كان هناك شيء جديد يتفتح في أوربا ونور عقلي يتألق، بينما كان الظلام بدأ في الإطباق على العالم الإسلامي على النحو المأساوي الذي انتبه إليه ابن خلدون في المقدمة حينما كتب يقول أولاً في الصفحة (28) عن التحولات الرهيبة التي تحدث ولايتفطن لها إلا الآحاد من الخليقة: (ومن الغلط الخفي في التاريخ الذهول عن تبدل الأحوال في الأمم والأجيال بتبدل الأعصار ومرور الأيام وهو داء دوي شديد الخفاء إذ لايقع إلا بعد أحقاب متطاولة فلايكاد يتفطن له إلا الآحاد من أهل الخليقة ، وذلك ان أحوال العالم والأمم وعوائدهم ونحلهم لاتدوم على وتيرة واحدة ومنهاج مستقر.
إنما هو اختلاف على الأيام والأزمنة وانتقال من حال إلى حال . وكما يكون ذلك في الأشخاص والأوقات والأمصار ، فكذلك يقع في الآفاق والأقطار والأزمنة والدول سنة الله التي قد خلت في عباده).
وعندما يتحدث عن أفول شمس الحضارة الإسلامية يعبر بشكل لايوصف إلا أنه يدلي بشهادة العالم، ولايتبجح أو يحاول إخفاء المرض، بل أنه ينظِّر بتحليق كوني مدهش (ص 33):
(هذا إلى مانزل بالعمران شرقاً وغرباً في منتصف هذه المائة الثامنة من الطاعون الجارف الذي تحيف الأمم وذهب بأهل الجيل، وطوى كثيراً من محاسن العمران ومحاها، وجاء للدول على حين هرمها وبلوغ الغاية من مداها، فقلّص ظلها، وفلّ من حدها، وأوهن من سلطانها، وتداعت إلى التلاشي والاضمحلال أموالها، وانتقض عمران الأرض بانتقاض البشر؛ فخربت الأمصار والمصانع، ودرست السبل والمعالم، وخلت الديار والمنازل، وضعفت الدول والقبائل، وتبدل الساكن، وكأني بالمشرق قد نزل به مثل مانزل بالمغرب لكن على نسبته ومقدار عمرانه، وكأنما نادى لسان الكون في العالم بالخمول والانقباض فبادر بالإجابة والله وارث الأرض ومن عليها، وإذا تبدلت الأحوال جملة، فكأنما تبدل الخلق من أصله، وتحول العالم بأسره، وكأنه خلق جديد، ونشأة مستأنفة، وعالم محدث).
كيف بدأ الخلق ـ علم الجذور
حتى نعرف أين يقف العلم اليوم لابد من معرفة بداياته، أو مايسمى علم الجينالوجيا (GENEALOGY) أو مأشار إليه الفيلسوف الفرنسي المعاصر (ميشيل فوكيه) بفكرة (حفريات المعرفة)، أو على ماجاء في الآية القرآنية: (قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشيء النشأة الاخرة) والتي اتخذناها افتتاحية للأبحاث الحالية.
عندما كانت بدايات البذور العلمية تزرع في التربة الغربية. عندما بدأ النهم الغربي للاستفادة من العلم. عندما بدأ العقل ينبض بالحياة. عندما أشرقت أنوار حرية التفكير العلمي، في وهج النار التي كانت تحرق جسد جيوردانو برونو في فبراير من عام 1600م . كان بعض النابهين يشيرون إلى السلطان العثماني بالتنبه الى يحدث في الغرب كان جوابه (إن سلطان المسلمين لايدخل بلاد الكفار إلا فاتحاً)؟!.
بالطبع كان بإمكان سلطان المسلمين أن يجنب أحفاده الأتراك اليوم أن لايدخلهم بلاد الكفار متسولين عاجزين تابعين مكروهين غير محترمين كالأيتام في مادبة اللئام. لو انتبه للفرصة التاريخية والمناخ العقلي الذي ينمو ويترعرع في التربة الغربية؟ ولكن هل الأمر بهذه البساطة؟
إن ابن خلدون يعلمنا أن الدولة إذا نزل بها الهرم فإنه لايرتفع، بل إن بعض المحللين التاريخين يرون أن نجاة أوربا من سيف السلطان (بايزيد الثاني) الذي كان يهيء حملة بنصف مليون جندي لاجتياح أوربا إلا أنها هوجمت على يد تيمورلنك الأعرج الذي حطم هذه القوة المتأهبة في معركة أنقرة في مطلع القرن الخامس عشر الميلادي (وقعت بتاريخ 20 يوليو تموز عام 1402م الموافق 19 ذي الحجة من عام 804 هـ) في مايشبه (العمى التاريخي) على حد قول البعض، باعتبار أن كلا القوتين كانتا تركيتين وأسلاميتين؟! لشعورهم أن شفق المغيب يغلف الحضارة الإسلامية التي طوقتها يد القدر التي لن تنفك عنها.
لو حدث مالم يحدث فسقطت فيينا في يوم 12 أيلول سبتمبر من عام 1683م بقبضة العثمانيين وردف ذلك انسياح الأتراك في أوربا لربما نقول لربما؟ عضَّل ولادة الحضارة العالمية الجديدة، حيث ينتظرنا غلاف من جو الانكماش الفكري والجمود العقلي، ولوئدت كل العبقريات التي كانت تولد في ذلك الحين من أمثال نيوتن ودافنشي وليوناردو وجيوردانو برونو ، وانتهاءً بآينشتاين وستيفن هوكنج وهايزنبرغ واوتوهان وماكس بلانك ونيلز بور وسواهم منالعشرات الذين كانوا البناة الفعليين للحضارة الإنسانية الحديثة كما عنوّن (ستيفان تسفايج) الروائي النمساوي كتابه (بناة العصر).