آراءالشرق الأوسط

معركة غزة.. هل ستكون آخر المعارك؟

فصل آخر من العدوان على غزة

التصعيد العسكري الذي قادته القوات الجوية للاحتلال ضدّ غزّة، يعكس أزمة سياسية حادة يعيشها الكيان. لكنه دخل في عملية استهلاكية تكتيكية كلّفته صبيبا من الصواريخ على مطار بن غريون وعسقلان وأسدود ومناطق أخرى، حساسة من قبل سرايا القدس.

في حرب العلامات يتحدث الاحتلال عن عمليات الفجر الصادق، مع أنّ الاحتلال هو أكبر كذبة في المنطقة، ويسعى لحشر المقاومة الفلسطينية في عناوين تنميطية، في محاولة لاختزال شرعية المقاومة لشعب مظلوم وأرض سليبة، في تنظيمات هي إفراز للشعب الفلسطيني وليست تنظيمات مفتعلة سقطت من كوكب بعيد.

وكان الاحتلال قد استهدف قبل يومين قائد شمال غزة بسرايا القدس الشهيد تيسير الجعبري، مما جعل الوضع يشهد تصعيدا مفتوحا، وقد واصل الاحتلال قصف عدد من المنازل كما استهدف ساكنة في غزة أسفرت عن سقوط قتلى وجرحى من المدنيين.

يحدث كلّ هذا العدوان تحت أنظار ومسامع النّظام الدولي، ولا مجال للحديث عن جامعة الدول العربية، فالدعوة لتخفيض العنف دعوة بالية، لأنّ الذي يحتكر العنف في أرض محتلة هو الاحتلال نفسه، وبأنّ الاحتلال يدرك كما يدرك الجميع أنّ العنف هو وسيلة الاحتلال في تعزيز وجوده وبقائه. فبين الاحتلال والعنف علاقة لزومية خاصة، لا تحتاج إلى قرينة، لكن النّظام الدّولي مشغول عن غزّة، بل أكد على فشله في مواجهة جرائم الحرب التي يقوم بها الاحتلال ضدّ المدنيين.

ولا زال الاحتلال يكرّر مغامراته الفاشلة، ويسعى من خلال هذا العدوان، خوض ما تبقى من حرب نفسية ضدّ المقاومة، فعل ذلك قبل هذا في عدوان متكرر على التراب السوري وانتهى بعدوان آخر ضد غزّة، ليبقى السؤال: هل يملك الاحتلال قدرة على جعلها حربا مفتوحة؟ لو كان يملك هذه المبادرة ويحتكر قرار الحرب لبدأ عدوانه على المواقع الأكثر إلحاحية اليوم في تحدّي الاحتلال، لكن ولأسباب تكتيكية، يخوض حربه الاستعراضية على غزّة العزلاء.

تصبح الحرب أحيانا علامة على إخفاق كبير، وهشاشة ناجمة عن تراجع كل الانتظارات التي سعى الاحتلال لجعلها عنصرا من عناصر الإقناع، فالاحتلال لا زال عاجزا عن الخروج من عنق الزجاجة، وهو يسعى عبر همروجة التطبيع والدعاية، لكي يقدم نفسه كيانا طبيعيا في بحر من الأمم لا زالت تنظر إليه كاحتلال، ليس له الحق أن يصنف أو يحكم على التنوع داخل الأراضي المحتلّة، فكل ما يصدر من أرض محتلّة برسم المقاومة، يكتسب شرعيته من الأمة التي ترزح تحت نير الاحتلال.

يهدر الإحتلال كل طاقته وموارده في مُعاوضة فشله التّاريخي بعمليات استعراضية وأحلام يقظة لعل أبرزها إقناع نفسه بغباء بأنّه يستطيع أن يُطبّع وضعه داخل إقليم يلفظه، فالاحتلال ليس وجهة نظر، بل هو حقيقة بديهية مرفوضة بالطبيعة، سيصبح الإحتلال رهينة لما سيضيفه إلى هشاشته المبدئية دخوله النادي النّفطي، وما تعلقه الإمبريالية على هذا المخزون من آمال في أفق أزمة الطاقة العالمية، إنّ جسد الإحتلال يتهيّأ أكثر لمستوى جديد من التّحدّي.

لم يعد يمتلك الاحتلال مبادرة إعلان الحرب، ما عدا ما بدا منها تكتيكيا لتأكيد الحضور أو خوض حرب نفسية فقدت عناصرها الأساسية، الحرب على غزة لن تكون سياحة، وفي كل معركة سيتأكد بأن الاحتلال يعيش العدّ العكسي، وبأنّ ما يراه الاحتلال بعيدا تراه المقاومة قريبا، وأنّ ما سمي بالفجر الصادق، هو الفجر الكاذب الذي يعقبه الفجر الصادق الذي وحدها المقاومة تملك أن تتبين فيه الخيط الأبيض من الخيط الأسود.

التصعيد ومُلازِمة الاحتلال
من غزّة إلى القدس

باتت المشهدية غارقة في المفارقة، في حين أنّ المتغيّر الأساسي في المعادلة هو حال الشعب الفلسطيني، وهو يوجد تحت النّار، والنّار هنا لا تمزح، إذا أخذنا القضية الفلسطينية كدّالة رياضية، فهذا يعني أنّ المتغير المتحكم في مصيرها هو الشعب الفلسطيني ويوميات كيّ الوعي التي تُمارس عليه وعلى الشعوب العربية، بأشكال مختلفة.

ويبدو أنّ المفارقة هي عنوان عجز عن حلّ معادلة باتت من نوع درجتين، ولذا هي تتجه عبثا نحو أنماط من الخطاب، بلا أفق تاريخي، هناك بحث عن لغة جديدة: غزّة تعتدي على الإحتلال، والإحتلال يدافع عن نفسه، والحصيلة خراب في البنيات التحتية وسقوط قتلى وجرحى من المدنيين الآنديجين، في أفق ظهور وساطات، غالبا ما تأتي من تركيا وقطر ومصر، بموجبها تصبح حماس واسطة بين الاحتلال والجهاد، وهو دور يتنامى في اتجاه اختزال الكفاح الوطني الفلسطيني وجعله نزاعا بين احتلال وفصيل، خطوة دارت منذ سنوات في رأس بيريز، وآن الأوان لتنفيذها، في إطار شرق أوسط فقد فيه الاحتلال الاستفراد بقرار الحرب، برسم السلطة مقابل السلام: سلطتان، وحتى ثلاث إن اقتضى الحال.

الإقليم مرتبك، والسياسة الدولية مضطربة، والاحتلال حائر أمام الآندجين الذي لم يفهم بعد بأنّ الشّرعية يمنحها التّقادم، لم يتعلموا الدّرس، فهم يقاومون الاحتلال الذي بات حقّا طبيعيا وفق قانون دارويني غير عابئ بغير القوة.

بايدن همس في أُذن محمود عبّاس بأنّ المسيح وحده يمكن أن يحلّ انتظارات الفلسطيني، لكنه يجهل القصة الكاملة، ودور الإسخريوطي في إفشال مهمّة المسيح. القانون الدّولي في إجازة، وهو بذلك يؤكد بأنّ الاحتلال هو العلّة التّامة للمقاومة نفسها، وبأنّ المقاومة لم تنبت جزافا في أرض محتلّة، الإحتلال=الآبرتهايد= العنف.

إنّه زمن المفارقات، وكان للتاريخ مكر تزول منه الجبال، ثمة خطة تقوم على اختزال الصراع في فلسطين المحتلّة، لتحرير القرار الحمساوي من طهران، لكن أصحاب هذا المخطط مستعدون أن يدفعوا أكثر لحماس، فقط طالما يتعلق الأمر بالمهلبية والمرطبات والأجور، لكنهم لن يكونوا بديلا مثاليا عن طهران، لأنّهم لن يزودوا حماس بالصواريخ، ولا حماس يمكنها أن تتخلى عن السلاح، لأنّها ستخسر كلّ شيء، ما العمل؟ هناك مفارقات يصعب حلّها بالتحليل السياسي، لكن بشعر مُظفّر نعم.

الاختزال شعبة من شُعب المغالطة، وفي إدارة معارك الوعي الممزوجة بالدّم والخراب، بات الصراع العربي-الإسرائيلي صراعا بين الاحتلال وفصيل، وسيضربون كل شيء تحت عنوان استهداف سرايا القدس، ولو اقتضى الأمر استهداف المدنيين، ولن يمسّوا هذه المرة حماس ومقرّاتها، هل هو يا ترى محاولة لضرب مشروع حوار الفصائل الفلسطينية؟

بدا الاحتلال محشورا في زاوية يفرضها مكر التّاريخ. يسعى الاحتلال إلى تأكيد هيبته، لكنّها هيبة احتلال في أفق مبهم. هناك سعي حثيث لقوى دولية وأخرى إقليمية لاستدراج حماس لمواقف تشبه تلك التي استدرجت إليها منظمة التحرير الفلسطينية، وهذا يقتضي ما تروج له بعض وسائل الإعلام، أي تحرير حماس من المحور الإيراني، مرة أخرى اختزال المسألة الفلسطينة.

وهنا يكمن مكر التّاريخ، حيث يبدو أنّ المطلب الأخير يحيلنا إلى مفارقة لا مخرج منها: فحماس التي حملت السّلاح بعد سنوات من ظهور حركة الجهاد، لا يمكنها أن تحافظ على نفوذها الاجتماعي، إن هي تخلت عن المقاومة، وخصوم إيران يستطيعون تحرير حماس من الدّعم الإيراني، فيما لو تعلّق الأمر كما قلنا بأجور الموظّفين، والإنفاق على المقرّات والمهرجانات والمهلّبية والمرطبات، لكنهم وقد ذهبوا بعيدا في التنسيق الأمني مع الاحتلال، لن يستطيعوا أن يكونوا بديلا عن إيران في مدّ حماس بالسلاح.

تتحدث وسائل إعلام كثيرة عن المعضلة الإيرانية بخصوص القضية الفلسطينية، ولو تجاوزنا انخراط القادة الإيرانيين في العمل الفلسطيني قبل الثورة، تماما ككلّ القوى الشعبية على إمتداد العالم العربي والإسلامي، واعتبرنا أنّ القضية الفلسطينية تفجّرت في أربعينيات القرن الماضي قبل عشرات السنين من قيام الثورة الإيرانية، حيث النكبة والنكسة وحرب تشرين كلها جرت في زمن التطبيع بين الإحتلال وإيران قبل الثورة.

إن كان لهذا الخطاب من مفهوم، فهو أنّهم يسعون لتصفية القضية الفلسطينية، وهذا يتوقّف اليوم في نظرهم على تخليص القرار الحمساوي من القرار الإيراني، فهم يعتبرون أنّ القرار في هذه المناطق بيد طهران، لذا يحاولون إقحام القضية الفلسطينية بطريقة ما في أجندة التفاوض حول الملف النووي، حماس أقرب لقطر وتركيا منها لإيران، فافهم.

أتجاوز هذه الحكاية لأنّها واضحة لا تحتاج إلى مزيد من البراهين، لبداهتها، ولكن ما يتردد هنا وهناك، هو استدراج حماس لأن تكون عنصرا وسيط بين الاحتلال والجهاد مقابل اعتراف وتعزيز لتمثيليتها في غزّة، وهذا في إطار المحاولة التي تسعى إليها بعض الأطراف العربية لاحتواء حماس، على المنهجية نفسها التي أتبعها الاحتلال مع منظمة التحرير، خطوة خطوة حتى جحر الضّب.

وجب التأكيد على أنّ الخطاب يجب أن يتطوّر أكثر، أي عدم انتظار مواقف من الدول العربية في مثل هذه الوضعية الإقليمية وتضارب الرهانات والمصالح، الدّول العربية لم يعد بإمكانها فعل شيء ما عدا التعبير عن مواقفها ببيانات جامدة، وهم جميعا لم يبرحوا مستوى البيانات، وضعفهم واضح من خلال تحويل النّقاش إلى مزايدات فارغة.

اليوم لا يكفي المزايدات، فمن لم يسلّم الفصائل المقاومة صواريخ، عليه أن يعرف حجمه الحقيقي في معادلة الصراع الصعبة. والتحدي اليوم خرج من معادلة النظام العربي الرسمي، إنّه تحدّي في الميدان.

لا أحد يمكنه أن يفرض خيار قلب الحسابات والموازين غير سواعد الفدائيين. يظلّ السؤال: هل ستنخرط حماس في هذه المواجهة، ولا تعيد أخطاء منظمة التحرير الفلسطينية؟ هذا ما تراءى للبعض، غير أنّه وبالعودة إلى مكر التّاريخ، فإنّ حماس ستواجه استحقاقات المرحلة، ولن تملك خيار النّأي بالنّفس وكأنّ المشكلة هي بين الاحتلال والجهاد، لأن ذلك لن يكون في مصلحتها.

ما زاد الطين بلّة هو اقتحام المستوطنين للمسجد الأقصى تحت أنظار قوات الاحتلال، وفي ظرف يعيش فيه الاحتلال أزمة سياسية ومشكلة الإنتخابات، وفي ظلّ هذا الوضع من التصعيد، ستظهر علائم كثيرة تؤكّد أنّ الاحتلال هو احتلال، وأنه في نوبات عنفه لن يفي حتى لمواثيق التطبيع القاضية بالتطبيع مقابل صيانة الحق الفلسطيني، وأنّ ملازمة العنف هي سمته الوحيدة، لأنّ في فلسطين يوجد شعب، وحول هذا الشعب توجد شعوب، وبأنّ الالتفاف على الحقّ الفلسطيني مآله هو الدوران في حلقة مفرغة. فلا شيء يوقف عنف الاحتلال سوى المقاومة، ولا شيء سيوقف إرادة شعب يكافح الاحتلال سوى التحرر.

المعادلة الجديدة اليوم في ضوء الدّالة المذكورة، هي أنّ فصائل المقاومة الفلسطينية تُثَبِّتُ حقيقة هذا التحول الاستراتيجي في موازين القوى، ألا وهي إنهاء عهد اتخاذ قرارات الحرب بشكل منفرد، وبأنّ تصعيدا كهذا، سيعزز هذه المعادلة، لأنّ الاحتلال على الرغم من الحرب النفسية والبروباغاندا الواسعة، هو في حالة ضعف، وبأنّ كفاح الشعب الفلسطيني في تنامي لا يوقفه شيء.

الوجه الآخر للحقيقة

إن جدلية الصّراع تعني اجتماع النقيضين على مطارح ومُتعلقات مختلفة، إن النقيضين لا يجتمعان حتى يتحلّلان معا لصالح مركب جديد، وإن بقيا فهما على منحى اجتماع الأمر والنّهي عند الفقيه.

الصراع جدل مفتوح، ولا يمكن قياسه بالتّكهّنات التي لا تتجاوز أرنبة الأنف في تشخيص الآماد البعيد منظوريا والقوانين الخفية قوويا، ستنبؤكم الأيّام عن حقائق قد تصدم المولعين بعالم ما تحت قوانين الميكانيكا، غير أنّ من يقرأ قوانين الكّم، سيدرك بعضا من تلك المؤشّرات.

دورة أخرى أو لنقل وصلة أخرى من المعارك دارت رحاها في غزّة وامتدت حتى بلغت مناطق أخرى بفلسطين المحتلة، في عدوان غاشم واستعمال للقوة المفرطة ضدّ المدنيين وضد مواقع منظمات الكفاح الوطني، انتهت عبر وساطة مصرية مشهودة بوقف إطلاق النّار، ولا حدود للمفارقات، فالوساطة تعني أنّ مصر برسم مخرجات كامب ديفيد وبفعل التقادم اكتسبت سلطة الوساطة، باتت تلعب دور الوساطة كما طلبت منها دول عربية عديدة، ومنها أيضا حماس.

هنا مفعول التّقادم ينتهي بمفارقة كذّاب كريت مرة أخرى: إن صدق كذب وإن كذب صدق، الوساطة محمودة، ولازمتها منكرة، لم ترتفع عقيرة المناضلين بالمراسلة، ولا وقفوا عند هذه الفدلكة. الوسيط كالوسط المنطقي تثبت به الكبرى للصغرى، التطبيع يوجد هنا، ترى من منح مصر سلطة الوساطة؟ إنّه التطبيع. ولكن التقادم ينتهي برسم تصنيف جديد بين الأنواع والأجناس.

هذه النكتة أريد بها وضع المعادلة في الضوء، وأقرأ بها عنتريات أولئك الذين لا يقرؤون الحقيقة من كلّ الجهات، وفجأة يتحوّلون إلى براغماتيين من دون اتفاق.

ستكتشفون أنّ السياسات العربية تقوم على مبدأ التّقادم، وبأنّها أجبن من أن تقول: التطبيع ملّة واحدة، سواء المعلن منه والمبطن، الجاري فوق الطاولة أو تحتها، وحتى المناضلون بالمراسلة هم من حيث التصنيف وابتلاع طعم التقادم، هم مطبعون بالقوة ونوعا ما بالفعل، إنّ النّضال ليس مسرحية مفتوحة على ركح المزاج، بل هو الجدّ لا الهزل. الفرق بيننا هو أنّنا نرفض كلّ أشكال التطبيع، ولا نمنح قيمة للعبة التّفاضل والامتياز فيما به الاشتراك.

فالتطبيع هو التطبيع ، والاختلاف مراتبي تشكّكي. وما بدأ خجولا ينتهي إلى الإعلان، هو مسار تكاملي، حين تصبح المفارقة ثابتا في التحليل السياسي، ندرك أنّ غريزة التضليل وعرق العبودية الدّسّاس يجد له امتدادا في الوعي، ففي الهجاء المُفرط مكر لإخفاء التضليل، وأنّ الراديكالية المفتعلة تخفي الرغبة في ضرب أخماس في أسداس. لازلنا نتلكّأ في إرادة المعرفة والشجاعة من أجل الوجود.

النّضال شُعبة تأبى التّدكين ومنطق المُتاجرة والكيل بمِكيالين والتّعنتُر بمِخيالين، نعم، إن كان ولا بد أن تحصي الفروق بين أنواع التطبيع، فإن بعضه لا يصل حد منع الرأي الآخر، ومنح صك احتكار التعبيرات المتواصلة لبعض رخويات النضال بالمراسلة، في لعبة تكاملية.

وقد رأينا أن محتكري دكاكين الإحتجاج يجزؤون مصفوفة النضال، رأيناهم كيف شيطنوا سوريا حد التآمر عليها، كما شيطنوا روسيا، ودافعوا عن أوكرانيا التي أيدت العدوان على غزة، مفارقات دكاكين النضال باتت مكشوفة.

تمت الهدنة بين المحتل والجهاد، وتم الإقرار بشروط الجهاد، وهذا عنوان نصر جديد، فلقد كانت بالفعل عدوانا سافرا، أيّا كانت تفاصيلها، فهي جريمة في حقّ الفلسطينيين جميعا، لأنّ الذي يقودها هو إحتلال، والإحتلال مبدئيا هو إجرام، والضّحية مدنيون وفدائيون ومنظمات مقاومة، تلك منظمات تعكس إرادة شعب يخضع للاحتلال، هل نحن في حاجة إلى قاموس جديد؟!

حركة الجهاد وحماس، ونحن لا نعرف إن كان هناك تنسيق أم لا، وإن كانت المعلومات الموثوقة تؤكد وجود تنسيق من هذا القبيل، ولكن ما بات واضحا، وكان واضحا، أن الجهاد خاضت معركة من دون حليف حمساوي، بينما حين كانت غزة مستهدفة وحماس مستهدفة، كانت الجهاد حاضرة، يحتاج الأمر إلى توضيح لا إلى تأويل.

الاحتلال نفسه اعتبر نفسه نجح في المهمّة، حين فصل بين الفصيلين كما عبر مسؤولوه. ولكن هذا في الوقت نفسه، انتصار للجهاد، لأنّها ظهرت كقوة في المعادلة، وبات واضحا أنّ الجهاد ليست كما حاولوا تصويرها منذ سنوات، بأنّها قوة ثانوية، فالجهاد بدأت المقاومة المسلحة قبل حماس، وعلى هذا الأساس تشكّلت.

ساهم إعلام الإخوان في وضع التباسات كثيرة على الجهاد، الإخوان الذين يركبون اليوم موجة انتصار الجهاد، كانوا يعتبرون قادة حركة الجهاد مجرد عملاء للصفويين وأمّا في الثمانينيات، فكانوا يعتبرونهم عملاء للمجوس.

إخواننا أنفسهم الذين يلعبون على كلّ الحبال، ويلتفون على التاريخ الذي نحفظه جيدا بكل تفاصيله المؤلمة، سوف يركبون موجة الجهاد التي تحاشوها في إعلامهم المشبوه، لأنّ المقاومة لم تكن هي الهدف الأسمى، بل مصير الجماعة والسلطة وما لم يعد يخفى خلال العشرية الأخيرة من الغدر.

الآن وقد انتصرت حركة الجهاد، وأظهرت أنها حركة مقاومة طليعية في فلسطين، حاربت دون أن تشاركها حماس التي باتت تتحول إلى سلطة جديدة، وموازين النأي بالنّفس، وكأنّها دولة لها حسابات استراتيجية وليست حركة مقاومة. هذا الذي نتحدّث عنه قراءة الواقع لا التكهّنات. أتريدونها حربا مفتوحة أم لا؟ ماذا وراء غير الحرب المفتوحة سوى توازنات، فتفاهمات، فشروخ، ثم تطبيع، فحلّ الدولتين، وهو الحل الخدعة الذي افتعله الإنجليز لنقل الملف إلى هيئة الأمم، بينما تجاوزه الاحتلال نفسه، وأصبح معزوفة لكل الأنظمة العربية.

اختارت الجهاد المقاومة ورفضت السلطة وأوسلو وكل حلول غير التحرير، وهذا المبدأ هو خيار الشعب الفلسطيني الذي لا زال يكافح الاحتلال. أمّا ما يروج من أنّ إيران تدعم الجهاد، فإيران تدعم الجميع، وهي تقدم ما ترفض الدول العربية أن تقدمه للفصائل المقاومة، وما عدا سوريا لا توجد دولة عربية تقدم السلاح والذخيرة والصواريخ للمقاومة الفلسطينية، ومن لا يقدم للفصائل سلاحا للمقاومة عليه أن يخرس(خالص)، ويعرف حجمه الطبيعي، لأنّ هاهنا النار لا تمزح، ولا صوت يعلو على صوت الرصاص، وأنّ الحرب ليست مزادا علنيا.

هناك مقاومون يقاتلون في الميدان، وهناك شرفاء يدعمونهم ماديا ومعنويا، وهناك ضجيج ودكاكين تدخل في منطق تجار الحروب، حين تصبح ألسنة السماسرة أطول من ألسنة النّار، فاقرأ على مصير الأمّة السّلام.

وأنتم ترون كيف أنّ الاحتلال أدرك القوة التي توجعه، وهو وحده يقدم الدليل على ذلك، ونحن كمراقبين كنا على وشك أن نشكّ في أن الجهاد قوة بالقدر الذي تصفه بياناتها، على الرغم من حذرنا الشديد من الإعلام المُضلل.

لكن الاحتلال وخلال السنوات الأخيرة استهدف قادة ومواقع الجهاد، بدءا بسوريا ومكتب المزّة، مما يؤكد أنّ الجهاد ظلت وفيّة لسوريا، والوفاء لسوريا ليس وجهة نظر يجب تجاوزها بخفّة قلم، بل هي قصة مخطومة مرحولة، لأنها استهدفت اليد التي كانت ممدودة والحضن الذي وفّر الحماية. نعم، استهدف الاحتلال قادة الجهاد في مواقع مختلفة داخل الأراضي المحتلة وفي سوريا كما سبق واستهدف مُؤسسها في مالطا، وهكذا دواليك.

في هذه المعركة انتصرت المقاومة، وعنوانها حركة الجهاد التي لم تأخذ حظّها في الإعلام الذي هيمن عليه الإخوان. وحتى وإن كان هذا شكلا جديدا من الفخاخ لاختزال المقاومة في فصيل الجهاد، فمكر التاريخ له حساب آخر، أنّ الذين قدموا كلّ هذه التضحيات، يستحقون أن ينصفهم التّاريخ.

لا شكّ أيضا أنّ هناك خُططا لاختزال المقاومة في فصيل دون آخر، ولا شكّ أنّ هناك عملا جاريا لتفتيت الجبهة الفلسطينية الداخلية، وكل هذا يضع مسؤولية كبيرة على كاهل تلك الفصائل، بأن تتجاوز أجنداتها الأيديولوجية والتنظيمية الخاصة، وتجعل التحرير غاية مشتركة تشدّ عصب جبهة الكفاح الوطني، وعليه، فإذا لم تتدارك حماس هذه الثغرة، وتقدم بيانات وتوضيحات مقنعة للرأي العام، لتبديد مزاعم الاحتلال نفسه، فلن ينفع كل التأويلات التي تحاول إصلاح ما أفسده الدّهر.

https://anbaaexpress.ma/6fii6

إدريس هاني

باحث ومفكر مغربي، تنصب إهتماماته المعرفية في بحث قضايا الفكر العربي، أسئلة النهضة والإصلاح الديني .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى