آراءسياسة

تصريح الريسوني: نموذج لمأزق الفقه السياسي المقاصدي في علاقته بقضايا العلاقات السياسية والدبلوماسية المغاربية

بقلم عبد المجيد بن شاوية: باحث في الشؤون المغاربية 

مقدمة: نحن كمغاربيين عموما، من طرابلس إلى نواكشوط، عبر كل ربوع المنطقة المغاربية، لسنا في حاجة إلى تصريحات تزيد في تعقيد الأمور على اختلافها بين كل أفراد وشعوب المنطقة وأنظمتها السياسية، هذا موقف ثابت من مواطن مغاربي يتابع الأحداث والتطورات على الرقعة الجغرافية المغاربية، ولسنا في حاجة إلى تأجيج الأوضاع وإثارة الأوجاع السلبية والمرضية، التي شاءت أقدار التاريخ ومكر الأيديولوجيا أن يفعلا فعلتهما النكراء بخلقها داخل الجسم المغاربي وزرعها في كل مفاصله البنيوية.

وفي سياق هذا الشأن، شأن أزمة العلاقات الرسمية المغاربية، كوننا نعيش “أزمة عقل سياسي”، تعصف بكل المكاسب والإمكانات وبالمشترك المغاربي، وتعمل على تأبيد الأوضاع واجترار المأساة على جميع المستويات، لم نفكر كرسميين وكمغاربيين في غالبيتنا في وضع العجلة على السكة بشكل صحيح، بل نشتغل فقط على اختلاق وإثارة السلبي في كل المعطيات، مما يؤثر سلبا على المخاييل المغاربية عموما وبشكل مهين في حقنا نحن المغاربيين، بداخل الجسم المغاربي الرسمي والجماهيري على حد سواء.

تصريح الفقيه أحمد الريسوني ونموذج فشل رؤية الفقه السياسي المقاصدي

ففي هذا الإطار تأتي تصريحات وسجالات وجدالات سواء مرئية أو مسموعة أو مكتوبة، تعبر بشكل أو آخر عن مفهوم الأزمة القائمة في الكثير من عقليات كل المغاربيين، وما أدلى به الفقيه أحمد الريسوني، ليس وحده كمغربي، بل نجد هذا في الجزائر أيضا وفي تونس وفي موريتانيا..، دليل على مفهوم الأزمة البنيوية التي تمس الجسم المغاربي، تاريخيا وسياسيا وأيديولوجيا، ليطرح السؤال: هل ما صرح به فضيلة الشيخ الريسوني في إحدى مقابلاته مع أحد الصحفيين في إحدى القنوات، حول علاقاتنا نحن المغاربة بما كان يربطنا بموريتانيا والجزائر، تندوف خصوصا، حيث جاء فيه “استعداد المغاربة والعلماء والدعاة في المغرب للجهاد بالمال والنفس (…) والزحف بالملايين إلى مدينة تندوف الجزائرية”.

ودعا الملك المغربي إلى الزحف على منطقة تيندوف، كما وصف استقلال موريتانيا بالغلط، متجاوزا سقف ما طرحه المغرب رسميا في علاقته بالأقاليم الجنوبية الصحراوية المغربية، الذي أرسى سفينة المغرب على وضع خارطة طريق كحل عادل وجدي لإنهاء الصراع بينه وبين جبهة البوليساريو الانفصالية والأطراف المعنية بهذا الصراع، المتمثل في مبادرة الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، يعبر أي التصريح، عن رأي يلزم كل المغاربة أو هو رأي غالبية المغاربة أو أنه هو ٍرأي خاصة المغاربة، وأعني بالخاصة النخبة ذات الكعب العالي في الرأي والفكر والسياسة في وقتنا الراهن؟

طبعا الجواب عن هذا السؤال يكون بالنفي الواضح، ولا يمكن لأي مغربي إلا أن يتساءل مجددا عن خلفية ما صرح به الفقيه أحمد الريسوني، وماذا كان يقصده من وراء تصريحه ذاك، هل هو استفزاز لخصوم الوحدة الترابية المغربية أم ماذا؟ وهنا نستحضر جانبا مهما في مسار تكوين الفقيه الريسوني ومجاله التخصصي، ليطرح السؤال من جديد، فإذا ما كان تخصص فقيهنا في مجاله يستدعي عدة فقهية وازنة، وتصورات قائمة على المصلحة العليا لعموم المسلمين، دولا وشعوبا، ومنها خدمة القضايا الإنسانية كافة، وأي خطوة فيها تكون محسوبة بكل المقاييس، اجتماعيا، سياسيا، ثقافيا، عقائديا، إقليميا ودوليا، في إطار فقه المقاصد الإسلامي، فكيف به أنه لم يستدع الفقه السياسي والدبلوماسي، بكل مقوماته ومبادئه ليدلي بآرائه في شأن من الشؤون السياسية و الإستراتيجية والدبلوماسية لحمل المغاربيين على اختلاف مشاربهم وتوجهاتهم وتصوراتهم السياسية والإيديولوجية على تكثيف جهودهم للإتحاد الفعلي في سبيل تحقيق المرامي والأهداف الوحدوية السامية والمثلى؟

بين مضمون تصريح الفقيه الريسوني وعلاقات المغرب السياسية والدبلوماسية المغاربية

فمغربية الصحراء كما حددتها مبادرة المغرب في إطار الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية المغربية، كان من اللازم أن تكون هي الإطار في تصريحات فضيلة الشيخ الريسوني، وهو يعلم أن المغرب أخذ على عاتقه التزامات سياسية ودبلوماسية وأخلاقية باعتماده وتشبثه بمقترح الحكم الذاتي للأقاليم الجنوبية، وذلك على كل الأصعدة، إقليميا ودوليا، ولا يمكنه الرجوع إلى الوراء، أما والعودة إلى معطيات التاريخ والسياسة السابقة عن وضعنا الراهن، وإلى عهد قريب، وقد خاض فيها المغرب أشواطا جد معقدة، خاصة زمن الراحل الحسن الثاني الذي أرسى فيها قسطا وافرا من قواعد العلاقات السياسية والدبلوماسية بين المغرب وموريتانيا والجزائر، رغم العديد من الانتقادات والمؤاخذات، إلى حدود آخر عملية من عمليات إجلاء وإنهاء وجود فلول الاستعمار الغاشم، فهذا أمر غير مرغوب فيه من قبل كل إنسان مغاربي يشعر بكونه أمام تهديدات ومخاطر تقض مضجعه في ظل أوضاع تتسم بالتوتر والمآزق على اختلافها، من جهة أولى، وأن نزايد على بعضنا البعض بتصريحات لا تخدمنا في شيء كمغاربيين بغض النظر عن الاختلافات والخلافات القائمة بين تصورات وتوجهات رسمية وغيرها، فهذا غير مطلوب من أي كان، من جهة ثانية، فالمطلوب هو حمل المغاربيين على إعادة تشكيل مخاييلهم السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية، وفتح أبواب مجال المصالحات الدبلوماسية والسياسية بالاحتكام إلى ما يمليه العقل والحكمة والضمير وملكة التبصر، وزرع الآمال في نفوس كل المغاربيين، مادام أن بالإمكان الاشتغال على ما يربطنا أخويا وتاريخيا وحضاريا وإنسانيا هو متاح بين أيدينا، لا أن نؤجج نعرات وأوجاعا ليست لنا مصالح فيها على الإطلاق، وخاصة أن العالم يمر بأعقد مرحلة في تاريخ البشرية، وبالأخص عالمنا العربي / الإسلامي.

ونحن أمام هذه التصريحات التي أدلى بها الشيخ الريسوني، نستحضر ما جاء في خطاب العرش الأخير للعاهل المغربي محمد السادس هذه السنة 2022، الذي لا زال كما سبق له غير ما مرة، يؤكد على بسط اليد الأخوية السياسية والدبلوماسية لإعادة الروح إلى العلاقات الجزائرية المغربية والمغاربية عموما، والعمل على إنهاء الخلافات القائمة، فالخطاب الملكي يجب من جديد ما قبله من خلافات ويدعو إلى المصالحة وبناء الجسور الكفيلة بإعادة ترميم العلاقات المغربية الجزائرية وعلى ضوئها المغاربية عموما، فكان من المفروض أن تذهب نصريحات الريسوني في هذا الشأن لا في غيره من الماضي التليد المثقل بالأخطاء والأزمات والانتكاسات التي لازلنا نحن المغاربيون نؤدي تكلفتها الباهظة الثمن، من جهة، وأن يبقى في إطار ما أرست عليه سفينة الدبلوماسية والتوجهات المغربية من مخرجات وقرارات متداولة في هذا الشأن أمام القاصي والداني، من جهة ثانية.

ختاما: بالعودة إلى ما تبناه العقل الإسلامي من فقهيات عدة، كل منها في جانب من جوانب الحياة، بأحكامها ومبادئها، وأسهب فيها الفقهاء وأرسوا قواعدها قديما وحديثا، ارتباطا بمقاصد الشريعة الإسلامية السامية المتجلية في جلب المصالح ودرء المفاسد، وهو ما يصطلح عليه ب ” الفقه المقاصدي”، حيث عمل المحدثون على توسعة دوائره بما يقتضيه العصر من تطورات وأحداث سياسية ومستجدات اجتماعية واقتصادية وثقافية وما تستلزمه محاكاة الأمم الإنسانية ومجاراتها في العديد من المعطيات والمنجزات، كان على الفقيه أحمد الريسوني أن يبدل قصارى جهوده للدفع بالعقل السياسي المغاربي عموما نحو بحث معضلاته وإشكالياته للتخلص من عقباته وأعراضه المرضية التي طال بها العهد، على أمل الخلاص مما يعيق مسيرة تقدمه نحو التكتل الفعلي بين شعوبه ودوله، ومواجهة الأخطار والأزمات سواء على المستوى الإقليمي أو الدولي، كقوة اتحادية مغاربية تتشكل من مجموع دوله وشعوبه الممتدة على القسط الأوفر من مساحة شمال إفريقيا، مفتوحة على جبهات عدة شمالا وجنوبا، شرقا وغربا، مادامت مصالح الشعوب المغاربية تفرض بمنطق الواقع والتاريخ وكل المقومات المشتركة بين شعوبها على كل منا البحث في سبل تعزيز روابط الأخوة المغاربية وأواصر التاريخ والجغرافيا والحضارة والحث على تفعيلها لأجل ازدهار الشعوب المغاربية وتجاوز كل العقبات أمام ألعيش الكريم والتقدم والرفاهية والسلام والاستقرار والأمن في كل بقعة من جغرافية المغاربيين، أما والنبش في بعض المعطيات السلبية البينية وتأجيج فتائلها فليس هذا مطلوبا بالجملة من أي عقل من عقول المغاربيين سواء كان عقل فقيه أو عقل سياسي أو عقل مثقف أو مفكر أو عقل فنان.. بل المطلوب هو تقوية المناعة على اختلاف مستوياتها والعمل على بناء صروح الاتحاد المغاربي وإيجاده كقوة إقليمية فعلية.

https://anbaaexpress.ma/ih037

تعليق واحد

  1. تحليل جميل وأداء متوازن ودقيق كما هي طريقة الأستاذ عبد المجيد بن شاوية، والتي تروم التحليل الهادئ والفاحص لقضايا المغرب العربي، في أفق تقريب الهوة بين الإخوة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى