ثقافةدولي

في حوار مع الشاعرة اللبنانية ماري جليل

ملاك على هيئة رصاصة.. رحلة (الأنا) ما بين المكان والزمان

من المبدعات العربيات الرائدات اللواتي فرضن وجودهن بالمشهد الثقافي في بلاد الغربة.. هي شاعرة لبنانية مقيمة في كندا، درست اللغة العربية وآدابها في الجامعة اللبنانية ببيروت حيث حصلت على البكالوريوس بالاضافة الى دراستها في معهد الفنون الجميلة.

سافرت الى كندا لمتابعة دراستها وحصلت على ماجستير بالعلوم الاجتماعية والفلسفة من جامعة كيبيك في مونتريال بالإضافة الى تخصصها في علم السكسولوجيا.

شاركت بالعديد من الأبحاث الأكاديمية ضمن دراستها في جامعة كيبيك عن الاثنيات وإنخراطها في المجتمع الكندي.

عملت أيضا في الصحافة والإعلام وكانت من مؤسسي جريدة المستقبل وال Avenir الكندية بلغتيها العربية والفرنسية حيث نشرت الكثير من القصائد والمقالات، كذلك نظمت وشاركت في العديد من الندوات والنشاطات الثقافية في عدة ولايات كندية.

ضيفتنا لهذا الحوار حصريا وﻷول مرة هي الشاعرة والباحثة اللبنانية ماري جليل وذلك لتسليط الضوء على أولى إبداعاتها الشعرية ملاك على هيئة رصاصة والتي صدرت عام 2019 عن دار النهضة العربية في بيروت، و يتمحور ديوانها على عدة محاور أساسية لها أبعاد فلسفية وجمالية عميقة كاللعب على المقدس وتحرير الملاك من صفته الإلهية وإنزاله من عليائه على الأرض وأنسنته، فيصبح هو الإنسان إضافة إلى موضوع الغربة وهي أساسية في ديوانها من خلال سبر أغوار الروح-غربة الروح عن الجسد (الفكر، الذات، الأنا ) جسد المكان والزمان وغربة الجسد عن روح المكان وزمنه واحدة من الثنائيات التي يتمحور حولها ديوان ملاك على هيئة رصاصة إضافة إلى موضوع الموت /الجنس/الولادة ثالوث الحياة الحاضر على إمتداد قصائد المجموعة بشكل واضح أو مخفي ، كذلك موضوع الطبيعة اﻷم واللجوء إلى حضنها واﻹمتزاج بها وأنسنتها لتونس وحدتنا وعزلتناوجعل الجماد يتكلم ويرى ويحس بالرغم من قساوتها وخشونة يديها وأنفاسها الباردة التي تفتت الجسد والروح.

وقد وصف الناقد والشاعر السوري نبيل أدهم محمد مجموعة «ملاك على هيئة رصاصة»- كأنها أغنيةٌ طويلةٌ تغنّيها أصواتٌ تتعالى بانتظامٍ والكثير من التشابك الرهيب، كلّ صوتٍ يحملُ لغةً مميّزة فللحبِّ صوت وللحزن صوت وللموت صوت وللألم صوت وللبرد صوت وللشهوة صوت، أمّا الحياةُ فلها صوتانِ متعانقان هما الأنا الشاعرةُ وإنعكاسها على مرآة الروح المقابلة.في كلّ جزء من المجموعة يتراءى الثنائيّ العظيم الّذي كان الخطَ الحاملَ لكلّ شعور وهو ثنائي الأنا والآخر.. أنا والأم، أنا والحبيب، أنا والكاميرا، أنا والأسطورة، أنا والماضي.. الحاضر المستقبل… أنا والإيغار في الأبعاد.

كل هذه المحاور وغيرها ستكون موضوع حوارنا التالي مع المبدعة والشاعرة اللبنانية ماري جليل.

عنوان ديوانكم الشعري ملاك على هيئة رصاصة تعتبر من العناوين التي تشد فضول القارئ نحو مطالعة محتوى هذه المجموعة الشعرية، ماهي الدلالات السيميائية والجمالية التي يحملها عنوان ديوانكم؟

 لقد تساءل البعضُ عن رمزيّة هذا العنوان الملغّز وعن خلفية دلالاته السيميائيّة المتعدّدة وعن البعد الخفي المشفّر للعلاقة بين الدال والمدلول.

وانطلاقًا من يقيني بأنّ العنوان هو العتبة الكبرى للدخول إلى روح المحتوى، والمرآة المصغّرة للنسيج الشعري وكذلك الغلاف أيضًا، لذا أردته أن يكون عنوانًا موحيًا برموزه يشدّ القاريء عن طريق خلق تلك المسافة المتوترة بين الدال ( الصورة الصوتية ) والمدلول (المتصور الذهني) الذي أردت خلقه واللعب على رمزيّة الملاك والرصاصة، وإعطائهما دلالات مغايرة عن المعنى المتعارف عليه، وأخذ القاريء إلى مساحات من الرمزيّة تحمل في طياتها، الإيحائيّة عدّة تأويلات، إلى الدهشة، إلى خلق شبكة جديدة من الرموز والدلالات لشد انتباهه وإثارة دهشته.

فالملاك اللامرئي (الفكرة ) يخرج من الأسطورة ويخلع عنه صفته الإلهيّة المقدّسة، ينزل من عليائه إلى الحياة ليصبح مرئيًّا من لحم ودم، ليصبح إنسانًا كونيًّا.

فالملاك بعنوانه الغامض هو تلك الذات /الإنسان /الشاعر/الأنا يتلو تراتيله المتعدّدة الأصواتِ في ثنائيّاتٍ مختلفة:

الأنا والآخر ، الأنا والحب، الأنا والوحدة، الأنا والغربة…، و يطلق رصاصاته، صرخاته، وانزياحاتهِ كلمات (شعر ، نثر…) ضدّ المسافات، المنافي، الظلم، القمع، الحرب، الاستبداد…» فالكلمة الّتي لا تكون مثل الرصاصة تحرق بصدقها وشفافيتها هي كلمةٌ خائنة».

هل ملاك على هيئة رصاصة إنعكاس لتجارب حياتية و وجدانية مررت بها سابقا ؟

 كلُّ كتابةٍ أو فكر هي انعكاس لموروث ثقافيٍّ لقراءاتٍ ممتدّة على مرّ الزمن بكلِّ ملامحه العظيمةِ والعميقة، لتجربةٍ حياتيّة وجوديّةٍ أو لرغباتٍ وأحلامٍ مخزّنة في لاوعينا، نحاول بكل طاقاتنا الشاعرةٍ والمجهولةِ إيصالها عبر المتخيّل، عندها نكون أمام تجربة تجمع ما بين الوعي واللاوعي ، بين المحسوس والمتخيّل.

فالشعر هو مرآة الذات وعوالمها الداخليّة وما يتدفّق من تلك الذات العميقةِ من مشاعر وأفكار ومخزون فكريٍّ وتجربة حياتيّة وذاكرتها المحسوسة،  بالإضافة إلى المتخيّل واستحضار للحواس المعروفة وغير العروفة، فهي تجربةٌ ينصهر فيها الماضي بالحاضر ويتّجه نحو المستقبل عبرَ حواسّه، كلّ ذلك في عمليّة خلقٍ إبداعيّة متفرّدة ورؤيا للعالم من منظور أكثر وضوحاً وأكثر غموضاً بذات الزمن.

أنا أنطلق من التجربة الذاتيّة وتحويلها إلى تجربة إنسانيّةٍ كونيّةٍ في بعدها الأعمق والأشمل.

فوعي الانسان لذاته ولتجربته الحياديّة الوجوديّة هو نقطة الانطلاق ونقطة الارتكاز للإدراكِ البشري، فالحوار مع الذات وتأمّلها والتصالح معها يؤدّي إلى صياغة تجربة تنطلق من التجربة الذاتية، لكنّها تهدف للتواصل مع الآخر وبذلك تغدو القصيدة جسرًا للتفاعل بين الأنا والآخر، وانطلاقًا من هنا حاولت في هذه المجموعة العبور بالملاك الّذي هو «الأنا، الانسان» من الذاتيّ إلى الأنا الكونيّة، الانسان الكونيّ بمواجهة العالم الذي يدور حوله، الانسان الذي له الحق بالحرية، بالحب، بالجنس، بالتمتع بوجوده وبقدرته على الاختيار.

ماهي المحددات الرئيسة التي إنطلقت منها في إخراج هذه المجموعة الشعرية ؟

إنّ المحدّدات هي مصطلح حادٌّ لدرجةِ أنّه لا يتناسب مع ماهيّة الشعر، بقدرٍ ما يمكن أن نستعيض عنه بلغةٍ أكثر خفّةً، فالشعر أو لغتُهُ هما فضاءٌ لا يمكن أن يحدّهُ محدّد، هو انطلاقةٌ من روحٍ نحوَ عوالم الأرواح الكثيرة، ولا أظنّ أنّه يحيا إن تمّ تحديده… هو كلّ ملامح الأشياء المطلقة، ربّما أستطيع أن أعبّر عن نقطة انطلاق هذه المجموعة بكلمة واحدة وهي «البدء»

ثمّ إنّ عمليّة الخلق الشعريّ المعقّدة هي مالا يعرّف ولا يُقارب، وحدها الروح الشاعرةُ تعي هذا.. تلك الروح بكلّ تجلّياتها الفلسفية واللامادية والعميقة… بكلّ ملامحها الّتي تتراءى عبرَ القصيدة..

 ماهي أبرز الصور الشعرية التي جاء بها ملاك على هيئة رصاصة؟

 ربّما كان من الأولى أن نتركَ للقارئ الإجابةَ على هذا السؤال، لكن نستطيع أن ننظر إلى أبعادٍ أُخرى في النص، والّتي تجلّت السيميائيّةُ فيه، كون النصّ الشعريّ يتكوّن من تقاطعٍ عالمَي الوعي واللاوعي ليساعد في خلقِ نتاجٍ ذي دلالاتٍ سيميائيّةٍ تعبرُ بمساعدةٍ اللغةِ بكلّ طاقاتها إلى المتلقّي الّذي يحاول فكَّ رموزها بالتماهي مع النصّ للحظات، وإعادةِ تكوين النصّ من جديد، وهذا يساعد على إيضاح الصورةُ الشاعريّة، يرسمها الشاعر مستخدماً اللغة لتنطلق من لاوعي الشاعر إلى وعي المتلقّي وروحه الشاعرة.

كان الاعتماد على الصور المركّبة لقدرتها على حمل المعنى وتصديرهِ بكلّ أبعاده…

إلى ماذا يرمز ثالوت الموت والجنس واالولادة في مجموعتكم الشعرية ؟

 الموت، الجنس، الولادة… ثالوث الحياة العظيم وسيرورتها بأقانيمه الثلاثة، الّذي يتجلّى بكلِّ وضوحٍ في لحظة الفعل الجنسي، تلك اللحظة التي يرتحل فيها الجسد ويرخي حبال مركبه منتشيَا بموتٍ مؤقت تكون لحظة انتعاشٍ وولادةِ في جسد آخر،  من هنا تأتي رمزيّةُ رحم الأرض، الأمّ، الأنثى الّتي هي مهد الولادات ومثوى الاجساد، فبالموت حياةٌ وفِي الحياة موتٌ، والجنس هو المساحة المكانيّة الزمانيّة لالتقاء الموت والحياة في آن معًا.

الموت هنا ليس فناء الجسد بل لحظة الارتماء في جسد الآخر وولوجه، لحظة الانتشاء بما فيها من نشوةٍ وألمٍ معًا، والقذف للعضو الذكري حتّى التلاشي والموت غرقًا في مياه رحمها وفِي نفس الوقت بللٌ وانتعاش وولادة لعضو الأنثى.

فالمجموعة تحمل نصوصًا كثيرة تمجّد تلك اللحظة الحسيّة الخارجة عن المحسوس، فأقول:

(كرعشة ابتسامة عند ارتحال الجسد

كرعشة الموت بين شفتي الحياة

كلحظة عشق تنهمر أنت في تفاصيلي.

(المسافة بين موتك وولادتي

قبلٌة

تصعد نشوى إلى أعلى الغيم

ثم تسقط سكرى

على شقوق الشفتين

إذًا، فالجنس هو المحرك والواصل ما بين الموت والحياة، والثلاثة في علاقة تفاعليّة تناغميّةٍ تربط بينهما لحظة شبقٍ تشعل صراعًا مستمرًّا، متوهّجًا بين دافع الحياة ومحرك الموت.

وقد كنت دائمًا أشبّه فعل الكتابة وعمليّة الخلق الإبداعيٍ بالفعل الجنسيّ، بتلك الشهوة المتصاعدة للفكرة حتى وصولها إلى الذروة في نشوتها في المتخيل، فيقذفها العقل كلماتٍ يرتعش جسدها عند ملامسة الورق فتولدُ القصيدة.

ماهي المدرسة الأدبية أو الشعرية التي تأثرت بها في إخراج هذا العمل الشعري إلى حيز الوجود؟

 باعتقادي لا يوجدُ شاعرٌ لم يتأثّر بالمدارس الأدبيّة الّتي خلقها الشعر، فالمدارس هي صنيعة الشعر لا العكس، ومن أيّ منظور نظر الإنسان إلى الشعر وجدهُ يحمل في ملامحه أصوات المدارس الشعريّة الّتي وُلِدَت والتي لم تولد بعد، لكنّ أحد هذه الأصوات يعلو في قصيدةٍ ما فتنطبع بطابعهِ لدى القارئ، وبما أنّ الشعرَ كفكرةٍ فلسفيّة عميقةٍ حدّ العمق هو مايتخلّقُ في الأرواح بلا أيّ رغبةٍ او إرادة من قبل العقل الواعي لدى الإنسان، فإنّه في لحظة ما يكون رهين اللاوعي، وينقاد إليه بمنتهى العذوبة، ربّما كان ميولي نحو العقلانيّة الواعية قدر الإمكان في الكثير من وقصائدي، لا أُنكر بذات اللحظةِ أنّي مضيت خلف بعض القصائد وأنا أتمثّلها على فسحة البياض الرهيب.

لاحظت من خلال قراءتي لبعض من قصائدك إحساس عميق وكامن من خلال متغيرات سيكولوجية وسوسيولوجية ترتبط بالزمان والمكان ، كيف استطعتم بلورة هذا الاحساس الشعري في ملاك على هيئة رصاصة ؟

 كنت دائماً أحاول التقاط الزمن، أحاول أن أتحسسه بأصابعي، أرسم له أرضًا/بيتًا على جدران عزلتي لأسكنه

أن أخلق زمنا بين زمنين وخارجهما (زمن الذاكرة والزمن المتخيل)، زمن أعبر به إلى فضاء خارج عقارب الوقت وخارج خطوط الجغرافيا، إلى زمن نفسي/سيكولوجي، إلى ينابيع الذات العميقة، إلى زمن أمسك خيوطه وأحيك فضاءاته ذلك الفضاء /المكان الغير مادي، المتمرد على الزمن

فضاء يناديني وأناديه

فضاء يسكنني وأسكنه

إلى الزمان و المكان الساكنين اللغة، إلى زمكان القصيدة.

ماذا تمثل لكم الغربة و الطبيعية في ملاك على هيئة رصاصة؟

 الغربةُ هي من المحاور الأساسيّة الّتي يدور حولها الديوان، فالغربة عند الملاك هي غربةُ الروح وأعني الفكر، الذات، الأنا،  عن الجسد/ جسد المكان والزّمان كذلك غربة الجسد عن جسد المكان وزمانه وروحهِ، هذا الانسلاخ عن الرحم/ الأم/ الوطن، نحن نغادر بأجسادنا وتبقى أرواحنا تحبوا في زواريب طفولةٍ مفطومةٍ عن ثدي أمّها تطوف في أزقّة ذاكرتنا تبحث عن كسرة حب، عن ذكرى تقينا جليد الوحدة فتصبح اللغة (الكتابة، الشعر …..) هي الهويّة، هي الوطن، هي حيّز المكان والزمان، هي الحضن الدافيء في جليد العزلة، الرئة الّتي نتنفّس من خلالها، هي الرحيل الى سماوات لا يحدّها بعد.

خلعنا وجوهنا وأطرافنا

تركنا أسماءنا المشبوهة

على الشاطىء

ركبنا البحر إلى منفانا

إلى حرب أخرى

لها وجهٌ آخر

إلى منافٍ لا هوية لها… (مقطع من محادثة بيضاء)

التوحد مع الطبيعة وإضفاء الصفات الإنسانيّة (أنسنتها) والطبائع البشريّة، فتصبح هي الآخر الّذي نخاطبه و نرنو إليه بكلّ حواسنا، العودة إلى الجذور، إلى الأعماق الداخلية البدائيّة إلى براءة الدهشة الأولى، إلى الينابيع كي نرتوي ببعض الشفافية والنقاء والصفاء الروحي والجسدي المفقودين، في العالم الخارجيّ المتوحّش الذي يحيط بِنَا بالرغم من قساوتها في بعض الأحيان، حين تغرز أسنانها الباردة في أجسادنا الطرية فتسيل دماؤنا على أرصفتها الجليدية.

إذاً الطبيعة هي الأم،  الملجأ الآمن، الحضن الرؤوم الذي نلجأ إليه كلّما اشتد الحنين والشعور بالوحدة،  بعيدًا عن الضوضاء وضجيج المدينة، هناك أسمع صوتي، صوت الأرض، صوت طقطة حبات البندق في فم السنجاب، هسهسة الشجر، وشوشات النهر، ألمس يد النسيم واقبّلها ، ألتقط صورةً للضوء وهو يدغدغ الدمع في عيني، أراقص الذئاب وأهدهدها…

هناك حيث تتلاشى أنفاس البحر

على شفتي السماء

ويقف القمر عاريًا بوجنتيه الشاحبتين

حين تشهد النوارس على موتها وتضحك…

هناك حيث النهايات لا يملكها أحد.

https://anbaaexpress.ma/ht6h8

عبد الحي كريط

باحث وكاتب مغربي، مهتم بالشأن الإسباني، مدير نشر أنباء إكسبريس

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى