آراء

الإنجاب عند البشر بين الرغبة الذاتية والعوامل الخارجية

ثمة رؤى مُشتركة بين العديد من الأديان ومُختلف المذاهب أن الإنجاب حالة بشرية طبيعية مُتمثلة في رغبة ذاتية لتكوين الأسرة، فيما أصحاب المعتقدات الدينية كما هو الحال عند المسلمين يعتقدون أن الإنجاب دوافعه دينية أكثر من أي أسباب أخرى.

وقد ورد عن النبي محمد ”تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة”. وفي القرآن في سورة البقرة آية ١٨٧{فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ }، وكذلك عند أتباع الدين المسيحي كما جاء في كتاب “شريعة الزوجة الواحدة في المسيحية” أن أثيناغوراس وهو ناظر مدرسة الإسكندرية اللاهوتية يؤكد من وجهة نظر دينية أن الزواج هدفهُ النهائي هو الإنجاب”.

كل واحد منا ينظر إلى زوجته التي تزوجها حسب القوانين التي وضعت بواسطتنا، وهذه فقط لغرض إنجاب البنين. “وفي رسالة البابا يوحنا بولس الثاني “انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها”. ولا تختلف الديانة اليهودية عن الإسلام والمسيحية في التشجيع على الإنجاب.

وقد قال د. صديق خوجة خالد الأستاذ المحاضر في كلية العلوم الاجتماعية جامعة عبد الحميد بن باديس في مستغانم في بحثه (تنظم النسل في الديانات السماوية) ”إن الديانة اليهودية تعتبر أن الزواج بِمثابة واجب ديني لا بد من أدائه“. إلا أنه أضاف سببًا سياسيًا لليهودية ”تدعو الشعب اليهودي إلى التناسل والتكاثر، إذ يعتقدون أن العقم لعنة كبيرة من الله. وكان عدم الإنجاب من أسباب الطلاق في العصور القديمة. ومن هذا المنطلق يسعى اليهود في الأراضي المحتلة اليوم لزيادة عدد سكانها بشتى الطُرق“. وهذا السبب مفهوم طالما يوجد صراع من أجل إطالة بقاء الاحتلال في الأراضي الفلسطينية.

إذًا هو التشجيع المستمر على الزواج والإنجاب عبر المعتقدات الدينية التي يؤمن بها أتباع الأديان على اختلافها بِاعتبارها عوامل خارجية. وأما الدوافع الذاتية فسوف تأتي الإشارة إليها بصورة مُفصلة.

تبدو الدوافع الذاتية عند الإنسان أكثر تعقيدًا ابتداء من الجاذبية الطبيعية بين الجنسين، لا سيما في مقتبل عمر الشباب، الموروث الاجتماعي باعتباره الإنسان كائنًا اجتماعيًّا، الموارد الاقتصادية التي لا شك أن لها انعكاسات خطيرة على المجتمعات، التطور الصحي والطبي، كُلها تؤطر رغبة الإنجاب وتكوين الأسرة لِتجعل من تأثير الأديان على فكرة الإنجاب إما أن تُصبح على الهامش أو أن يتم إعادة الاعتبار لكل التحولات التي يمر فيها عالم اليوم في مختلف المجالات.

وهذا ما قد يُفسر أسباب كثرة الإنجاب في الأزمنة الماضية لأن العديد من الأطفال كانوا يلقُون حتفهم نتيجة ضعف الحالة الصحية، إضافة لعدم وجود علاجات للعديد من الأمراض المزمنة كمرض الجدري وما شابه.

وفي هذا العصر الحديث نجد بعض حكومات دول العالم أصدرت قرارات إلزامية لتحديد النسل بعدما كان أمرًا خاصًا بين الزوج والزوجة كما هو معمول به في الصين حيث يُسمح فقط بطِفلين، إلا أن الحكومة الصينية سمحت بوجود طفل ثالث وفق تقرير نُشر على موقع السي إن إن في شهر حزيران / يونيو من العام الماضي. إلا أن هذه التشريعات القانونية الصينية تُتَّهم أن الدافع وراءها يتمثل في القلق من التغيير الديموغرافي وارتفاع أعداد المسلمين وفق ما جاء في التقرير. وتوجه اتهامات للصين بالإبادة الجماعية ضد شعب الإيغور ذي الأغلبية المسلمة الذين يواجهون الاحتجاز في معسكرات خاصة، حيث تسببت الحملة القمعية في انخفاض المواليد في شينجيانغ بمقدار الثلث عام 2018. وأجد أن أدق توصيف لما تقوم به حكومة الصين وغيرها هو التدخلات في شأن خاص جدًا بين زوج وزوجة حيث لكل حالة ظروفها الخاصة ومعتقداتها في موضوع الإنجاب من عدمه.

وحينما نمعن النظر في موضوع الإنجاب عند اليهود المحتلين للأراضي الفلسطينية نرى تشابهًا في الدوافع والمنهجية للحكومة الصينية حيث كلاهما جعل من موضوع الإنجاب مسألة خاضعة للتجاذبات السياسية إلا أن الحالة في الكيان المؤقت المسمى ”إسرائيل” ليست فقط من أجل إطالة البقاء بل ليكون كل مولود جنديًّا مُجهزًا لقتل الشعب الفلسطيني أولًا والشعوب العربية ثانية إضافة إلى سرقة الأراضي الفلسطينية وغيرها من الأراضي العربية كما فعله في جنوب لبنان. وهذا ما يُفسر حالة الهلع عند غاي بخور المتخصص “الإسرائيلي” في الشؤون السورية واللبناني حينما تُنجب العديد من الفلسطينيات أطفالًا، وله تصريح يُنسب له نُشر في تقرير على موقع قناة الجزيرة في عام ٢٠١٦ ”علينا الفوز في حرب الأرحام مع الفلسطينيين وذلك من خلال مشروع وطني نجند فيه رجال الدين لرفع نسبة الإنجاب ردًا على التفوق العربي“.

في الاتجاه الآخر نجد أن البيئة الاجتماعية في جنوب لبنان تُشجع وتهتم في الإنجاب وترعاه ليصبح كل مولود رصاصة في المستقبل تنهي الاحتلال. تقول الشابة فاطمة نصّار في حوار مشترك على قناة المنار في ردها على بولا يعقوبيان: ”بلشنا نصنع مسيرات، طب هذا التصنيع من وين عم يجي ؟ هذا فكر مين؟ مش فكر الأمهات إللي خرجت وربت وطلعت أجيال ما بتخلي الإسرائيلي من ٢٠٠٦ يتعدى على أرضنا؟“. هنا نجد أن الإنجاب أخذ طابعًا تعبويًا ليس في الإطار العسكري فقط بل يشمل كافة مجالات الحياة للبيئة الحاضنة لحزب الله.

إلا أن المُلفت في الأمر أن الأديان هي الأخرى تتخذ موقفًا حادًا اتجاه هذا الإنجاب. ”تُقِرُّ الكنيسة بشرعيّة استخدامِ وسائل مَنع الحمل، عندما يُقصد منها العِلاج والشِفاء. لِأنَّ مَنع الحمل هُنا، غير متوخٍّ غايةً ووسيلةً” (بولس السادس، الحياة البشرية، عدد 15) مما يعني أن الإنجاب بلا تنظيم أو تحديد وكأن المرأة وظيفتها طوال حياتها هو الإنجاب، والسهر والتعب إلى ما لا نهاية. ولا يجوز عند بعض أتباع المسيحية أن يكون المنع غاية في ذاتهِ.

فيما بعض المسلمين يحدد مسألة السماح بعدم الإنجاب مع مراعاة الجانب الصحي إلا أن رجل الدين يُمارس دوره عبر الافتاء فيما إذا كانت الزوجة غير مسلمة ”استثنى الفقهاء بعض الحالات التي تسوغ عدم الإنجاب، ومنها الخوف على دين الأولاد، ويمكنك مطالعة هذه الحالات بالفتوى رقم 128947. فامتناعه عن الإنجاب لا يأثم به إن كان للغرض المذكور“. هذه الفتوى والتي يمتثل لها بعض المسلمين تأتي أيضًا في سياق فرض وصاية على الزوج والزوجة دون الاعتبار لخصوصية الموضوع من جهة ومن عدم اطلاع كل حالة على جهةٍ أخرى.

أعتقد من الضرورة أن يتم إنشاء مؤسسات أهلية مُتخصصة في كل بلد إذا لم تكن موجودة، وظيفتها الأولى القيام بدراسات مُعمقة حول مستقبل الإنجاب وما يحيط بِه من تحديات مُتعددة ولعل أهمها التحديات الأخلاقية ودور العوامل الذاتية والخارجية على حدٍّ سواء والتي تدفع نحو هذا الاتجاه من دون اعتبارات لمستقبل البشرية.

من الخير لنا نحن البشر أن نحمي إنسانية الإنسان على أن يزيد عدد سكان الأرض التي تمتلئ بالكثير من الخراب والدمار لوجود أقلية بشرية لا تحمل أيًّا من الصفات الإنسانية وكل ما يعنيها هو فرض السيطرة وزيادة المال في الأرصدة البنكية فيما الملايين من البشر في العالم يقفون على حافة الانهيار. انهيار يفترض أن يُمنع بكل السبل الممكنة قبل أن يزداد إنسان هذا العصر احتراقًا بسبب الفقر المعرفي والعلمي الذي يُشكل الركيزة للخروج من العديد من الكوارث وأهمها أن الإنجاب قبل أن يتم يجب أن تُفهم دوافعه والظروف التي تحيط بكل من الزوجة والزوج.

https://anbaaexpress.ma/g4q0t

هاني العبندي

كاتب صحفي سعودي مقيم في أمريكا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى