آراءسياسة

اليوم العالمي للديمقراطيا (الجزء الثاني)

الديمقراطيا بين أنصارها وأعدائها 

تتأسس الديمقراطيا على مبدأ الحوار في حل النزاع بدل العنف، والتضامن بدل السيطرة؛ وإن قوة الديمقراطيا تكمن في ارتباطها الجدلي والعضوي بالتجارب الحياتية من جهة ومن جهة أخرى، بجعل هذه التجارب في دائرة التأمل العقلاني الإنساني: فلسفيا، أخلاقيا وقانونيا.
أنصار الديمقراطيا يؤسسون أطروحتهم بناء على أن قدرة الإنسان على أن يكون عادلاً تجعل الديمقراطيا ممكنة، لكن نزوعه إلى الظلم يجعل الديمقراطيا ضرورية، وأن مساوئ الديمقراطيا ونقائصها لا يمكن معالجتها إلا بالمزيد من الديمقراطيا.

الصراع اليوم، بين القوى الديمقراطية والقوى المعادية، أصبح أكثر وضوحا، وبدا جليا منذ العقد الأخير من القرن المنصرم، أن الديمقراطيا أصبحت محل تهديد. فكلما أحرز الديمقراطيون في الغرب نجاحا على صعيد ما، تجد المافيا الغربية تضرب بعض المكاسب الديمقراطية على صعيد آخر.

من وجهة نظر مختلفة، يصف أحدهم الديمقراطيا قائلا: إذا كانت الخراف تسير إلى المذبحة دون أن تقول شيئا، ولا أن تأمل شيئا. فهي على الأقل لا تصوت للجزار الذي يقتلها، ولا للميسور الذي يأكلها. بهذا التمهيد يسخر أوكتاف ميربو(Octave Mirbeau) من الكائن البشري/الناخب بوصفه “أكثر غباء من البهائم، يصوت لجزاره ويختار آكله”، ويزيد من تهكمه، حتى لا نقول احتقاره لهذا الكائن الذي “قام بثورات ليكسب هذا الحق”، حقه في اختيار جلاديه. (كاتب له شهرة أوروبية، وصحفي متخصص في نقد الفنون – 1848/1917).

والديمقراطيا، لدى هربرت سبنسر (Herbert Spencer)، الفيلسوف والاقتصادي المينارشي الانكليزي، مذهب سهل ومثير للاستغراب، لأن (المواطن) موافق في جميع الحالات: سواء قال نعم، أو لا أو كف عن النطق! (1820/1903).

مخطئون أولئك الذين يمارسون السياسة من أجل تغيير العالم. السبب الوحيد الجيد لدخول معترك السياسة هو أن نكنس القدرة (pouvoir) حتى نسمح للعالم بتغيير نفسه. إنها وجهة نظر الأمريكي جيفري تاكر (Jeffrey Tucker) أحد ابرز دعاة الحرية، له عدة مؤلفات ومقالات، مسؤول عن أرضية Liberty.me، نائب سابق لرئيس Ludwig von Mises Institute، وممثل المدرسة النمساوية للاقتصاد. وهو باحث بـ (Mackinac Center for Public Policy).

السياسة بين الللامبالاة والهوس 

الديمقراطيا، يقول بيير منديس (Pierre MENDES-France)، لا تقتضي أن تضع دوريا ورقة في صندوق الاقتراع، أن تفوض السلطات إلى منتخب أو أكثر ثم تدخل في اللامبالاة، في الغياب، في صمت مطبق لمدة خمسة أعوام. الديمقراطيا فعل متواصل ينخرط فيه المواطن ليس فقط في شؤون الدولة، بل في شؤون الجهة، شؤون البلدية، شؤون التعاونية، شؤون الجمعية، وشؤون المهنة. بل هي ذلك الحضور اليقظ، لدى الحكومات (أيا كانت مبادؤها)، والهيئات المنظمة والموظفين والمنتخبين، إذا لم تكن تستشعر خطر ضغوطات كل أنواع الجماعات، ستكون متروكة لضعفها المحض وسرعان ما تخلي المكان إما لإغراءات تعسفية وإما للروتين والحقوق المكتسبة … ويضيف، الديمقراطيا لن تكون فعالة إلا إذا كانت موجودة في كل مكان وفي كل وقت.

إذا كان منديس ربَط نجاح الديمقراطيا باليقظة والانخراط المتواصل في الشأن العمومي، فميشال دوبري (Michel DEBRE) حذّر من الهوس السياسي “إن المدينة، الأمة، حيث يناقش عدد كبير من المواطنين السياسة كل يوم تكون قريبة من الخراب”، ويرى أن “مشكلة الفرد أولا هي أن يعيش حياته اليومية”. و”أن المواطن الوحيد، الديمقراطي الحقيقي هو الذي يعمل في صمت، يعمل على تقييم حكومة بلاده ويحكم عليها في صمت، وعندما يُدعى في مواعيد منتظمة من أجل التصويت على منتخب مثلا، عندها يُعبّر عن موافقته أو عن رفضه. بعد ذلك، كما هو طبيعي وصحي، يعود إلى انشغالاته الشخصية التي تصنع عظمته، لن يكون ضروريا إلا عن طريقها، ضروريا ليس فقط بالنسبة لكل فرد، بل بالنسبة للمجتمع”.

الديمقراطيا: الاسم والمسمى 

المدافعون عن الديمقراطيا يلحون على تسمية الأشياء بأسمائها، هنا يصرخ أحدهم، سيرج كريستوف (Serge-Christophe KOLM) “نحن ضحايا شطط الكلمات. نسقنا (“الديمقراطيات” الغربية) لا يمكن تسميته بالديمقراطي، لأن هذا يمنع الديمقراطيا الفعلية من التحقق بعد أن سرق منها اسمها.
وإن الذين يدافعون عن ريجيم سياسي بغض النظر عن نوعه، يقول جورج أورويل (George ORWELL)، ولا يفتأون يصفونه بالديمقراطي لن يخشوا من التوقف عن استخدام كلمة الديمقراطيا، مادام ذلك الريجيم يحتمل سوى دلالة واحدة.

السياسة بين براديغمين: في البحث عن مخرج 

آن الأوان كي تسترجع السياسة معناها النبيل، وأن يعاد النظر في تلك العبارة الشهيرة التي تتهم السياسة ظلما، وتلعنها (لعن الله السياسة)، وآن الأوان أن نبرئها من التهم التي ألصقت بها، وأن نقر بأن أولئك الذين يدّعون أنهم ساسة، هم مجرد منتحلين للسياسة، دجالين ومشعوذين ومنافقين، أخساء وجهلة، لأن السياسة تدبير عقلاني لحل المشاكل وخلق البدائل؛ وإن الأزمات التي عصفت ببعض المجتمعات العربية وتكاد تعصف بما تبقى ستجد حلها حالما نمارس السياسة؛ ذلك أن الكوارث التي ضربت بعض البلدان الناطقة باللسان العربي أو أعاقت تقدمها، إنما هي في الأصل كانت مجرد مشاكل لم تعثر على السياسة التي تعالجها، بل تحولت إلى أزمات جراء الجهل السياسي، ومن ثمة تعاظمت لتتحول إلى كوارث.

ويبدو أنه من الضرورة المعرفية والإجرائية، أن نميز بين النسق السياسي والنسق المنافي للسياسة. فالنسق السياسي كما هو مبين أعلاه يفيد كل تدبير علمي للشأن العمومي داخل فضاء اجتماعي معين لا تقف فيه القرارات السياسية ضد العقل والمصلحة العامة، ولا تتعارض فيه القوانين مع الحقوق ولا تتصادم فيه الثقافة بالطبيعة، وبالتالي فكل نسق لا يحترم هذه المعايير والمبادئ هو نسق مناف للسياسة، وبناء على ذلك فإن الأنساق الشمولية والاستبدادية في ضوء التطور، لا يمكن تصنيفها كأنساق سياسية، بل كطغيان يتلبس بالسياسة، أي كأنساق ثقافية معادية للسياسة.

النسق السياسي، في سياق التطور، هو بالضرورة ديمقراطي، وحالما يتنصل هذا النسق من الديمقراطيا فهو، والحالة هذه، قد فقد مظهره السياسي، وكلما اتسعت المسافة بينه وبين الديمقراطيا أصبح أكثر عداء للسياسة، ومن ثمة انحرف إلى طغيان.

– البراديغما السائدة: أسباب عزوف الشباب عن ممارسة العمل السياسي تتحملها الثقافة السائدة التي تكرسها الحكومات والأحزاب والميديا فضلا عن الثقافتين الدينية والشعبية. إن السياسة من منظور هذه الثقافة مجرد خداع وكذب؛ وهي نظرة تختزلها عبارة شهيرة يرددها كل من هب ودب بوصفها نظرية أو قاعدة علمية: “لعن الله السياسة وساس ويسوس وسائس ومسوس، وكل ما اشتق من السياسة فإنها ما دخلت شيئًا إلا أفسدته” (محمد عبده). فالسياسي، من هذا المنظور، مقرون دوما بالفساد والنفاق والنفعية الشخصية. فكيف ندعو الشباب إلى المشاركة في السياسة في الوقت الذي نلعن فيه السياسة ونصفها بالكذب؟ إن دعوته والحالة هذه إنما هي دعوة إلى ممارسة الكذب والخداع.

إن الشباب حينما يعزف عن المشاركة في التصويت وفي الانخراط بالأحزاب إنما ينأى بنفسه عن ممارسة الكذب والخداع بحثا عن فهم أفضل للحياة ولاسيما للحياة السياسية. وحالما يدرك هذا الشباب المعاني النبيلة التي تنطوي عليها السياسة فلن يتردد في ممارستها بكل ما يملك من طاقة وإرادة وحب.

وفقا لتعريف الأمم المتحدة، يشكل الشباب الفئة التي تتراوح أعمارها بين 15 و24 عاما (حوالي 20٪ من سكان العالم). وبالتالي فإن الجيل الحالي من الشباب هو الأكثر عددا من أي وقت مضى في التّاريخ. وهو الفاعل الأول، فتم ربطه بالسلام والتنمية والديمقراطيا والبيئة. كما تدرك اليونسكو أن الشباب هم مجموعة غير متجانسة في تطور مستمر.

إنه القوة الديموغرافية الهائلة التي تفرض على البلدان والمنظمات الأممية الأخذ بعين الإعتبار القيمة العددية وما تمثله من رصيد طاقي ومعرفي عظيم، وأن تضع على سلم أولوياتها كيفية حسن استغلال هذا المورد البشري وتصريف طاقاته نحو مشاريع العمل والإنتاج الصناعي والمعرفي. ومن أجل ذلك كان لزاما على الدول أن تجعل من الشباب شريكا وقائدا وعنصرا فاعلا في إنجاح برامجها.

وفق معطيات تعود إلى 2015، الشباب الجزائري الذين تتراوح أعمارهم ما بين 15 و29 عاما، نسبتهم 30 ٪، في حين تقدر نسبة البطالين حوالي 10٪ أغلبهم إناث (نصر الدين حمودة، مدير بحث ورئيس قسم التنمية البشرية والاقتصاد الاجتماعي). 20٪ من سكان الجزائر تقل أعمارهم عن 10 أعوام (عمر والي، مدير السكان بوزارة الصحة)؛ وحوالي مليون وربع المليون عاطل يبحث عن الشغل، بنسبة تتجاوز 12 ٪ (الديوان الوطني للإحصاء)؛ وهناك نحو 60 ٪ من السكان لا تتجاوز أعمارهم سن العشرين، يعني تعاظم الأعباء في خدمات التعليم، الصحة، الإسكان، الشغل، المواصلات، المرافق الإدارية.

على الصعيد القانوني، لم ينص المؤسـس الدـستوري الجزائري صراحةً على الحقّ في التمكـين السـياسـي والقـانوني للشباب، غير أنّه، واستقراء لما جاء في الديباجة وفي المواد 29 و31 و32 و50 و63 منه، يتضـح جليا بأن للشاب الجزائري الحقّ في المشاركـة السـياسيـة. ويرى البعض أن إقرار الحقّ في التمكـين السياسـي للشـباب يستوجب على المؤسـس الدـستوري أن يضع الضـمانات والآليات الدـستوريـة الكفيلة بذلك، وعلى المشرع أن يسـن القواعـد القانونيــة الناظمة لهذا الحقّ بما يساهم في وضع الميكانيزمات العمليـة للتطبيق.

تجمع كل التقارير الإعلامية والسياسية والرسائل الجامعية وجهات الإحصاء على ضعف مشاركة الشباب الجزائري في الحياة السياسية، ورأت أن الإصلاحات والسياسات العامة التي انتهجتها الدولة (عام 2012 ثم عام 2019) لم تكن في المستوى المطلوب، كونها اتسمت بالظرفية بهدف استغلالهم لأغراض انتخابية، إن هذه الإحصاءات تؤكد أن شباب الجزائر مازال محصنا ضد الفساد، وأن عزوفه ظاهرة صحية، وهو بمعنى من المعاني يمارس السياسة رفضا لتلك الحقارة التي تنتحل صفة “السياسة”. هذا الرفض الذي سلكه الشباب ضد الممارسات الحقيرة التي طالت قطاعا عريضا من الطبقة السياسية، هذا الرفض ترجمه الشباب يوم 22 فبراير 2019 في ثورة سلمية مبهرة جعلت العالم برمته يقف منها موقف إعجاب وتقدير، هذه الثورة التي اشتعلت مبتسمة في ربوع الجزائر كلها أبدعها الشباب فالتحق بها الشعب بكل فئاته وشرائحه، بل وحتى الحزب الحاكم بمنظماته الجماهيرية.

– البراديغما الغائبة: إن التنشئة السياسية، نسق تربوي واجتماعي لا يحث على التثقف والممارسة السياسيين فحسب، بل يؤسس لذلك ويؤطر المجتمع سياسيا، قانونيا وحقوقيا، وبالتالي فإن الدولة التي تهمل التنشئة السياسية أو تستبعدها من فلسفتها إنما هي تؤسس لثقافة الغباء، لقد كان الإغريق يطلقون صفة البليد (Idiot) على الشخص الذي لا يهتم بالشأن العمومي. لقد خرج الشعب الجزائري بكل فئاته منذ 22 فبراير ليحرر “عبقريته” من “الثقافة البليدة” التي اصطنعتها خطابات أيديولوجية رجعية. نزل إلى الفضاء العمومي ليمارس حريته ويتمرن على الاحتجاج السلمي ويبدع الشعارات المعبرة عن مطالبه وتطلعاته. كما شرع الشباب عبر تجمعات حلقية يناقش المستجدات والقرارات، وأصبح أكثر اهتماما بقراءة الدستور الجزائري ودساتير الأمم المتقدمة. لقد شرع فعلا في ممارسة السياسية والتمرن عليها وأصر على رفض كل السلوكات المنافية للسياسة التي طالما عزف عنها، وهو اليوم يواصل مكافحتها وفضح كل المحتالين والجهلة المنتحلين للعمل السياسي ظلما وبهتانا.

فما هي السياسة؟ كما أسلفنا، تحمل كلمة السياسة لدى الإغريق معنى: علوم شؤون المدينة، أي تنظيم المدينة وبالتالي تنظيم الدولة. ونجد ثلاثة معان للسياسة: -المعنى الشامل (Politikos)، ومعناه الحس الحضاري، ويرتبط بتنظيم المجتمع وتطويره؛ معنى أكثر دقة (Plolitea) ويخص الدستور وبالتالي يخص بنية مجتمع معين وطريقة اشتغاله (منهجيا، نظريا وعمليا). السياسة، هنا، تخص ما يرتبط بالمجتمع من الأفعال، والتوازن، وتنميته الداخلية أو الخارجية، وعلاقاته الداخلية وعلاقاته مع مجموعات أخرى. وبالتالي فإن السياسة مبدئيا تتعلق بالحياة الجماعية، بمجموع الفردانيات و/ أومجموع التعدديات . وفي هذا السياق نجد الدراسات السياسية أو العلوم السياسية تتسع لجميع مجالات المجتمع (الاقتصاد والقانون وعلم الاجتماع، الخ)؛ معنى محدود (politike) ويرتبط بممارسة القدرة (Pouvoir). أي، يرتبط بالنضال من أجل الحكم وتمثيلية الشعب. وظلت المدينة الإغريقية مسرحا للتجربة السياسية تنظيرا وممارسة، وكما هو معلوم فقد اشتهرت لدى الدارسين تحت اسم المدينة-الدولة.

المدينة-الدولة مفهوم (عادة ما يرتبط بالحياة الإغريقية). وهو مفهوم ما زال قليل الاستكشاف ويحتاج إلى الدقة حتى يحفز الخيال ويمنح السلطة للمنشآت الأكثر تنوعا وذلك لما تكتسيه المدينة والجهة من أهمية في السياسات الحديثة اللاممركزة. ويتطلب ذلك أن يكون مفهوما بشكل أفضل ويجب أن يكون موضوعا لدراسة منهجية تنطوي على البعد المقارن كما يلح دعاة الديمقراطيا.

https://anbaaexpress.ma/jl2ml

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى