هناك الكثير من حسن النية التي يتحلّى بها بعض العلماء من طينة د.مهدي كلشني.
في هذه المحاولة لا أريد أن أخوض في وصف وتحليل محاولات مهدي كلشني التي تتطلّب وحدها وقفة تأمّل قصوى. فرجل عارف بمعضلة العلم الطبيعي كما هو ملمّ بأسئلة اللاهوت والثيوزوفيا، سيدرك لا محالة مهامه وتحدياته.

لكن د. مهدي كلشني سبق وأعد عملا مهمّا يتعلّق بطرح ثمانية أسئلة على عدد غفير من علماء الأديان التوحيدية بخصوص العلاقة بين العلم والدين، بلغ عدد الذين أجابوا عن تلك الأسئلة، اثنان وستون(62) عالما من شتى بقاع العالم، ومعظمهم من أوربا وأمريكا. الإجابات التي كانت مثمرة وحيوية، والتي ضمّنها عملا مستقلا بعنوان حوارات العلم والدين، فتحت أفقا كبيرا للدفع بهذه المفاوضة بين العلم والدين إلى مستويات متقدمة تلامس الأسس والمنهجية والمفاهيم والفرضية والآفاق، ارتقاء بالفهمين الديني والعلمي لإطلاق سراح العقل المعاصر من سوء الفهم الكبير.

باتت أسئلة مهدي كلشني أشبه ما تكون بحكاية أبي العلاء المعري، ذلك بأنه دخل يوما أحد الجوامع ببغداد، وعثر في رجل كان نائما، وكان أبو العلاء المعري رجلا ضريرا، فقام النائم مستنفرا وقال: من هذا الكلب؟ فما كان أسرع من أبي العلاء ليجيبه: الكلب من لا يعرف للكلب سبعين إسما. وعلى إثرها كتب جلال الدين السيوطي كتابا تحت عنوان: “التّبري من معرة المعرّي”، وفيه حاول أن يحصي ستين إسما للكلب، وهي عبارة عن أرجوزة ابتدأها جلال الدين السيوطي بالقول:
لله حمد دائم الولي+++ثم صلاته على النبيّ
قد نقل الثقات عن أبي العلا+++لما أتى للمرتضى ودخلا
قال له شخص به قد عثرا+++من ذلك الكلب الذي ما أبصرا
فقال في جوابه قولا جلي+++ معبرا لذلك المجهل
الكلب من لم يدر من أسمائه+++سبعين موميا إلى علائه
وقد تتبعت دواوين اللغة+++لعلني أجمع من ذا مبلغه
فجئت منها عددا كثيرا+++وارتجي فيما بقي تيسيرا
وقد نظمت ذاك في هذا الرجز+++ليستفيدها الذي عنها عجز
فسمه هديت بالتبري+++يا صاح من معرة المعري
من ذلك الباقع ثم الوازع+++والكلب والأبقع ثم الزارع
والخيطل السخام ثم الأسد+++والعُربج العجوز ثم الأعقد
والأعنق الدرباس والعملس+++ القطرب الفرني ثم الفلحس
إلى آخر الأرجوزة.

ورأيت أن أجيب قدر الوسع عن تلك الأسئلة، لأتبرّى من معرة كلشني بخصوص الأسئلة الثمانية، لأنّها مفاتيح تمكننا من تأمّل الإشكالية خارج المنطق الذي أُديرت به تلك الأزمة في سياق النظرات السلفية لمفهوم إسلامية المعرفة. ذلك، لأنّ التراث العربي والإسلامي حافل بمواقف غير تقدمية وغير عقلانية، سرعان ما اكتسبت الغلب الكافي لإقحام إشكاليات العلم المعاصر دون أن تكون قد حسمت في المعقول التراثي نفسه. قلت: رحم الله امرئا لم يخرج من ربقة استبعاد العقل من مصادر التشريع أو تلكّأ تاريخيا في القبول بالمستقلاّت العقلية، ورفض التحسين والتقبيح الذاتيين والعقليين كلاميا، وعارض الحجية الذاتية للقطع أصوليا، وجعل الأمية أفقا للمقاصد شرعيا، ورفض المنطق أو التعمق في العلوم، ثم ينبري لبحث هذه العلاقة في الأزمنة الحديثة.

ومثل هذا الاشتباه قد تعززه العناوين المشتركة التي توحي بوحدة الفهم والرؤية ، ولكن هيهات، فدون ذلك خلط القتاد. وأما الجواب على تلك الأسئلة، فهي تأتي هنا اختصارا، وتُباعا بحسب ترتيب د. مهدي كلشني، وذلك بعد ذكر مقدمة وبعض الملاحظات:
إنّ الجواب يستحضر جوهر المشكلة التي لا زالت تحكم تلك العلاقة، كما أنّها ستكون إجابات تحيل على أسس نظرية تُطلب في مظانها وسأحيل على ذلك، ثم لا بدّ من التذكير بأنّها ستكون جوابات تستقل ببعض مفاهيمها، لذا وجب التعاطي معها بتأنّي وروية، لا بخفّة وعجلة، وسأجيب على تلك الأسئلة كالتالي:

1-ما هو تعريفك للدين والعلم؟

وبقدر ما يبدو هذا السؤال بسيطا، وأحيانا بديهيا، يمكن أن يتوسّل فيه المجيب بالمعاجم المتداولة والأفهام المتسلطة على مداخل الفهوم، إلاّ أنّه سؤال بالغ التعقيد. والسبب في ذلك، أنّه يحمل في أحشائه إشكالية التعريف، خصوصا وأنّنا افتقدنا مقومين أساسيين للتعريف المنطقي للعلم والدين بسبب قوة التّعيُّنات والانقلابات في المفاهيم، وسلطة العنايات والشروط التي تفرض بعضا من تلك التحولات في التعريف، أقصد افتقاد الجامعية والمانعية التي تعزّز الأرضية المنطقية للتعريف. فالدين والعلم، كلاهما تعرّضا لتعريفات متناقضة بسبب استدخال مقاصدهما وموضوعاتهما. إن شئنا على سبيل المثال التعريف بحسب الموضوع، فسنواجه اختلافا وتنابذا، لأنّ بعض موضوعات المعرفة هي في منظور ممتهني العلم، أجنبية، لا تدخل في العوارض الذاتية لموضوع المعرفة الدينية. وسيكون الإشكال واردا على العلم نفسه.

إن أزمة التعريف نابعة من الشروط التاريخية والاجتماعية التي انتهت بصياغة ذهنية جديدة، على أساسها بات تعريف العلم، الذي نقصد به العلم التجريبي والطبيعي يحظى بفهم مختلف. وهذا الأمر له علاقة بسياق تاريخي من الصراع بين العلماء ورجال الدين في أوربا. وأعتقد أنّ إعادة تأريخ هذه المرحلة كفيل بنفض هذا الميراث الثقيل من القطيعة، ذلك لأنّ هذا الشرخ لم يظهر بصورة أعقد سوى في القرون المتأخرة عن النهضة، حيث ظل العلم نفسه جزء من برامج العلوم الدينية التي تدرس في الكنائس.

ولم يكن العلم الطبيعي هو الوحيد الذي رامت حركة الأنوار استبعاده، بل تمّ استبعاد الشعر والخيال من العلم، تمهيدا للذروة التي ستجعل العلم وضعيا بحسب التصنيف الذي ذهب إليه أوجست كونت في قانون الحالات الثلاث. لقد استقل العلم الطبيعي وفق مناهجه بعالم المعرفة، فلا معرفة إلاّ ما يتيحه العلم بالمعنى الذي آل إليه في القرن السابع عشر والثامن عشر. وهو الفهم الذي سيصيب الميتافيزقا بالجمود، ويزيد الشرخ بين العلم وسائر المعارف الأخرى وليس فقط الدين.

ومن هنا، فإن محاولة تعريف الدين أو العلم بالطريقة الثورية التي تخرق تلك الأطر التقليدية لعصر التنوير الذي تجاوزته الحركة النقدية الغربية وأيضا فلسفة العلم التي أدركت خطورة هذا المفهوم الجامد لمناهج البحث العلمي، يتطلّب الخروج من ضائقة هذا التحكم بمسارات ومصائر العلم والإنسان. فلقد ارتدّ العلم، ولعله فعل ذلك وفق نوع من المفارقة، لكي يفرض تعريفا باراديغميا غير قابل للتغيير. ومن هنا، فإنّ تعريف العلم بصورة محصورة وعقيمة لم تتغير، على الرغم من تغير النماذج عبر ما يسميه طوماس كون بالثورات العلمية. لا زلنا نخشى اختراق باراديم التعريف، لأنّنا لم نحرر العلم من سطوة التعريف الكلاسيكي-الحديث؛ بتعبير آخر، أنّ الأنوار باتت لها أطوار كلاسيكية ومحدثة، فالعلم بات اليوم يستجدي الاقتراب من لحظات يسميها البعض برومانسية العلم، بمعنى المصالحة التاريخية التي لا زالت خجولة والتي حرمت العلم المعاصر من الشجاعة اللازمة رغم كل ادعاءاته. ويمدنا النظام التربوي والتعليمي بالكثير من معيقات هذا الاختراق. إن الفوضوية التي رفع عقيرتها فيرابند، هي لحظة ثورية هدفها كسر أصنام العلم وأطره المانعة من انسياح سائر الملكات التي تعزز من خصوبة العلم نفسه، والمصالحة مع الشعر والفلسفة والدين بل وحتى الأسطورة. لم تكن دعوة فيرابند ضدّ المنهج، بل ضدّ الحصر المنهجي، وإطلاق الطاقات العلمية الخارقة، والانفتاح على كل ما استبعدته برامج العلم.

إنّ العلم اليوم صناعة، وفي نظري أن الصناعة ليست هي الابتكار، بل هي تحويل الابتكار إلى قوالب لتكرار التجربة. والابتكار مدين لما تتيحه اللحظات الحميمة خارج برنامج العلم نفسه، عبر التواصل غير المعلن والسري بمدارك الفرضية، التي نحن مدينون لها في مجالات أخرى خارج رقابة العلم. مفهوم العقل الأداتي المبرمج والعلم المحصور عاجزان عن مدّ العلم بالفرضية. وأعتقد أنّ الفرضية هي نقطة ارتكاز العلاقة بين العلم والدين.

وحتى لا أذهب بعيدا في التحليل، سأخلص إلى تعريف العلم بوصفه حمال ذو وجهين: وجه تعارف عليه المجتمع العلمي، حيث يحصر العلم في العلم الطبيعي والرياضيات وما شابه، ويستقل به عن كلّ المجالات الأخرى. ووجه آخر مستبعد، هو ما نرومه، وهو وحدة العلم وتعدد شروطه. إنّ وضع شروخ بين علم وآخر، لا يسمح بالانتقال من أحياز الأطر العلمية الطبيعية والمناهجية إلى تعزيز اللحظة الأنطولوجية. وفي تقديري أنّ العبر-مناهجية تملك القدرة الكافية لكسر هذه الأطر وتجسير الفجوة بين الإبستيمولوجي والأنطولوجي، على قاعدة الانقلاب في المفاهيم والوظائف والمهام.

العلم بما هو وجدان، يتنوع بشروطه وأطره، ولكنه يهدف إلى تحقيق رغبة أنطولوجية قوامها المعرفة. الوسائل والمناهج والأطر ما هي إلاّ وسائل يفرضها الوضع الطبيعي والتجريبي للعلم بالمجال الذي يتنزل، رغم تعقيداته، منزلة أدنى ضمن جُماع المراتب التي بها جميعا تتقوم غايات الإنسان، بوصفه متعدد المدارك والملكات والآفاق. تقتضي الأزمة الميتافيزقية التي باتت أكثر تعقيدا منذ نيتشه ووصولا إلى هيدغر أن نعيد صياغة مفهوم العلم، وتحقيق الثورة الميتافيزقية الكبرى، التي من أهم تداعياتها بل وشروطها، تغيير الأسس والغايات العلمية نفسها.

العلم إن كنا نقصد به العلم الطبيعي فهو نفسه، وبسبب استقلاله عن ملكات الإنسان الأخرى، يعيش حالة حصر منهجي كبير. ومن هنا يصعب أن أتحدث عن علاقة بين العلم والدين، لأنّ المطلوب أن يكون الإنسان بوصفها الحاكم على الفهمين والمنتفع منهما أن يحدد الأرضية المشتركة، والتي في نظري تنطلق من حاجات الإنسان الأنطولوجية التي تجعل من العلم والدين كلاهما أدوات لتحقيق أغراض الأنوسة الأنطولوجية؛ فالعلم والدين كلاهما أداتان.

في الوضعية الراهنة أمكننا القول من باب الجري العملي ليس إلاّ لما هو راسخ في التداول، أنّ العلم هو برنامج بحث(انظر لاكاتوس) أو مقاولة(انظر فيرابند) أو مهمة دحضية مستدامة(كارل بوبر). إنّه معرفة تتوسل مناهج معروفة وتستند إلى التجربة، وتعتمد الاستقراء. بينما الدّين هو تعاليم وحيانية تؤطّر الوجود والمصير، وخطاب إرشادي للخير، ووصل يجعل المتداني مؤطرا ومراقبا بالمتعالي.

يعاند العلم أو بالأحرى العلماء الذي سيجعلون من هذا المجتمع قبيلة مغلقة ذات عصبية شديدة، لكن ثمّة قرصنة غير معلنة خارج دائرة برامج البحث العلمي، تستعين بالشعر والروح والأسطورة، لإضفاء الخصوبة على العلم، لأنّه من دون هذه القرصنة يستحيل قيام العلم.

وقد لاحظ د. مهدي كلشني في خاتمة الكتاب، بأنّ التعريفات التي أعطيت للعلم والدين من قبل المستجوبين، تكاد تكون مشتركة. لكن وجب التذكير بأنّه اشتراك في عينة تنتمي إلى المجال الإشكالي نفسه، وتهدف إلى تقريب العلم من الدين. لكنني لاحظت أنّ التعريف للعلم تقيد بالمعايير نفسها، وهو في نظري، تعريف تاريخي للعلم، يعزّز الإثنينية، ويبحث عن التوافق في ما هو ممكن ومتاح، بعد توزيع المهم: ما للعلم للعلم وما للدين للدين، وهو في نظري يؤكد بأنّنا لا زلنا في محاولة البحث عن جسور ممكنة لمجالين يحرس تدابرهما التعريف، ويرتهنان لشروط التعريف التاريخية. إنّنا لا نستحضر الأرضية الأنطولوجية التي تجعل كل شيء في مدارك وتجارب الإنسان متكاملا، فالشرخ الأنطولوجي يغذّي كما يتغذّى على هذا التدابر. إنّ أزمة العلم والدين في نظري هي أزمة الشّرخ التاريخي بين الإبستيمولوجي والأنطولوجي، شرخ لم تظهر أعطابه إلاّ على مراحل وتباعا منتصف القرن العشرين، وإن كانت إرهاصات الأزمة ظهرت قبل ذلك بشكل محدود.

نعم هناك تنويعات خصبة في تلك الأجوبة، وربما يعود الأمر إلى أن بعضهم كانوا متترسين بفلسفة العلم، مثل العالم البريطاني جون هدلي بروك(1944)، والذي أشار بدوره إلى معضلة تاريخ العلم والدين، وإشكالية التعريف. سنجد من جهة أخرى العالم الفزيائي الروسي آندري غريب(1932)، يعتبر العلم سعيا منهجيا خطوة خطوة إلى معرفة العالم. وهذا التعريف على أهميته ليس مانعا، أنّ كل أشكال العلم غير الطبيعي هي سعي منهجي خطوة خطوة. فإن قلت أنّ المعرفة غير العلمية قد تأخذ بالقفزات، والحقائق غير المبرهنة، فإنّ مسيرة العلم ليست خطوة خطوة، فما بين الفرضية والبرهان قفزة حدسية، وما بين خطوة وخطوة قفزات من الجنس نفسه، لما سبق وعالجناه من أن الحدس هو الإسمنت المسلح الرابط بين مقدمات العلم والاستنتاج. وحتى نكون منصفين، فالعلم بهذا المعنى يقتصر على ما هو موضوعي قابل للتكميم والقياس، وهذه في حدّ ذاتها تعاريف مبهمة، حين نستحضر النقاش حول مفهوم الموضوعية، والمفاهيم اللاّقياسية، ولا نهائية الواقع، وتعقد الظاهرة الطبيعية وما شابه.

2- هل ترى أي تنازع بين تعريفك لهذين المفهومين؟

التعارض هو نفسه مفهوم، ووجب أن ندرك وجوه هذا التعارض بمنطق التقابل المنطقي الكلاسيكي؛ فهل هما متناقضان أو ضدان أو متضايفان أم ملكة وعدمها. والواقع أنّ ما نعيشه اليوم في شروطنا التاريخية يذكي هذا النوع من الفصام، لأنّ هناك ديّانة علموية أقصت ملكات الإنسان الأخرى غير القابلة للتكميم. ولو بحثنا مليّا في العناصر الرومانسية والشعرية في الرياضيات وحتى الفيزياء، لأدركنا بساطة هذا التنازع. حين يمسك الإنسان بوحدته الجوهرية وتعدد فرص مراتبيته، سيدرك أنّ الحاجة لكل تلك الملكات هو ضروري، ويصبح العلم جزء فقط من هذه الإلحاحية، لكنه ليس كلّها.

يمكن للإنسان أن يعيش على سبيل التدين فحسب بغضّ النّظر عن الفهم المتاح لهذا الدين، ويمكنه أن يعيش على سبيل العلم فحسب، بحسب الفهم الذي يخلعه على العلم، لكنّنا ندرك أنّ الإنسان أمام الظواهر الطبيعية والروحية يكرر أخطاء الفهم، ويختار الطريق الوحيد ببساطة، غافلا عن أنه كائن مركّب التكوين.

إنّ معضلة الأيديولوجية تلعب دورا في هذا الاستبعاد. حين تصبح الأيديولوجيا موقفا مفصولا عن التجديد المعرفي، وحين تقدم فهما للعلم أو فهما للدين يعزز القطيعة. هنا نصبح أمام معضلة الإرادة. فما يريده العلموي نقيض لما يريده الدِّينويّ(بكسر الدال). وأقصد بالدّينوي أيضا من يجعل من الفهم الديني المناهض للعلم طريقا وحيدا للمعرفة، مقصيا العقل والوجدان والقطع من دائرة المعارف الممكنة.

في ما يعنني لا أجد فيصلا جوهريا بين التعريفين سوى البعد التكاملي للمعرفة الذي يرتبط بوحدة الإنسان وإمكانياته، نظرا لم يتيحه تعريفي للإنسان من الوصل بين ملكاته وتكاملها، أعني الكائن الذي يملك قدرة فائقة واستثنائية على التخارج النوعي. الإمكانية التي تجعله يتحرك في مدى أوسع من أدنى المدارك إلى أقصاها. التخارج النوعي لكائن قد يفقد ماهيته، ولكنه أيضا يقبل أن يكون على قدر مضاعف من ماهيته، أي إنسان أقل أو أكثر إنسانية، خلافا لما لا ينبغي قوله: حيوان أقل أو أكثر حيوانية.

إن أدركنا أن هذا الكائن متعدد المدارك ومختلف المسالك، سندرك أنّ الاشتراطات التي تميز مجالا عن آخر، كتمييز العلم عن الدين في الاشتراط والوظيفة والأدوات، هي مجالات متكاملة ومتصالحة برسم كائن متعدد الملكات. إنّ الدين هو وصل بين بُعدين، يكون فيهما العلم مطية لرفع الستار عن جمال الطبيعة وجلالها، وهو مرتكز يستعمله الدين لتحقيق مفهوم العناية والكمال والإبداع.

3- أين تعتقد أنه يمكن حدوث تنازع بين المفهومين؟

إذا تمسكنا بالشروط نفسها التي يقوم عليها تعريف العلم والدين خلال القرون الأخيرة، فسنجدنا أمام تنازع بنيوي. لأنّ التعريف الذي سلك على دربه العلماء، تعريف يحمل في طياته استبعاد الدين من مجال العلم. سيحصل صدام عنيف، ومثل هذا الصدام نجده بين دين وآخر، بين فهم ديني وآخر، كما سيحدث صدام بين علم وآخر. ثمة مهام أساسية أمام برامج البحث العلمي، وهو تهذيب المفاهيم، ولا أقول بالضرورة ضمان حياديتها، لأنّ الحياد خدعة قديمة ابتلي بها العلم. لا بدّ من مراقبة سيرورة الأيديولوجيا، فهي سواء تلبّست بالدين أو تلبّست بالعلم، فهي بطبيعتها نافية، صراعية، غير تفاوضية.

4_ ما هي الأرضية التي يقوم عليها النزاع بين العلم والدين؟

إنه غياب الإرادة التاريخية والأيديولوجية للمصالحة، وهذا قد ازداد مع بروز تأويلات قابلة للمراجعة. لعل أولاها، أنّ الدين يتناقض مع العلم، لوجود قراءات تتعلق بالتطور مقابل الخلق كما فجرته الداروينية. وكان في المقابل أن برزت محاولات من داخل المجتمع الغربي (موريس بوكاي مثالا) ثم استمر تأثيرها في العالم الإسلامي، في سياق ما سيعرف بالإعجاز العلمي في القرآن. ولا شكّ أن القرآن هو كتاب إرشاد وهداية للتي هي أقوم، أي السبيل الأنجع إلى الخير الأقصى، وليس كتابا للعلوم الطبيعية، لكن كتابا وحيانيا لا يمكن أن يكون نقيضا لنتائج العلم. غير أنّ المعضلة التي واجهت هؤلاء هي : هل نتائج العلوم الطبيعية تامّة غير قابلة للتغيير؟

ليس مطلوبا أن نستخرج من القرآن أو أي كتاب مقدس نظرية علمية، بل يمكن في الحدّ الأدنى تأويل النّص وتقريبه من نتائج العلوم وفق آليات التأويل المقرّرة، والتي ليس هاهنا مجال بسطها. لكن يمكن من النص الديني أن نستلهم الفرضيات الكبرى.

حين يستهين أهل الدين بنتائج العلم، وحين يستهين العلماء بحقائق الدين، يحصل التصادم. فالدين أرشد إلى تأمّل الطبيعة وتدبّر الظواهر، والانطلاق منها ومن الأنفس لإدراك النسق الميتافيزقي نفسه وتحديد مكانة الإنسان في عالم مُسخّر لخدمته.

يمتح الصدام بين العلم والدين من تلك اللحظة التاريخية المحكومة بالقطيعة التي اكتسبت لها بعدا تماميا لا رجعة فيه. لكن حين ندرك أنّ الفهم الديني كالفهم العلمي يتطوّر أكثر، يمكن تجاوز هذه القطيعة التاريخية، حتى أنّه لا يمكنها أن تصبح موضع بجاحة للعلم نفسه. لكن مثل هذا التجاوز يطرح تحديات ورهانات حول طبيعة الفهم الديني والفهم العلمي. يجب تغيير الكثير من شروط الفهم هنا وهناك لتحقيق اختراق في صلب هذا النزاع.

5- ما هو دور الدّين في تطور العلم بالغرب؟

وجب التذكير، بأنّ الثورات العلمية أتت تُباعا في الغرب منذ عصر النهضة، وأنّ معظم النظريات العلمية خرجت من داخل العلم الغربي لما كان جزء من برامج التعليم الكنسي. وأنّ أبطال هذا التّمرّد كانوا هم رجالات وآباء الكنيسة من أمثال كوبرنيك. لقد كان الدين محفّزا لهؤلاء، لأنّهم كانوا أكثر من غيرهم تأثّرا بخطاب الكتاب المقدس حول جلال الخلق، والتحفيز إلى التأمّل والنظر. غير أنّ المعضلة الحقيقية لم تكن تدور حول العلم إن شئنا التدقيق أكثر، بل حول الوظيفة السياسية والاجتماعية للكنيسة. لقد بدأت الحكاية من هناك، وانتهت إلى العلم الذي استعمل ضدّ الكنيسة نفسها.

إن التحالف التاريخي بين الكنيسة والفيودال، انتهى بإقصاء الحليفين معا لصالح المظاهر الأولى للأرستقراطية ومن ثمّة البورجوازية، وبات شعار دع ما لقيصر لقيصر وما لله لله، أكثر من عنوان تحديد الصلاحيات، بل لقد سُلّم ما لله نفسه لقيصر مع تمادي الثورة المعكوسة. لكن هذا لم يحجب مظاهر التأثير الديني التي باتت موضوعا لأبحاث كثيرة، سواء في العلوم الطبيعية أو علوم الإنسان. نشير هنا إلى دور الدين في بروز أفكار ثورية في مجال الميتافيزقا، يمكن أن نتأمّل خطاب المنهج الديكارتي الذي يعتبر مبادرة لإنقاذ وضع الكنيسة كما في ديباجة ديكارت في التّمّلات، ويمكن رصد ذلك التأثير حتى الكانطية بل الهيغلية وصولا إلى هيدغر. ولو تأملنا قليلا عبارة بول تيليش، فقد قدم نيتشه –الذي مثل ذروة الثورة على اللاهوت- خدمات كبيرة للاّهوت. وسنجد ملامح ذلك مع ماكس ويبر ودور البروتستانتية في نشأة وتطور الرأسمالية.

إنّ قراءة تفكيكية لمسار الحداثة وما بعدها سيدرك ما الذي قدمه الدين للعلم في أوربا نفسها. هذه القراءة تصل حدّ تفكيك الأبعاد الشعرية نفسها للعلم كما سنجد تقريبا لها لدى غاستون باشلار.

ازدهرت العلوم والفنون في ظلّ الكنيسة، وتطورت مع حركة الإصلاح الديني، وذلك لأنّ موضوع الطبيعة كان هو المدخل الأساسي للتعريف بالله، وبأنّ الدليل الكوسمولوجي ظلّ مهيمنا حتى كانط. لدينا مثال فقط حول الثورة الكوبرنيكية التي قادها رجل من داخل الكنيسة، وهي في نظري تتعلّق بخلفيات سياسية أيضا وصراع التأويل، لأنّ إحداث انقلاب في النظام البطليموسي الموروث عن اليونان كان مفاجئا، والباراديم التقليدي لم يكن قد استنفذ أغراضه على صعيد التفسير؛ فالثورة الكوبرنيكية ليست فقط فيما ذهب إليه فرويد تشكل جرحا نرجيسيا مفتاحيا لأنها أسقطت محورية الأرض، بل يمكننا القول بأنّ إسقاط النظام البطليموسي ستكون له تداعيات على النظام العام يومئذ. وأمّا قضية الجرح النرجيسي ذاك الذي تناوله فرويد في مقاله حول الصعوبات التي تكتنف التحليل النفسي، فهي عملية تتأكد عند أي اكتشاف جديد. ربما لو أحصينا تلك الجروج، فسنتحدث عن التحليل النفسي الفرويدي والمثالية النقدية الكانطية، وهي متأخرة عن عصر النهضة.

في المجال العربي والإسلامي يصعب الحديث بالمستوى نفسه من الدرجة، لأنّ العالم الإسلامي الوسيط كان منبعا للعلم، بل تجاوز الأثر الميثولوجي الموروث عن الأفلاطونية باقترابه أكثر من مجال الطبيعة والتجريب. كان من قبيل البديهة إعلان اختراق الفضاء، واعتبار العلم طريقا للإيمان، وفي العصر الحديث تراجع الابتكار في العالم الإسلامي ولم يعد هذا المجال منتجا للعلم بقدر ما ظل مستهلكا لمنجزاته في دورة العلم الكوني. غير أنّ المجال الإسلامي شهد بروز محاولات للتفرد ببحث هذه العلاقة التي لم تكن في حاجة إلى إقناع، بل هي في صميم قناعات النّاس. كتب وحيد الدين خان: الإسلام يتحدى، وكان ذلك محاولة لجعل العلم مدخلا للإيمان، وكتب كثيرون من أمثال السيد جمال الدين الأفغاني(الرد على الدهريين) وتلامذته بما يعزز تلك العلاقة التي بدت بديهية حتى في عصر الانحطاط، ظهر التفسير العلمي مع الطنطاوي، في العالم العربي وقبل عشرات السنين اهتم لفيف من الباحثين والعلماء بقضية العلاقة بين العلم والإيمان: في الطبيعة د.أحمد زكي(مع الله في السماء+ مع الله في الأرض)، في الخيال العلمي د. مصطفى محمود(الله والإنسان+ العنكبوت-رواية- رجل تحت الصفر –رواية-)، د. محمد راتب النابولسي(موسوعة العلوم)، د.خالص جلبي(الطب محراب الإيمان)، د. زغلول النجار(من آيات الإعجاز العلمي في القرآن) د. ادريس خرشاف(فاعلية التنقيب العقلاني عن معجزات القرآن الكريم)…

وقد كان الغالب عليها الطابع الدعوي على الرغم من أنّها توسلت بالبيانات والحقائق العلمية، وعلى الرغم من أنه يباشرها علماء من اختصاصات علمية دقيقة، ذلك لأنّها لم تخض في معضلة فلسفة العلم بقدر ما جاءت لتجيب على معضلة الشرخ بين العلم والإيمان. فالحديث عن الإعجاز العلمي على أهميته لا يكفي للاضطلاع بإشكالية العلم واللاّهوت، لأنّها قضية شائكة تقتضي تحليلا كافيا لتاريخ الأفكار وتاريخ العلم، وتحليل النظريات وبنية الثورات العلمية، وجب أن يصبح ذلك أو يُعالج في سياق فلسفة العلم نفسها، والخروج من دعوى الإعجاز إلى دعوى الإنجاز.

6- هل يمكن أن يكون لنا علم ديني؟

في بحث مشكلة العلاقة بين العلم والإيمان، وجب تحديد الإشكالية؛ إنها إشكالية العلاقة لا إشكالية أن يكون هناك علم ديني. فالدين علاقة خاصة مع العالم تقوم على ربط المتعالي بالمتداني في منظومة اعتقادية. الدين عبارة عن ميثاق، وهو حالة ائتمانية إذا شئنا الذهاب مع وليام جيمس. لكن مع انطلاق تلك التعاليم في التّاريخ يمكننا الحديث عن علم ديني لتحقيق الفهم الأمثل لتعاليمه بما يخدم تلك العلاقة. لكن العلم لا يمكن أن يكون إلاّ علما.
وكان مشروع إسلامية المعرفة قد عزز من سوء الفهم الكبير، لا سيما في المجال العربي حيث للعبارة والمشتغلين عليها سمة ومزاعم غير واضحة، حيث فُهم منه الكثيرون أنّ الأمر يتعلق باختزال العلم في أديان مختلفة. أمام سوء الفهم هذا كان يفترض أن تنطلق الفكرة من تحديد متين لفلسفة إسلامية المعرفة، حيث كنت آمل أن تسمّى حركة تهذيب فلسفة العلوم، لتحرير تلك العلاقة وتحقيق المصالحة بين العلم والإيمان. هناك حركة استدراكية لربط العلم بمدارك وتعاليم حاثّة على البحث والنظر والعلم. العلم في ذاته كما يقولون لا يقول أكثر مما يكتشف، لكن في الحقيقة العلم يقول أكثر من مجرد الاكتشاف وما يتيحه الاستقراء والاستنتاج في حدود التجريب، بل هو يقول أشياء هي محور النزاع اليوم، إنّه صراع حول ما يقوله العلم بالدلالة الإلتزامية. فالسؤال المطروح: إن كان الإيمان قضية إنسانية، فهي تجتاح كل ملكاته ولا تخاصمها، بل تتكامل مع حاجياته المعنوية والمادية، فالمصالحة بين العلم والإيمان هي شرط أساسي لتحقيق وحدة وكمالات الإنسان.

7- هل يستغني العلم عن الدين؟

يمكننا أن نتصور مظاهر هذا الاستقلال، لكننا لا نستطيع تصور الإختلالات الأنطولوجية لهذا الاستغناء، باعتبار أنّ العلم يجري في فضاء يتيح لك برسم العقل الأداتي أن تتعاطاه ميكانيكيا، لكنه يوقفك أمام غموض وعماء اللحظة الميتافيزيقية والأنطولوجية. وهذا ما يشكل حافزا لإعادة ربط العلاقة بين العلم والإيمان. إنّ في مجمل أبعاد الإنسان، لا شيء يجب أن يستغني عن الآخر نظرا لتعقد ماهيته. الاستغناء هو خلق كائن وحيد الاتجاه.
من ناحية أخرى، فإنّ قضية الإيمان تتيح أفقا أساسيا للعلم نفسه، من حيث كلما اتسعت مدارك ما هو خارج شروط وقواعد العلم والاختصاص، تتسع فرص الافتراض. فالفرضية تتراجع مع تضييق دائرة العلم. في صلب كل افتراض موقف إيماني يعجز العالم نفسه أن يفسره، مما يعني أنّ عملية الاستغناء مضرة بالعلم، كما أن سوء الفهم والتمثل الديني قد تضرّ بالعلم والإيمان معا. إنّنا لا نخوض في دراسة ظاهرة طبيعية خارج تصور مسبق يتحكم في وعي وضمير العالم. ثم لا يمكن تحريم شرب الماء كما قال ابن رشد لأن أحد شرق منه.

8_ هل يمكن فصل مجالات نشاط العلم عن الدين تماما؟

بناء على ما سبق لا يمكننا الحديث عن فصل تام. يحضر الإيمان بما فيه اعتقادات الطفولة في ذهن العالم. فالتجريد ليس تامّا، وما يسمى بالموضوعية، ليس تامّا، هناك حضور خفيف أو ثقيل للدين باعتباره رؤية عامّة. الدين أوسع مما يعتقد معظم الباحثين، فحين يقول القرآن محفّزا النبّي:(لكم دينكم ولي دين)، فالقصة تصبح دينا في مواجهة آخر، فهو ما يعكس التصور الفلسفي العام.

إنّ ما نصادفه من أنواع الفصل التمامي بين الأمرين له علاقة بدين العلموية، تلك التي لها نظائر في التراث في المذاهب الدهرانية، موقف قديم زادته وفرة الابتكارات حدّة. إنه في نهاية المطاف ليس نزاعا بين الدين والعلم، بل هو نزاع بين الأديان، ويمكن معالجته في إطار حوار الأديان، بين دين يسعى للتعالي بالمتداني وبين دين ساينطولوجي يسعى لتحديد مهامه في المتداني وفصله عما يعتبره أوهام المتعالي. يستطيع الإنسان أن يعيش من دون ابتكار علمي، لكنه لن يعيش من دون دين وفلسفة عامّة وتصور للنفس والحياة والعالم.

https://anbaaexpress.ma/vui4u

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى