إن حاجة العلم والعالم اليوم ملحة إلى فلسفة جديدة تولد روحاً جديدة. القرآن يرى الكون يقوم بالحق، وعلى الحق، والخلق بالتالي ليس عبثاً. (أفحسبتم أنما خلقناكم عبثلً وأنكم إلينا لاترجعون) فالكون له بداية، كما أن له نهاية، ووفق برنامج مرسوم. (وما خلقنا السماء والأرض ومابينهما باطلاً)(ص 27) (وما خلقنا السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق)(الحجر 85).
لذا فإن ماوصل إليه برتراند راسل في القرن االعشرين هو ماناقشه القرآن مع انسان المجتمع العربي القديم، والذي أطلق عليه مصطلح (الجاهلية) حيث يأتي العربي القديم فيقول للرسول – ص – بعد أن يأخذ عظماً يضغطه بيده ليتحول إلى تراب، فيقول يامحمد أربك يعيد هذا بعد مارمَّ؟. تتنزل آيات من القرآن الكريم للتعامل مع هذه العقلية العدمية العبثية، وتعالج الحجة أو المظهر المادي لعظم يستحيل إلى تراب. (وضرب لنا مثلاً ونسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم ؟)(يس 78).
حين نتأمل الآية نرى كيف يعرض حجة الخصم وباحترام بل ويقول أن الانسان المخلوق يعلم الرب بالأمثلة؟
كانت فكرة البعث والتي هي في صميمها تعالج البرنامج الكوني، أي استقرار الكون بموجب هدف محكم، وبالتالي اكتمال صورة الوجود من خلال دورة الطبيعة الكاملة(كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين)(الأنبياء 104).
كان التعجب يأخذ من المشركين أيما مأخذ، كما فعل مع (برتراند راسل) هل سيكون هناك خلق جديد بعد الاستحالة إلى الرفات؟.
(ائذا كنا عظاماً ورفاتاً ائنا لمبعوثون خلقاً جديداً)(الاسراء 49)كان القرآن يحيل المظهر إلى جوهر المشكلة وهي ليست ( عناصر الكالسيوم والصوديوم والفوسفور والحديد… والتراب).
(قل كونوا حجارة أو حديداً أو خلقاً مما يكبر في صدوركم)(الاسراء 50) فهذا هو جوهر المشكلة أي فساد التصور، أي الفلسفة أو نظام المعرفة (الابستمولوجيا) الذي يكوِّن هذه العقلية، ولذا فإن العمل الذي نقوم فيه لوضع فلسفة جديدة له مايبرره ، حيث أن ضربا منهذه الفلسفة أو المعرفة هي ليست أكثر من رد الشيء إلى الحيز الذي يجب أن يكون فيه حتى يؤدي بالتالي وظيفته على الوجه الأمثل. وعقلية الشاعر العربي قديماً (طرفة بن العبد) لاتختلف كثيراً عن عقلية الفيلسوف البريطاني (راسل) في هذه النقطة، فلقد حفظت لنا المعلقات الشعرية أبياتاً من الشعر جميلة البناء خاوية الهدف:
أرى قبر نحــــــَّام بخيـلٍ بمالـــــــه كقبر غَوُّي في البطالة مفسد
ترى جثــــوتين من تراب عليهما صفائح صم من صفيح منضد لعمرك ماأخطأ المـوت الفتـى لكالطول (الحبل) المرخى وثنياه باليد
فهو يرى القبور تسوي بين الناس جميعاً، فيلفهم (الاندثار) كما عبر برتراند راسل من أن هذا هو المصير المحتوم لكل عبقرية الإنسان. ولكن ماذا تقول كلمات العلم الجديد؟.
دعنا نكرر كلمات راسل للمقارنة بينه وبين طرفة بن العبد بفارق ألفي سنة؟
(لإن يكون الإنسان نتاج أسباب لاتملك العدة اللازمة لما تحققه من غايات ولإن يكون منشؤه ونموه وآماله ومخاوفه وصبواته ومعتقداته مجرد حصيلة ارتصاف ذرات عرضي؛ ولإن تعجز أي حماسة مشبوبة أو بطولة أو أي حدة في التفكير أو الشعور عن الإبقاء على حياة فرد واحد فيما وراء القبر، ولإن يكون الاندثار هو المصير المحتم لكل عناء الأجيال ولكل التفاني ولكل عبقرية الإنسان المتألقة تألق الشمس في رابعة النهار ، كل هذه الأمور إن لم تكن حقاً غير قابلة للجدل فإنها مع ذلك تقترب من اليقين إلى حد يستحيل معه على أي فلسفة ترفضه أن يكتب لها البقاء ، وعلى ذلك لايمكن بناء موطن الروح في أمان إلا في إطار هذه الحقائق وعلى أساس راسخ من القنوط المقيم).
إن هناك من سبقني إلى الاستشهاد بقول برتراند راسل على اعتبار أنها من مخلفات فكر القرن التاسع عشر الميلادي، ذلك أن الحضارة الغربية تواجه تحدياً خطيراً، بل إن الحضارة الإنسانية هي في حالة تحول وانقلابٍ اليوم! .
جاء في كتاب العلم في منظوره الجديد (ص 15):
(والحضارة الغربية مابرحت منذ عصر النهضة تخضع لسلطان العلم التجريبي. بيد أن النظرة الكونية التي تولدت إبان عصر النهضة تواجه في الوقت الراهن تحدياً من علم القرن العشرين، الأمر الذي يفضي إلى وجود نظرتين علميتين متنافستين).
وهذا التحدي يأتي من أن العالم مقبل على تصور كوني جديد لذا فإن صاحبي الكتاب المذكور عرَّفا هذا التصور للحضارة على الشكل التالي:
(لكل حضارة من الحضارات تصور كوني للعالم، أي نظرة يفهم وفقاً لها كل شيء ويقيَّم، والتصور السائد في حضارة ما هو الذي يحدد معالمها، ويشكل اللحمة بين عناصر معارفها، ويملي منهجيتها ويوجه تربيتها، وهذا التصور يشكل إطار الاستزادة من المعرفة والمقياس الذي تقاس به.
وتصورنا للعالم هو من الأهمية بحيث لاندرك أن لدينا تصوراً ما إلا حين نواجه تصوراً بديلاً، إما بسفرنا إلى حضارة أخرى، وإما باطلاعنا على أخبار العصور الغابرة، وإما حين يكون تصور حضارتنا للعالم في طور التحول) (ص 15) .
إننا نرى في هذا السياق الفكري المكثف فلسفة العلم، فإذا ربطنا بين الفقرتين السابقتين نرى بوضوح أن العالم مقبل على تصور جديد، وهو يودع التصور القديم، وهنا في نقطة التمفصل هذه يجب أن يكون لنا دوراً فيه، وهو قادم بإذن الله.
تعليق واحد