آراءثقافة

المؤرخ المصري الجبرتي وحملة نابليون

هكذا وصف المؤرخ البريطاني أيضاً ابن خلدون وعمله بأنه : ((أعظم عملٍ من نوعه أنتجه أي عقلٍ في أي زمانٍ أو مكانٍ. IT IS THE BEST WORK WHICH IS CREATED BY ANY MIND OR PLACE)  .   

جاء في كتاب عبد الرحمن الجبرتي دراسات وبحوث إشراف الدكتور أحمد عزت عبد الكريم ـ قسم عبد الرحمن الجبرتي للمؤرخ البريطاني توينبي:

(إن التجربة التي خاضها الجبرتي في جيله بمصر تشابه إلى حد بعيد تجربة أوربي مثلي كان عام 1914 في مستهل شبابه، وعاش ليعاين التدمير الدرامي الذي فاجأ نظاماً مستقراً ولم يقتصر الحال بالجبرتي على أن يعيش في خضم هذه التقلبات غير العادية فقد منح إدراك مغزاها وأوتي أيضاً المقدرة العلمية على تسجيلها بإحساس صادق يتيح لقاريء روايته للأحداث أن يتفاعل مع تجربته عاطفياً مثلما يتجاوب معه فكرياً) .  

 إن الجبرتي لم تستثيره المظاهر الاستعراضية لحملة نابليون أو الأشياء السطحية بل حاول أن يفهم هذا التغير الجديد للعالم من حوله أي روح الحضارة الجديد وطبيعة الزخم الذي تندفع به،  لذا فقد أعطى في مؤرخه ذو المجلدات الثلاثة مايزيد عن ثلاثين صفحة (لقضية التحقيق في محاكمة قاتل الجنرال الفرنسي كليبر) عن التحول الجديد في طبيعة التحقيق في الحوادث، والنظام القضائي البديع،  واستيفاء الوقائع،  واستنطاق الشهود،  وجمع الأدلة القضائية قبل إصدار الحكم. في الوقت الذي كان البشر في ظل حكم المماليك يقتلون على الشبهة، ويعتقلون على الكلمة، ويختفون من وجه الأرض على الظنة. كل ذلك في غياب مطبق لإي صور  من صور العدالة الحديثة، والقضاء الجديد، والمرافعات، وتعدد مستوى المحاكم، واستقلال القضاء ونزاهته إلى حد كبير؛ إذا قيس في تلك الظروف.  

 إذن الحضارة بكلمة أخرى هي ليست عملية شراء واستيراد وتكديس للأشياء بل هي في عمقها عملية بنيوية تركيبية علمية عقلانية قبل كل شيء.  هي تفاعل بين الإنسان والوقت والتراب،  هي إيجاد الشيء وصيانة الشيء  وتطوير الشيء. هي السيطرة على ماتنتجه الحضارة وإفرازها الدائم،  والاستعداد للتكيف مع التغيرات في ضوء العلاقة الجدلية بين الإنسان والفكرة والشيء. إن المنتجات الكمية والتقنيات المتطورة خلفها أخلاقيات عمل معينة وعقلية ذات توتر متميز وروح ذات نبض خاص.  

 أدرك المؤرخ الجبرتي هذه العلاقة المقدسة أو طرفاً منها على الأقل لذا وصفه المؤرخ البريطاني وهو يرى انهيار العالم القديم وتسارع وقع الأحداث بصاحب (السيكولوجية الشفافة) كتب يقول:

((كان الجبرتي يملك موهبة سيكولوجية بعيدة الشفافية مكنته من استيعاب حقيقة الدخلاء .. إن الجبرتي قد علم حقيقتهم جميعاً. وتجلت شفافيته السكولوجية في أعظم حالاتها في إدراكه نقاط القوة والضعف في سلوك الفرنسيين غزاة مصر ومن قبيل المثال فقد عمد الفرنسيون إلى التأثير على المصريين بإقامة معرض لمنجزات العلوم الأوربية. وقد زار الجبرتي هذا المعرض ولم يسثر اهتمامه ووصم المعروضات بأنها لعب أطفال للتأثير فينا، لكننا لن نخدع ببساطة. وعندما اغتيل القائد العام للقوات الفرنسية الذي خلف نابليون أقيمت للقاتل محاكمة عادلة قبل تنفيذ حكم الإعدام فيه. وشهد المحاكمة الجبرتي ـ المراقب المثابر ـ مثلما زار المعرض السالف الذكر. وقد أثرت فيه عدالة المحاكمة أيما تأثير،  إذ انتفت هاهنا الدعاية، فكانت أن بدت أمامه أسلوباً صافي النية للتصور الفرنسي الأصيل لإقرار العدل).   

  في العصر الذي كان يكتب فولتير مؤلفه الفلسفي،  وديدرو موسوعته وجان جاك روسو عن أصل العقد الاجتماعي وتربية الإنسان، وجان مسلييه تأملاته الفكرية الجريئة،  وإيمانويل كانت كتابه في نقد العقل الخالص، وفي الوقت الذي كانت حملة نابليون تؤدي دور الصفعة لعالم خرج عن خط التاريخ ودخل السبات الشتوي ليستيقظ من جديد.  

 استيقظ العالم العربي والعالم الإسلامي إذن على الصفعة الاستعمارية كما استيقظ اليابان في وقت متقارب،  ولكن القدر الذي سار فيه اليابان كان مختلفاً عن القدر الذي سارت فيه مصر والعالم العربي. ويبقى السؤال واللغز المحير لماذا وصلت اليابان إلى المستوى الذي يحدثنا عنه الكاتب الياباني المحدث (شينتارو إيشيهارا) في كتابه الذي بيع منه فور صدوره مليون نسخة (اليابان البلد الذي يستطيع أن يقول لأمريكا .. لا ) والذي نكاد نقول أنه يحمل العملاق الأمريكي على إحدى راحتيه،  والذي يكشف فيه النقاب عن حقيقة أنه ـ وبواسطة التفوق العلمي الياباني ـ حتى الترسانة النووية الأمريكية اليوم باتت معتمدة في تفوقها على (المكيكرو شيبس = رقائق الكممبيوتر) ، ومصر البلد الحالي الذي لو قطعت عنه أمريكا الخبز اليومي لمات جوعاً؟!. الغارق في الديون الخارجية،  العاجز عن حل مشاكله اليومية؟!.  

 إن خريف القرن الثامن عشر كان مجدداً فرصة رائعة للعالم الإسلامي لكي ينشط ويتجاوز الفرق التاريخي ويساهم في مسيرة الحضارة الإنسانية،  ولكنه أضاع الفرصة كما أضاع الأتراك فرصة خريف القرن السابع عشر.  

فلم يستطع العالم الإسلامي أن يركب الميكانيزم الحضاري كي تنطلق الحركة العقلية التي هي أساس كل نهضة حضارية.

https://anbaaexpress.ma/86bxs

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى