آراءسياسة

مستقبل الفضاء المغاربي في ضوء الحرب الروسية الأوكراينية (8)

من هتلر إلى بوتين: الحرب العالمية الثالثة في غمار صدام الأنساق الجيوسياسية

العالم ما بعد الحرب الروسية الأوكراينية

من الواضح أن أوروبا في علاقتها بالحرب الروسية الأوكراينية، تعيش ارتدادات سلام وستڤاليا المترتب عن الحرب الأهلية الأوروبية (حرب الثلاثين عاما في الربع الثاني من القرن السابع عشر)، والذي خرجت من رحمه الدولة الأمة (Etat-Nation)، نهاية القرن السابع عشر، وهي حرب لم تساهم فيها روسيا التاريخية وبريطانيا.

ويمكن القول أن الثورتين الأمريكية والفرنسية نهاية القرن الثامن عشر، والحربين العالميتين في القرن العشرين، محطات مفصلية تعكس الصراع التراجيدي بين رؤية ورثة الدولة الوستفالية والرؤية المضادة. وبالتالي، فإن العالم ما بعد الحرب الروسية الأوكراينية سيكون مختلفا بشكل جذري عما قبل.

إن مفهوم “الأمة” (Nation) و”القومية” (Nationalisme)، مفهوم مفتاحي في بناء الدولة الحديثة، ويبقى مفهوما متلونا، ومفتوحا على النقاش والمعالجة لدى الأوساط الأكاديمية والسياسية. وقد حاولت في المقال السابق أن ألفت انتباه النخب المغاربية،  ولاسيما الأكاديميين الشباب في العلوم السياسية إلى الفهم الصحيح لمفهوم القومية (ناسيوناليزم)، وتمثلها بشكل سليم، وعدم الاكتفاء بالاجترار السطحي المتداول على نطاق واسع إعلاميا وأكاديميا. وفي هذا الإطار أنصح بقراءة أعمال هانز كوهن حول نشأة القوميات بشقيها الأيديولوجي والمدني، وللأسف تكاد أعماله تنعدم في التداول العلمي بالوسط العربي (ليس باللسان العربي فحسب، بل حتى لدى الناطقين باللسان الفرنسي في حدود علمي).

وهانز كوهن (Hans Kohn) هو فيلسوف ومؤرخ أمريكي، ولد في 15 سبتمبر 1891 في براغ في التشيك، وتوفي في 16 مارس 1971 في فيلادلفيا بأمريكا. ويعتبر كوهن رائدا في الدراسة الأكاديمية للقومية ويعتبر مرجعا و”سلطة” في هذا التخصص. أصدر عدة كتب حول القومية: القومية في الشرق، القومية، القومية والإمبريالية، القومية في الاتحاد السوفييتي، القومية الأفريقية، القومية الأمريكية، تاريخ القومية، فكرة القومية اليهودية، القومية والحرية، وتكاد كل كتبه تدور حول هذه المفهوم.

منذ حوالي عام، أي قبل انفجار الأزمة الروسية -الأوكراينية بشهور، كتبت مقالا مختصرا حول نشأة “الأمم المتحدة”، متسائلا عن الأسباب والخلفيات التي حملت المؤسسين على تسميتها بمنظمة للأمم (Nations) وليست للدول (States)، وقد تساءلت عن مستقبل هذه “المنظمة”، وحاجة المجتمع الأممي إلى تطويرها حتى تكون أكثر كفاءة واستجابة لانتظارات وتطلعات الشعوب. فهذه المنظمة التي أسس  مجلسها الأمني ثلاثة أعضاء من الغرب وعضوان من الشرق، تعاني من خلل في مؤسسيها ولاسيما الاتحاد السوفييتي والصين: فالاتحاد السوفييتي تفكك وانبثق عنه الاتحاد الروسي، وهذا الأخير بات أكثر عداء للغرب من الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أوقع مفكريه وقادته في تناقض منطقي بين محاكاة النمط الغربي ومعاداة بلدانه، وسقط بوتن في ورطة أوكراينا كما سقط هتلر مدفوعا بنزعته القومية العنصرية.

وكذلك الصين دخلت حربا أهلية عام 1949، وقد انقلب الشيوعيون على جمهورية الصين التي تقلص نفوذها وتراجعت حكومتها إلى جزيرة تايوان، بينما استولى الشيوعيين على أغلب التراب الصيني وأسسوا الصين الشعبية، التي، حلت عام 1971، في مجلس الأمن، محل جمهورية الصين (أي حكومة تايوان الحالية).

الصين، مثلها مثل روسيا، ودون أن تعد العدة الديمقراطية التي بموجبها يمكن أن تنضم إليها، طوعا، الكيانات التي ترى أنها جزء لا يتجزأ من ترابها، يبدو أنها سقطت في ورطة تايوان، ودائما من منطلق نزعة قومية قاصرة ومنحرفة.

فهناك فرق بين أن تنضم كيانات إلى بعضها بشكل طوعي، وبين أن يقوم الكيان الأقوى بضم كيان آخر بالعنف والإكراه. هنا يكمن ضعف دعاة القومية الأيديولوجية من حيث أنهم لا ينتهجون الطرق الدبلوماسية والسلمية، بل حتى بلدانهم ليست في المستوى الذي يغري بالانضمام، والأدهى أن وضعها السياسي الفاسد يشجع المغامرين على نشر ثقافة الانفصال في الجهات التي تتوفر على قابلية التمرد، كما هو حال البوليساريو في المغرب أو الماك في الجزائر.

وإذا تأملنا المقاصد الكبرى التي يتحرك، في إطارها، النسق الجيوسياسي الأممي، نجد مسألة السلام على لائحة هذه المقاصد، وكذلك التنمية والمناخ.. وبالموازاة نجد أخطر العوائق التي تعيق سيرورة تحقيق تلك المقاصد الدول الفاشلة كأوكار للفساد والانقلابات والإرهاب والهجرة غير النظامية والنزاعات طويلة الأمد والحروب الأهلية.

من هنا باتت قضية الأمن القومي محورية لدى الغرب، وبات العالم برمته فضاءه الحيوي. تمثل أفريقيا اليوم فضاء حيويا للقارات الأخرى: أوروبا، أمريكا الشمالية وآسيا (روسيا، الصين، إيران، تركيا وبعض البلدان الخليجية). ويتراءى الفضاء المغاربي يتلألأ بمساحته الشاسعة التي تمثل خمس مساحة أفريقيا، وبتنوع ثرواته ومناخاته، وبكثرة أزماته.

وإذا كانت الحرب العالمية الثانية انتهت بوصفها امتدادا للحرب العالمية الأولى، فإن الأولى لم تنته بعد من منطلق أن مخرجاتها لم تتحقق على الوجه المطلوب. واَلْحَرْبُ الْعالَمِيةُ الْأُولَى جمعت كل القوى العظمى الاقتصادية في تحالفين متعارضين: قوات الحلفاء (الوفاق الثلاثي وهم المملكة المتحدة وفرنسا والإمبراطوريا الروسية) ضد بلدان المركز (الإمبراطوريا الألمانية والإمبراطوريا النمساوية المجرية والإمبراطوريا العثمانية ومملكة بلغاريا). تم إعادة تنظيم هذه التحالفات وتوسيعها مع دخول المزيد من البلدان إلى الحرب: إيطاليا واليابان والولايات المتحدة انضموا إلى الحلفاء بينما انضمت الإمبراطوريا العثمانية ومملكة بلغاريا إلى بلدان المركز.

إنتهت الحرب بسقوط الإمبراطوريات الروسية والألمانية والنمساوية المجرية والعثمانية، وحلت محلها دول جديدة قائمة على القوميات. فرضت القوى الأربع بريطانيا وفرنسا والولايات المتحدة وإيطاليا شروطها في سلسلة من المعاهدات المتفق عليها في مؤتمر باريس للسلام عام 1919. كان الهدف من تشكيل عصبة الأمم هو منع حرب عالمية أخرى، ولكن لأسباب مختلفة فشلت في القيام بذلك. الشروط القاسية التي فرضتها معاهدة فرساي على ألمانيا ساهمت في صعود الحزب القومي (النازي) ونشوب الحرب العالمية الثانية.

إنتهت الحرب العالمية الثانية بغزو الحلفاء لألمانيا، وسيطرة الاتحاد السوفييتي على برلين والاستسلام غير المشروط من قبل ألمانيا في 8 مايو عام 1945. وغيرت الفضاء الجيوسياسي والعسكري والبنية الاجتماعية في العالم، كما أدت إلى إنشاء الأمم المتحدة لتعزيز التعاون الأممي ومنع الصراعات في المستقبل، وأصبحت البلدان المنتصرة في الحرب: الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي والصين والمملكة المتحدة وفرنسا أعضاء دائمين في مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، فيم برزت الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي كقطبين مهيمنين على الساحة الأممية، وانحسر نفوذ القوى الأوروبية، وهذا ما مهد الطريق للحرب الباردة التي انتهت بتفكك الاتحاد السوفييتي، أما البلدان الأوروبية الكبرى فقد تضاءل نفوذها، حيث بدأت حركات الاستقلال في آسيا وإفريقيا. اتجهت الدول التي تضررت فيها الصناعة إلى إصلاح وضعها الاقتصادي، أما على الصعيد السياسي، تحديداً في أوروبا فقد بدأت مرحلة البناء الاتحادي بحثا عن سياسة تضمن الأمن والسلام والتنمية للبلدان الأوروبية.

وإذا كانت ألمانيا واليابان خرجتا من الحرب مُدمرتين، فقد خرجتا أيضا من ضيق القومية الأيديولوجية إلى رحابة القومية المدنية، وأصبحتا في وقت وجيز مثالا في الازدهار والتطور.

مع الاجتياح الروسي لأوكراينا، انفجر المكبوت الصيني تجاه تايوان، وقد يعود الصراع بين أذربيجان وأرمينيا وبين باكستان والهند وبين تركيا واليونان وبين إيران وإسرائيل وقد تعرف قضية الأكراد منحى تصاعديا في كل من سوريا والعراق وتركيا وسوريا…

وبصرف النظر عن المآل الذي ستؤول إليه الحرب الروسية الأوكراينية، فإن هذه الحرب قد أعلنت عن ميلاد “عالم جديد” بدأت ملامحه تتشكل في أروقة الأمم المتحدة، وعلى أرض الواقع. وأن عددا من الملفات التي مازالت قيد التداول منذ الحرب العالمية الأولى ستطوى بشكل نهائي أو ستعرف تحولا وظيفيا تجاوبا مع حدة الأزمات التي ستتولد عن سوء تقدير أصحاب القرار في هذا البلد أو ذاك.

في المقال القادم والأخير سنرى أي مآل سيؤول إليه اتحاد المغرب العربي في ضوء المتغيرات الأممية بمظهرها العنيف.

https://anbaaexpress.ma/loiw8

سعيد هادف

شاعر جزائري وباحث في الشأن المغاربي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى