إنّ الزمان الذي ما زال يضحكنا أنساً
بقربكم قاد عاد يبكينا
توطئة:
الحديث عن الجرح الغائز الذي بقي في نفوس الأمة العربية والإسلامية لفقدان درة كل الأزمنة والأمكنة «الأندلس» المفقود، بكل صراحة، مرّ، صعب، جارح ويطفح بكل المشاعر المحزنة إلى سطح الأنفس ليؤرقها أيما أرق. سالت الأحبار والأخبار عن تلك الحقبة وكُتبت الراويات والحكايات عن الفقد الجلل، وعن خروج العرب و ملوك بني أمية من جنائن طيبة وحدائق غناء، بعد أن مضوا فيها ما يقارب الثمانية قرون، فحلوا ببلاد المغرب لاجئين، صاغرين وكانت النظرة الأخيرة إلى تلك البقعة من التلال، حيث بكى الملوك وندب الأمراء حظهم حتى جاء قولة شهيرة: أما آن لهذا الفتى أن يترجل!
أتيت إلى مراكش وكنت من راويات عبد الله بن عرفة، التي تسمى بالروايات ال…..، أن ابن الخطيب، أسر وعذب وقتل بالمغرب وأن العديد من ملوك الطوائف لجؤا إلى المغرب بعد أن أحكم الطوق عليهم من قبل ملوك القتشاليين. فمن بقي هناك كان لابد له أن يتنصر ومن عصى فكانت العصى هي السلطان. رحلوا وبقوا في شمال المغرب وتشتتوا إربًا إربا بين مدينة تطوان في شمال المغرب وطنجة ودخلوا حتى إلى بطون المدن المغربية حيث سلا والرباط والدار البيضاء ولغاية مراكش.
أشبيلية وجراج المدينة المنسية:
كثرت الأوصاف عن حال أجمل مدن الأندلس، وكتب رضوى عاشور عنه وكما نجد الكثير من صائف التاري تحيك تلك الفترات في ثوب رثاء، وجدت مقالاً صحفيا لإحدى الزميلات عائشة بلحاج، وهي تصف في مقال لها بعنوان «إشبيليّة .. فستان الأندلس المزركش قبل أن يجور الزمان على العرب به، قائلة:
«حالما تصل إلى المدينة القديمة في إشبيلية، تفاجئك الأزقة الضّيقة والمعمار الذي يُشبه، إلى حدّ كبير، مدن المغرب القديمة. لكن مع فارق العناية، التي لا تقتصر على حيّ دون آخر، أو مدينة دون أخرى. بمجرّد أن تجد قدماك نفسيهما في الطريق إلى الحيّ التاريخي، الذي يضمُّ الخيرالدا والقصور الملكية، وبنايات أخرى تجمعها السّمات المعمارية نفسها، والصّلابة التي تُشعرك بالأمان، فأنتَ في حضرة تاريخٍ لا يقبل التّدليس رغم المظاهر الخادعة. أنتَ في حضرة إنسان مبدع استطاع، قبل قرون كثيرة، أن يبني بحماسٍ وهمّة وأمانة مثل هذه الصُّروح، بينما يبني الآن عماراتٍ تقع بمجرّد الانتهاء منها، أو قبل ذلك، ويتشقّق معظمها على مر السنين. بسبب هلع الرّبح والجشع اللامتناهي، صارت الحيطان، بين شقة وأخرى، هُلامية، هناك إيحاء بوجودها، لكنها لا تؤدّي المطلوب منها، وهما الحميمية والحماية.»
بكاء المدينة على تاريخ العرب:
وتسترسل حكاياتها المبكية عن هذه البقعة التي بصم المسلمون بأرواحهم وقلوبهم على صفحات حواريها وحارتها، على شوارعها ومجراتها، على أهداب أشجار الزيتون وعلى صفق الليمون وفوق أعين برتقال الحب ولارينجا الجمال. لتقول: «إشبيلية جنّة الفلاح المنكوب. حيثما تذهب تستقبلك الفساتين المُزركَشة والمُكَشكَشة الملتفّة حول جسد راقصات الفلامينكو في السّاحات والمطاعم والمقاهي. لا تتوقّف الحفلات التي تحتفي إلى نهاية الزمن، بأشجان الفلّاح المنكوب، وهو أصل تسمية الفلامينكو حسب بعض الروايات. الفلاح الأندلسي الذي طحنته الآلات الجهنميّة لمحاكم التفتيش، أبشع ما ارتكبته البشرية في العصر ما بعد الحجري. رغم أنّ روايات أخرى تُرجع تسمية الفلامينكو، الذي نشأ في القرن الثامن عشر، إلى أصولٍ أخرى، لكنها تُجمع على التأثير الأندلسي والموسيقى العربية عليه، سواء في طريقة الغناء من الحُنجرة، أو في غيتار الفلامينكو وتأثره بالعود، ولعله أخذ بعض رقصاته من الغجر الذين تشارك معهم الموريسكيون مرارة الإقصاء، بعد نهاية العصر الإسلامي في الأندلس.»
تحكي لنا صفحات التاريخ أن هذه المدينة الساحرة أشبيلية قد شهدت ملاحم وفظاعات لا تعد ولا تحصى، بيد أن روحها وعبق أنفاسها المسالمة بقيت كما هي مع مرور الأيام والقرون، تبث الحب والجمال والسلم والسلام بطعم سكر برتقالها المتورد وبأريجها الفواح الذي يفوح في كل أنحائها بفصل الربيع. وبعد كل هذا تظل هذه الحسناء جريجة إذ أنها كانت حاضرة الشعراء والأدباء والعلماء الذين أتوا أليها من كل صوب وحدب. لن تنسى المدينة ريشة وأبيات ملكها المعتمد بن عباد الأندلسي، الذي ولد وعاش في قصره أميرًا وملكًا، ولاقته المنية بعيدًا عنها بقلعة أغمات قرب مراكش، والتي أزورها الآن وسوف أسلك طريقي لأقف على قبر هذا الأيقونة الشعرية وعلى تاريخها التليد.
المعتمد بن عبَّاد الشاعر والملك:
أبو القاسم المعتمد على الله محمد بن عبَّاد (وكذلك لُقِّب بـالظافر والمؤيد) (431 هـ – 488 هـ / 1040 – 1095م)، أمير دولة بني عباد في الأندلس، كانت فترة حكمه بين 461 هـ – 484 هـ/1069 – 1091م. اسمه الكامل محمد بن عباد بن محمد بن إسماعيل بن قريش بن عباد بن عمر بن أسلم بن عمرو بن عطاف بن نعيم اللخمي أبو القاسم المعتمد على الله. ورأى مولده النور في عام431 هـ/1040م بمدينة باجة الأندلسية ولاقته المنية وهو غريب الوجه واليد واللسان، بضواحي مدينة مراكش في قلعة أغمات في ١١ شوال من عام 488 هـ/أكتوبر 1095م. وهانذا في هذه المدينة مراكش وأحس من على البعد تلك الآهات وعقدت العزم أن أقف بضريحة وأن أقرأه السلام وأسال، كيف كان كل ذلك وكيف رميتم بالدرة أولئك؟ تدور برأسي أسئلة كثيرة وأحاديث غزيرة سوف أتطرق لها عندما تطأ قدماي أرض الضريح، ولي عودة في ذلك.
طابع بريدي إسباني يخلد ذكرى الملك الشاعر المعتمد بن عباد
المعتمد بن عباد هو ثالث وآخر ملوك بني عبَّاد في الأندلس، وابن أبي عمرو المعتضد حاكم إشبيلية، كان ملكاً لإشبيلية وقرطبة في عصر ملوك الطوائف قبل أن يقضي على إمارته المرابطون. ولد في باجة (إقليم في البرتغال حالياً)، وقد خلف والده في حكم إشبيلية عندما كان في الثلاثين من عمره، ثم وسَّع ملكه فاستولى على بلنسيا ومرسية وقرطبة، وأصبح من أقوى ملوك الطوائف فأخذ الأمراء الآخرون يجلبون إليه الهدايا ويدفعون له الضرائب ويحتفون به وبملكه في كل المحافل آتين إليه من كل حدب وصوب. وقد زعم شاعره أبو بكر بن اللبانة أنه امتلك في الأندلس 200 مدينة وحصن، وأنه ولد له 173 ولداً. لقد شغف هذا الملك الشاعر بالعروض ونظم الأبيات وقوالب الشعر وأوزانهه، ويحكى أنه كان يكرس الكثير من وقت فراغه ليجالس أهل الأدب والشعر والمعارف من العلماء والمفكرين، وحظيت مجالسه بالكواكب منهم، فظهر في عهده العديد من الشعراء الذين ذاع صيتهم في كل أنحاء الممالك العربية بالأندلس مثال أبي بكر بن عمَّار وابن زيدون وابن اللبانة وغيرهم ممن أثروا المكتبة العربية بتحف لا تقارن وكنوز لا يشق له غبار. وقد ازدهرت إشبيلية في عهده، فعُمِّرت وشيدت وبان العز في كل أرجائها فكانت الحدائق الغناء والمجارى السلسبيلية والمعمار العصري الذي لم تعرفه الأندلس من قبل وغير ذلك من صفات الرفاهية والهناء والرغد. وفي خلال فترة حكم المعتمد، حاول ألفونسو السادس ملك قشتالة مهاجمة مملكته، فاستعان بحاكم المرابطين يوسف بن تاشفين، وخاض معه معركة الزلاقة التي هزمت بها الجيوش القشتالية. لكن في عام 484 هـ (1091م)، شنَّ يوسف بن تاشفين حرباً على المعتمد، فحاصر إشبيلية، وتمكَّن من الاستيلاء عليها وأسر المعتمد، ونفاه إلى مدينة أغمات في المغرب حيث توفّي أسيراً بعد ذلك بأربع سنوات. رغم ذلك، فقد أثار إسقاط يوسف بن تاشفين لإمارة بني عباد الكثير من الجدل بين المؤرّخين قديماً وحديثاً، ووُجِّهت انتقادات كثيرة له لما فعله بالمعتمد.
(يتبع)