
في أقرب وأشبه مايكون من قصص الأفلام السينمائية وقصص الروايات التاريخية، وفي واحدة من القصص الفريدة التي قد لاتتكرر مع أي شخص آخر، ولد الطفل محمد الطيبي في أربعينيات القرن الماضي بإحدى القرى الجبلية بمنطقة العرائش شمال المغرب، إلا أن القدر كان ينسج خيوطه المسرحية حول حياة الطفل إنها أشبه بشخصية إرناندو بطل رواية” la mano de Fátima,” يد فاطمة، لمؤلفه إلديفونسو فالكونس، الطفل عاش طفولة قاسية باحثا عن حنان لم يكد يعرفه يوما بعدما إنفصل والداه مبكرا، فيجد نفسه بين ليلة وضحاها في حضن أسرة إسبانية باسم آخر، خيسوس دي أوليفا ،بعدما ساهمت يد مخزنية خفية في تعقيد حياة الطفل والزج به في أحضان الكنيسة وعوالم التنصير ..عالم طالما كان محمد خيسوس يصر أنه كان راهبا مسلما
لكن محمد خيسوس ما كاد يخرج من هاته المغامرة حتى دخل في مغامرة لا تقل غموضا، عندما إنضم إلى الجيشين الإسباني والمغربي، وبينهما سيقوده حظه التعس، إلى وحشة المعتقل السري، ملتقيا بأسماء لطالما تحدث عنها التاريخ الأمني والعسكري للمغرب، غير جازم في أي خانة تصنف.
إن الهروب من عقيدة إلى أخرى تأتي بسبب دوافع إجتماعية أملتها ظروف زمانية أكثر منها روحية أو بمعنى آخر تفوق المسيحية الإجتماعية على الإسلام الاجتماعي على مستوى الممارسة والفعالية على الأرض، وأحيانا الشخص يفضل روح المسيحية على سطحية الإسلام كما يمارسه الأفراد لنخلص في النهاية أن بناء الإنسان المسلم يجب ان يتم وفق قواعد الإسلام السمح كما أسست له المذاهب الأربعة.
محمد الطيبي أو خيسوس دي اوليفا ضيف هذا الحوار على أنباء إكسبريس، ليحدثنا عن بعض ومضات قصة حياته، إنها قصة البحث عن الذات.
عند قراءتي لكتابك دموع جافة منذ سنوات قد خلت إعتقدت أن قصة حياتك المثيرة للجدل ماهي إلا نقطة من بحر معاناتك التي لم تكشف فيه لنا سوى النزر القليل عن حياتك.
هل يمكن لك أن تخبرنا عن بعض الومضات التي لم تضمنها في دموع جافة ؟
فلقد اكتشفت أنه توجد هذه الممارسات في كلا المجتمعين” المسيحي والمسلم “حيث يستغل الراهب أو معلم القرآن حالة الفقر والعوز لهؤلاء الأطفال من أجل ممارسة تحرشهم، والكثير من الأحيان تصل إلى حد الاغتصاب وهذا ليس للتعميم .
ورفضت إدراج هذه القضية في كتابي بسبب حساسية الموضوع في المجتمع خاصة المجتمع المسلم والتي يعتبرها من الطابوهات، لكن الفرق ان المجتمع المسيحي يتقبل التطرق والنقاش في هذه المواضيع الطابوهاتية والبحث لها عن حلول وآليات ووسائل للحد من انتشار ظاهرة البيلودوفيا، أما في المجتمع الإسلامي فلا يزال هذا الموضوع ضمن الخطوط الحمراء، والكاتب المغربي الراحل محمد شكري كان قد تحدث عن عورات المجتمع المغربي المسلم من خلال ظاهرة التحرش والاغتصاب في روايته الخبز الحافي التي كشفت المستور.
وخلال سيتنيات القرن الماضي أي بعد إستقلال المغرب ،تعرضت لعدة محاولات للتحرش وأنا طفل خاصة وأنني كنت وحيدا وليس لي ظهر يسندني أو يحميني لكن من ألطاف الأقدار أني الحمد لله لم أتعرض للاغتصاب.
وهنا أقول أن العديد من المتدينين من كلا العقيدتين، وأنا لاأعمم في هذا الصدد يستهدفون الأطفال الذين يعانون من صعوبات اجتماعية تكون فريسة سهلة جدا لهؤلاء الوحوش الآدمية، والذين لايمكن تصنيفهم في أي قاموس من قواميس الإنسانية.
من الذي أشار أو إقترح عليك كتابة قصة حياتك؟
الكاتب الراحل الصيباري محمد هو أول شخص أشار علي بأن أترجم قصة حياتي في كتاب وهذا منذ حوالي عشر سنوات، مع أني لم أكن مهتما بإخراج مذكراتي ونشرها على الملأ وبعد ذلك، شجعني الكثير من الأشخاص و الذين نصحوني بكتابة” دموع جافة” والكاتب الراحل الصيباري كان معروفا في شمال المغرب وكان الراحل يكتب باللغة الإسبانية وكان معروفا داخل الأوساط الثقافية الإسبانية، ولقد كتب رواية سماها De Larache Au ciel من “العرائش إلى السماء “،وضع فيها صورتي الشخصية على واجهة الكتاب وانا بلباس الجيش الإسباني فرقة المظليين، وهي رواية خيالية مزج فيها قصتي مع عدة شخصيات
ولابد لي أن انوه بدور زوجتي السيدة فاطمة لوكيلي التي كتبت كتابي باعتبارها إنسانة مثقفة وتتحدث العربية والفرنسية والإسبانية، والتي كان لها دور محوري في إخراج كتابي إلى حيز الوجود.
الأسرة الإسبانية التي إحتضنتك هل كانت معاملتها لك معاملة حسنة؟
كانت معاملتهم لي جد حسنة ولكنهم كانوا يمنون النفس في أن اتخرج راهبا متدينا بعدما أعطت لي الكنسية إسما إنجيليا.
ففي عهد الجنرال فرانكو كانت العائلات الإسبانية التي عندها أحد أبنائها أو أحد أفراد عائلاتها في الكنسية، أو الجيش، يتفاخرون بهم وكانوا ذات شأن اجتماعي في النسيج المجتمعي الإسباني آنذاك.
حدثنا عن تجربتك الإيمانية في الكنيسة ؟ وكيف إستطعت الحفاظ على هويتك الدينية الإسلامية في ظل هذه المعاناة ؟
حقيقة أنني لم أتأثر إطلاقا بأفكار وممارسات الكنيسة، ولم يتسرب الشك في قلبي أن دين الإسلام هو دين الفطرة ودين الحق، رغم أني كنت لازلت صغيرا ويبدوا أن دراستي في الجبل بإحدى الدور القرآنية كانت سدا منيعا لي في أن أعتنق أفكار المسيحية.
إلا أنه لابد أن أشير أن فترة تجربتي في الكنسية وجدت الإنسانية من خلال المعاملة الحسنة التي كانت إدارة الكنيسة توفرها لنا، والتي لم أجدها في المجتمع المسلم وأنا طفل.
حدثنا عن تجربتك في الجيشين الإسباني المغربي؟
تجربتي في الجيش لايمكن أن الخصها في كلمات أو سطور ،لكن تدريبات الجيش الإسباني خلال فترة تجنيدي الإجباري بعد أن تركت الكنيسة ولم أكمل فيها سنوات التخرج ،كانت تدريبات جد قاسية وعلى أعلى مستوى وكان الضباط يضربون الجنود لأتفه الأسباب، وبعد ذلك إنخرطت في فرقة المظليين وكانت تعتبر من الفرق النخبوية داخل السلك العسكري الإسباني.
أما تجربتي في الجيش المغربي فجاءت في ظروف إعتقالي بعدما دخلت إلى المغرب في عطلة ودخلت بصفة مواطن إسباني، لكن يمكن القول إن الجيش المغربي في زمني كان يخضع لمعايير طبقية، ولاأريد التفصيل في هذا الموضوع، إلا أن الجندي المغربي يتميز بالشجاعة والإقدام وعدم الخوف وهذا مالامسته من خلال الفرقة التي كنت أنتمي فيها انذاك.
حدثنا عن تجربتك في المعتقل بعد دخولك المغرب ؟وهل صحيح أن هناك شخصيات أمنية و عسكرية معروفة بالمغرب حققت معك ؟
كما قلت لك سابقا فبعد أن دخلت المغرب، دخلت بصفة مواطن إسباني وكانت أيام عطلة وكان الناس في منطقتي تغمرهم الفرحة والسعادة باعتبار اني إبن منطقتهم وربما هذه الفرحة هي التي أوصلتني إلى المعتقل، بإعتبار أني دخلت إلى المغرب بعد سنوات من الغياب فكانت الأجهزة الأمنية آنذاك، في حالة من الترقب والشك بسبب الوضع السياسي المتأرجح آنذاك في مغرب السبعينيات، وبعد ذلك إعتقلوني للتحقيق والاستنطاق وأرسلوني إلى العاصمة الرباط، وحققوا معي لأيام وشاهدت مدير أمن آنذاك الجنرال حسني بن سليمان في قاعة التحقيق، إلا أنه لم يشارك في إستنطاقي.
وبعد أيام أفرج عني وأصبحت تائها متشردا في شوارع الرباط فقررت الانخراط في الجيش المغربي، من خلال توصية من المارشال أمزيان فهو الذي أدخلني في الجيش بعدما عرف اني أتكلم الإسبانية بطلاقة ومن سخرية الأقدار أن المارشال أمزيان كان اليد اليمنى للجنرال فرانكو والرجل الثاني في إسبانيا بعد فرانكو ..فأرسلوني بعد ذلك إلى السيد عبدالقادر لوباريز مؤسس فرقة المظليين بالجيش المغربي لكي إنخرط بشكل نهائي في الفرقة.
قصتك فيها جميع مقومات عناصر الفيلم السينمائي ،هل وفدت عليك عروض لترجمة تجربتك من خلال فيلم أو مسلسل ؟
صحيح، العديد من الصحافيين والمثقفين وأيضا الجمهور شجعوني على أن تكون قصتي عملا سينمائيا أو مسلسلا تلفزيونيا، وصراحة لم يتقدم أحد من الوسط الفني أو السينمائي لكي يبلور هذا العمل على أرض الواقع، سوى المخرج التطواني محمد اسماعيل الذي كان يريد إحتضان القصة وتحويلها إلى عمل تلفزيوني إلا أنه في نهاية المطاف إعتذر بسبب عدم وجود تمويل من الجهة الوصية وأيضا عدم تحمس المنتجين لهذا النوع من القصص .
ولابد أن أشير إلى أن الصديق محمد المرزوقي الذي قضى أكثر من 18 سنة في سجن تازمامارت، عنده مشروع أدبي من خلال إستلهام قصتي وتوظيفها في رواية.
كيف ترى الواقع الاجتماعي اليوم في المغرب بعدما مررت بتجربة إجتماعية أليمة في الماضي؟
اليوم أنا أعيش في إسبانيا وأعيش بشكل جيد وبتقاعد مريح، وليس عندي معلومات عن الوضع الاجتماعي في المغرب بسبب عدم إستقراراي فيه اللهم من خلال وسائل الإعلام.
لكن لابد أن أشير إلى نقطة مهمة ألا وهي قضية الأطفال القاصرين في المغرب، هذه اعتبرها مشكلة عويصة بالنسبة لي، فالمجتمع هو المسؤول الأول والأخير عن هذه الظاهرة رغم أن الدولة بذلت المزيد من المجهودات لإخراج آليات ووسائل للحماية الاجتماعية لهذه الفئة من المجتمع ومن خلال وجود تشريعات وقوانين للحماية الاجتماعية، إلا أنها أيضا لاتفعل بالشكل المطلوب على أرض الواقع .
ماأريد قوله أن المجتمع هو المسؤول فإذا كنت لاتقدر على تحمل المسؤولية فلا تظلم أولادك وتتركهم فريسة سهلة للاقدار فقضية الأطفال المغاربة القاصرين غير مصحوبين مع ذويهم أضحت هنا مثلا في اسبانيا وصمة عار في جبين المجتمع المغربي، وفي جبين الدولة أيضا والتي يجب عليها أن تضع حدا لهذه العبثية التي يكون فيها الطفل ضحية لظلم والديه بدون أدنى تحمل للمسؤولية فتكون تبعات هذا القرار على مستقبل الطفل جد وخيمة
كلمة أخيرة
أتمنى من بلادي مزيدا من التقدم والازدهار والرقي والنجاح، وأن يديم على بلدي الحبيب المغرب نعمة الأمن والأمان والاستقرار.
ولايفوتني أن أشكر السيد عبد الحي كريط على صبره وسعة صدره ﻷجوبتني وأشكر جريدة أنباء إكسبريس على إهتمامها بقصتي.